هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
تعرف مختلف المدن المغربية خلال العطلة الصيفية حيوية مختلفة عن باقي فصول السنة، ليس لأجواء الحرارة المفرطة التي يتميز به المناخ بشكل عام، ولا لما يحتويه المغرب من مناطق سياحية، جعلته قبلة لتصوير عدد من الأفلام السينمائية العالمية، ولا لأن غالبية أبنائه المهاجرين يعودون إلى ديارهم في هذه الفترة، ولكن الأهم في صيف المغرب، هو الأنشطة الثقافية والفنية المتنوعة التي تعرفها مختلف المؤسسات الثقافية، التي تنطلق من النخبة إلى العامة.
وفضلا عن القنوات التلفزية التي تواكب أجواء الصيف والعطلة ببرامج يتم إعدادها خصيصا لهذه المناسبة، فإن باقي المؤسسات الثقافية تتنافس، بل وتتسابق في تقديم خدماتها للجمهور المحلي منه والعالمي، مراعية معايير العالمية والانفتاح، دون أن تفقد خصوصيتها المغربية.
الكاتب والباحث المغربي بلال التليدي، يرصد في التقرير التالي، الذي أعده خصيصا لـ "عربي21"، واحدا من أهم الواجهات الفنية التي ترسخت في المغرب خلال العقدين الماضيين، وهو مهرجان "موازين إيقاعات العالم"، لجهة جرأته على استقدام فنانين من مرجعيات ثقافية وحضارية متعددة، بعضها يتصادم مع الخصوصيات الثقافية للمغرب وهويته العربية الإسلامية.
يستقطب أزيد من 2.5 مليون متابع
يتجدد الجدل كل سنة حول مهرجان "موازين إيقاعات العالم" الذي تنظمه جمعية مغرب الثقافات صيف كل سنة بمدينة الرباط.
رئيس مهرجان موازين، السيد عبد السلام أحيزون، المدير العام لشركة اتصالات المغرب، اعتبر في كلمته بمناسبة افتتاح النسخة 18 للمهرجان، أن "موازين إيقاعات العالم"، يستقطب أزيد من مليونين ونصف شخص، على امتداد تسعة أيام من برمجة فنية على مستوى عال من الرقي الفني، ويتم عرض الحفلات المبرمجة في قنوات عالمية ويتابعها العشرات من الملايين من المشاهدين. وأن ذلك يعطي للساحة الفنية المغربية واجهة عالمية، تعكس تنوع ثقافات العالم وغناها، وتنقل قيم التنوع والتشارك والتسامح، ويعتبر أحيزون أن هذا في حد ذاته يشكل إنجازا مهما للمهرجان. ويعتبر أيضا أن قوة المهرجان تتميز في استقطابه طيلة ثماني عشرة سنة ألمع الفنانين من جميع القارات من مختلف الأجناس الغنائية، وأن هذا يعطي صيتا عالميا للمهرجان.
المثير في الانتباه أن هذا المهرجان الذي يسعى منظموه أن يجعلوا منه مهرجانا عالميا يستقطب ألمع الفنانين في العالم، تنوعت الانتقادات التي تستهدفه، بين من ينتقد وجوده والجدوى منه بالأساس، ومن يحتفظ بانتقادات جزئية تتعلق بشكل التدبير، وبعض الأساليب التي تكرس الميز أو عدم المساواة في التعامل مع الجمعيات الثقافية التي تسهر على تنظيم مثل هذه الجمعيات. بل إن هذه الانتقادات أخذت في الآونة الأخيرة أشكالا مختلفة، إذ لم تعد مقتصرة فقط على السياسيين أو نشطاء المجتمع المدني أو حتى الفاعلين في المجال الثقافي والفني، وإنما امتدت لتشمل أيضا فنانين من مستويات فنية عالية، لم يخفوا انتقاداتهم لهذا المهرجان، بل اتهامهم لمنظميه بتبذير الأموال على الفنانين الأجانب وتهميش الفنان المغربي.
الإسلاميون كانوا سباقين في نقده
في البدء، كانت مجمل الانتقادات تأتي من الإسلاميين، وكانت طبيعتها أخلاقية، ترتبط بالجو العام الذي ينشئه هذا المهرجان، وأجواء العربدة والسكر، والأجواء اللاأخلاقية التي تسود في بعض الحفلات، فضلا عن الميوعة واستهداف الرصيد القيمي من خلال أعمال فنية، أو استقطاب فنانين شواذ، أو فنانين يجرؤون على تقديم وصلات غنائية مصحوبة بحركات إيحائية جنسية، كما حدث مع الفنان الذي كشف عن عورته أثناء حفل غنائي.
