إذا كان الشر الإنساني حافزه الطين، أو ثِقَل الجبلَّة البرَّانيَّة وحب الشهوات المفطور فيها؛ فإن الخير الإنساني حافزه الطهارة الجوانيَّة الفطريَّة، أي نفخة
الروح الإلهيَّة وحب العروج إلى الله والتخلُّق بأخلاق الأصل الرباني. ووجود ثنائيَّة الخير والشر في الإنسان تجلٍّ لقُدرته على الاختيار، التي فُضِّلَ بها على سائر المخلوقات، إذ هُما "مادَّة" التكليف الرباني.
ففي الميل لأيهما، يتجلَّى مدى غلبة نوازع الإنسان عليه: الروح أم الطين. وفي هذا تختلف النسبة من شخص إلى آخر. وتغليب نوازع الروح لا يعني الرهبنة بالضرورة؛ بل يعني تنظيم الشهوات المفطورة بإخضاع تلبيتها للمعايير والقيم الإلهية. كما أن غلبة النوازع الطينية لا تشترِطُ بالضرورة ارتكاب المحرَّم؛ بل قد يكون مصدره ثِقَلٌ في النفس مرجعه الإفراط والإسراف في ما أُحِلَّ من الشهوة.
إن درجة امتزاج الروح والبدن، ومدى غلَبَة كل شقٍّ منهما على الآخر في المواقف المختلفة؛ هو الذي يُشكِّل الشخصيَّة الفرديَّة، ويميِّز الإنسان عن أخيه الإنسان كما تتميز بصمته الجينية. إن "ماديَّة" الإنسان لا تعني بالضرورة إنكاره للألوهية، كما لا تعني روحانيته تسليمه الكامل لحاكميتها. بل قد تعني الأولى شراهة الغريزة المفطورة مع وجود التسليم، وقد تتجسَّد الثانية في النفور من نوازع الغريزة الفطريَّة بغير إقبال على الله!
فإذا انتقلنا للقدر، وجدنا أننا نواجه أكثر المشكلات التباسا واستعصاء لا على العقل المسلم فحسب؛ بل على العقل الإنساني عموما، ليؤدي سوء فهم القدر، وسوء التعامُل معه؛ إلى عوارض إلحاديَّة تتلبَّس بلبوس الدين أحيانا، وذلك كما في مقولات الجبريَّة والقدريَّة مثلا. وأكبر إشكاليَّة في فهم القدر هي التعاطي الحدِّي مع المقدور بتأثير التجربة الشخصيَّة (إنسانيّا واجتماعيّا)؛ باعتبار الوجود والأحداث إمَّا جبرا كاملا لا خيار لنا فيه، أو نفيا للقدرة والعلم الإلهي وما يَجُرَّا إليه من تعطيل.
وفي هذا سنجد النزعة الجبريَّة أكثر شيوعا بطبيعة الحال، خصوصا في العصر الحديث، ليس بسبب تاريخها أو نشأتها؛ بل لأنها تلبّي شهوة القعود الإنساني عن مكابدة الأقدار ومدافعة النوازل، بدعوى استحالة تغييرها وأن "الاستسلام" لها من
الإيمان. إن جريان القدر لا هو بالجبر المطلق، ولا بالاختيار المطلق، وإنما هو في منزلة متوسِّطة. وإذا كان الله عزَّ وجل قد تعبَّد بني آدم بمكابدة أقداره، بل والفرار من أقدار الله إلى أقدار الله، استيفاء للتكليف ورجاء رحمته سبحانه؛ فإنه قد تعبَّدهم كذلك بـ"التسليم" الإرادي الواعي للمخالفة التي قد يقضي به القدر لأهوائهم، ولو كانت النتيجة نقيضا لمكابداتهم على طول الخط. وهذا هو جوهر الإيمان: التسليم بما وقع.
إن جوهر الإيمان هو مكابدة الأقدار والسعي لمدافعتها وتغييرها ما وَسِعَتْكَ الطاقة، مع عدم الاعتماد على عملك ولا على فهمك في تقييم النتيجة، بل على رحمته وفضله سبحانه، على المخبوء من الغيب. فإذا أثمرت المدافعة ما تهوى فهو الفضل منه، وإن أثمرت غير ذلك فهي رحمته عز وجل وإن خَفِيَت حقيقتها. إن الحل الوحيد لإشكال القدر هو دوام الكبد ابتغاء مرضاة الله.
ويعاني أكثر دراويش البحث عن المعنى من سوء التعاطي مع هاتين المسألتين؛ فينحدر بهم الحال لـ"مكابدة"شبه عبثيَّة. وما ذلك إلا لأنهم (بتأثير الثقافة الغربيَّة) يبحثون عن المعنى على الطريقة المسيحيَّة، وذلك كما يؤمن المسيحي بـ"يسوع" مخلِّصا؛ فلا يُضيره بعدها ما اجترح من الإثم! ومن ثمَّ؛ يصير القدر "إلها" لا سبيل لمدافعته، مثله في روع هؤلاء مثل الشر الغالب على مسلكيَّات "الإنسان" الحديث وجشعه.