ثم ما لبث المعارضون لمهرجان موازين، أن طوروا خطابهم النقدي، بشكل أزعج المنظمين، واضطرهم للتفاعل كل سنة مع هذه الانتقادات ومحاولة الجواب عنها.
دعم إعلامي وأمني
ثم اتجه النقد مرة ثانية إلى التغطية الإعلامية للحفلات الغنائية، والتي تبث بشكل مباشر خارج مقتضيات القانون في القنوات العمومية، الذي تنظمه دفاتر التحملات، وتسهر الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري على احترامها، إذ تنوع النقد من هذه الزاوية إلى جهتين، الأولى، تناقش قانونية هذا البث وكيف تم تكييفه، والثانية، تناقش قاعدة المساواة ومبدأ تكافؤ الفرص في منح المهرجانات الحق في البث المباشر في كل القنوات، ولماذا تحظى جمعية واحدة بهذا الحق، في حين لا تحظى الجمعيات الأخرى به، وما المعايير المعتمدة التي جعلت جمعية "مغرب الثقافات" دون غيرها تحظى بهذا البث الحصري لجميع الحفلات الغنائية في مختلف قنوات القطب العمومي.
النقطة الثالثة التي فجرتها الانتقادات، هي ما يرتبط بالتغطية الأمنية، إذ يحظى هذا المهرجان دون غيره، بإعداد أمني قبلي كثيف، يصل في بعض الأحيان إلى تعبئة أزيد من 5000 رجل أمن، لتوفير الظروف الأمنية الملائمة لنجاح المهرجان، وهي كلفة عمومية، فضلا عن عدم المساواة في التعامل مع الجمعيات الأخرى المنظمة في هذا الشأن، فإن جمعية "مغرب الثقافات" تكلف الدولة موارد مالية ضخمة بهذه التعبئة، التي تستمر لأكثر من عشرة أيام، وتؤثر على التوازن في انتشار رجال الأمن في مناطق ومناشط متعددة.
النقطة الرابعة، التي أثارتها الانتقادات المبكرة، هي تزامن المهرجان مع شهر مضان أو مع أجواء الامتحانات، وقد عملت اللجنة المنظمة على احتواء هذا الانتقاد، وبرمجت في السنة الأخيرة النسخة الثامنة عشرة بعيدا عن شهر رمضان، وأيضا بعد انصرام امتحانات الباكالوريا على الأقل في دورتها العادية.
النقطة الخامسة التي فجرتها الانتقادات، ترتبط أيضا بالجانب الأمني، والتداعيات التي تسفر عنها الحفلات الغنائية، إذ تتحول الشوارع ليلا إلى منصة لحوادث خطيرة، مثل الاعتداء على الأشخاص بالسلاح الأبيض والسرقة والاغتصاب، فضلا عن الاعتداء على الممتلكات، وذلك بسبب تكثف ظاهرة تناول المخدرات والسكر بين الشباب الذين يحضرون لهذه المهرجانات.
المبرر الاقتصادي
منظمو المهرجان، يحاولون كل سنة التفاعل مع هذه الانتقادات، ومحاولة التخفيف من وطأتها، والتأكيد بدلا عن ذلك على الدور الاقتصادي الذي يقوم به، فالمدير الفني للمهرجان عزيز الداكي، ركز في الترويج للدورة الرابعة عشرة للمهرجان على الحيوية الاقتصادية التي ينتجها المهرجان، وأشار إلى أن التظاهرة تجلب سياحا يتوافدون من الخارج لمتابعة الحفلات، وبعضهم يأتي من بعيد (أستراليا مثلا)، لانتهاز فرصة نادرة للاستمتاع بفنانين ذوي صيت عالمي، وأن انعكاسات المهرجان على قطاع الفندقة مهم، إذ يحقق نسبة امتلاء كامل، فضلا عن انتعاش الصناعة التقليدية وحركة النقل، مما يصب في تحقيق رقم أعمال مهم للمدينة.
ومع وعده منذ سنة 2015، بعزم الجمعية على إطلاق دراسة لتقدير الحجم المادي الدقيق للحركية الاقتصادية الناجمة عن موازين، فإن الدراسة إلى اليوم لم تخرج لحيز الوجود، وأغلب الظن أن الوعد بذلك كان في سياق تفاعلي للرد على الانتقادات الكثيرة التي توجهت للمهرجان، وحاول المنظمون صرف الأنظار عنها بالإشارة إلى الدور الاقتصادي للمهرجان.