ويؤدي هذا النزوع الوثني، لتجسيد الألوهيَّة؛ إلى حلولها في شخص "القائد الملهم"أو "الزعيم البطل" أو "المهدي المنتظر"، البشر- الإله الذي سيقود المعركة الأخيرة مع الجور؛ فيُمحى على يديه "الشر" و"الكفر" ويُطوَّع القدر لتنعُّم "المؤمنين"، إذ يقود المخلِّص الموهوم قطيعهم إلى الفردوس الأرضي. فردوس العدل الأبدي الذي يتوقَّف به التاريخ.
هذا النزوع الوثني هو الذي يفسِّرُ لنا لم يكفر الشاب من هؤلاء بكل شيء إن انشغل عنه معلمه أو قلاه شيخه أو كشف له الزمان بعض ضعف قائده وبشريَّته، بل وإخلاده إلى الأرض؛ إذ كان الواحد منهم يبحث عن صنم معصوم يُريحه من عناء تقلُّب الأقدار، ومن عناء الإيمان بالغيب، يُريحه من عناء الإيمان بما حجب عنَّا رحمة بنا، ويريحه من المكابدة الشخصية ابتغاء مرضاة الله؛ أو بعبارة أخرى: يرفع عنه التكليف ضمنا، إذ لا تكليف ولا ألم ولا مكابدة في الفردوس الأرضي الموهوم.
إن هذا النزوع للتجسيد- التقديس (تجسيد الإله في بطل بشري، وتقديس البشري بإسباغ صفات الألوهية عليه) هو نزوع بشري فطري؛ فقد قُدِّسَ الأنبياء والأولياء من قبل، وصحابة محمد وحواريي عيسى عليهم السلام، بل وعُبِدَ المسيح اطرادا لذلك التقديس. وقد انحدر قوم موسى فطلبوا صنما حجريّا، وهم في دفء معيَّة الله وكنفه؛ بعد إذ أنجاهم من فرعون: "وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم؛ قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة".
لقد ظنوا بموسى (عليه السلام) الكهانة، والقدرة على اختراع الآلهة الوثنية وسدانتها ما دام الناموس قد خُرِقَ له؛ إذ كان هذا الخَرْقُ في عيونهم شيئا من قدرات الكليم موسى، لا قدرة من أرسله عز وجل! إن الإنسان الذي يتبنَّى هذا التصوّر يريد إلها على مقاسه، لذا؛ فإن الإله الذي يخيِّب رجاءه يسقطه من عليائه، ويعتبره مُتجبِّرا متوحِّشا يستعذِبُ ألم "عبيده"! إن الخطورة ليست في أن مثل هذا المسكين لا يعرف إلا الإله المجسَّد في الصورة التي ملأت خياله فحسب، ولا في توهُّمه بأن "طباع" كل الآلهة واحدة؛ بل الأخطر على الإطلاق هو أنه "يسحب" إلهه الموهوم إلى داخل التاريخ، وهو بذلك يُصِرُّ على نهاية التاريخ وتوقُّف الكبد؛ سواء قتل إلهه فتدنَّس التاريخ وانتهى بالفوضى، أو تجسَّد الإله في القائد فتقدَّس التاريخ وانتهى بالطوبيا، نظريّا على الأقل.
لكن ما من شيء يضفي المعنى على الحياة إلا التفاؤل غير المشروط والأمل غير المحدود. وليس ذلك من السذاجة وقصر النظر في شيء، بل هو قرين اليقين في مالك الملك وسعة رحمته وعظيم لطفه، وهو أثرٌ من آثار صدق المكابدة (=الحركة) داخل التاريخ ودوامها. هذه المكابدة التي لا تولد إلا من رحم إخلاص الوجه للمولى سبحانه، ولا تكون أبدا ثمرة لـ"إيمان" يُختبَرُ به الإله و"تُقاس" به أفعاله؛ إذ إن أهم شروط الإيمان الإذعان للألوهيَّة، لا السعي لاختبار الذات العليَّة، وما قد تفيئه على العبد (مما يهوى) لينبني به إيمانه!
وإذا كان الأمل يطوي ألم الانتظار، فإن التفاؤل يجعل من الانتظار عملا دائبا في طاعة الله رجاء رحمته ولطفه في الدنيا والآخرة. وقد لطف الله بيعقوب عليه السلام بعد زمان طويل، وردَّ إليه بصره وأذهب حزنه، ورد إليه حبيبه وفلذة كبده ووارث نبوَّته. وذلك كما ردَّ سبحانه على أيوب عليه السلام أفضل مما سُلِبَهُ من صحَّةٍ وأهل ومال وولد. فاللهم اجعل لنا نصيبا من لُطفك ورحمتك بعبديك أيوب وإسرائيل عليهما السلام، وارزقنا شكر داود وآله عليهم السلام.