رسالة المهرجان
منسق الحملة الوطنية للمطالبة بإلغاء مهرجان موازين، عادل الصغير، يحمل رؤية أخرى في نقد المهرجان، فهو يهتم بدرجة أولى برسالة المهرجان، وكونه يكرس صورة مخالفة للواقع، ويحاول صرف الأنظار عن المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي يتخبط فيها المغرب "
في السنوات الأخيرة، تطورت عملية النقد، وصار عدد كبير من الشباب والنخب، ينتقدون رسالة المهرجان، ويعلنونها بقوة، وأحيانا بتعبيرات فنية معبرة، عن أنهم يريدون "التشغيل، وليس التطبيل" وأنه بدلا من صرف الأموال الضخمة على مهرجان موازين، من قبل مختلف المقاولات المغربية، كان الأولى توجيهها إلى تشغيل الشباب، وإنقاذهم من البطالة، فالبطن الجائعة لا تعرف كيف تستمتع بالغناء.
الفنانة المغربية الشهيرة، لطيفة رأفت، انضمت السنة الماضية لحملة مقاطعي مهرجان موازين، وانتقدت بقوة التمييز الذي يطال الفنانين المغاربة، وأكدت أن الأموال الخيالية التي تنمح للأجانب ثمة أوجه صرف كثيرة يمكن أن تزجه إليها، وأنها لا يمكن أن تشارك فيه إن استمر على هذه الحال.
السنة الماضية، وفي خضم الحركات الاحتجاجية التي عرفها المغرب، والاعتقالات التي طالت معتقلي الحسيمة وجرادة، وبعد أن نجحت حملة مقاطعة بعض المنتوجات الاقتصادية، انطلقت حملة مقاطعة مهرجان موازين تحت شعار"خليه يغني بوحدو" أي "اتركه يغني لوحده"، ألجأت منظمي المهرجان في سابقة هي الأولى من نوعها إلى الإعلان عن تنظيم عروض استباقية للانطلاقة الرسمية لموازين بالمجان لثلاثة أيام متتالية، وذلك لجس نبض المغاربة واختبار مدى القدرة على اختراق المقاطعة وإنجاح فعالية المهرجان.
وزير الدولة، مصطفى الرميد، القيادي في العدالة والتنمية، حاول التفاعل مع موجة الانتقادات التي توجه إلى مهرجان موازين لاسيما ما يتعلق بتبذير الأموال فيها، وتأكيد النشطاء على شبكات التواصل الاجتماعي على أن ما ينفق في مهرجان موازين من شأنه بناء مستشفيات جامعية تساهم في التخفيف من أزمة الصحة في المغرب. وبقدر ملاحظته على هؤلاء المبالغة في إطلاق الأرقام المالية، أكد في المقابل أنه رغم تأكيده موقفه المبدئي الداعم للمهرجانات إلا أنه ضد الصورة التي تنظم بها موازين من حيث “المال الذي يُنفق، وبعض الفقرات في المهرجان".
مهرجان موازين تجسيد لثقافة الفرجة أم تكريس لتشظي الهوية؟
المثير في هذا الجدل، هو الاختلاف الحاد بين رؤية منظميه وبين تمثلات نشطاء الفضاء الافتراضي، فبينما يرى المنظمون أنه فرصة كبيرة لتكريس ثقافة الفرجة والفرح، وتجسيد لقيم التسامح، يرى النشطاء الفايسبوكيون أن للفرح مقومات، وأنه لا يمكن أن تطلب من الجائع أو المحروم أو المقصي من مؤشرات التنمية ممن ينتمي إلى المناطق النائية أن يفرح وليس في جيبه درهم واحد.
صورة من التناقض الحاد لا تظهر فقط على هذا المستوى، وإنما تتعداه للواجهة الثقافية في الموضوع، وبشكل خاص البعد القيمي والرمزي، فالمهرجان يحمل رؤية قيمية شديدة الاغتراب عن واقع الثقافة المغربية فضلا عن محددات الثقافة العربية، مما يجعل المواطن العربي وهو يشاهد فعاليات المهرجان عبر القنوات المغربية في أشد الحيرة من نفسه، يطرح سؤال الانتماء وما إذا كانت القناة التي تبث المهرجان تنتمي للفضاء العربي أم تغربت بشكل كامل واختارت هوية أخرى غير الهوية العربية الإسلامية.
المهرجانات كآلية لإضعاف المعارضة السياسية؟
يزداد التناقض حدة، عندما يتم بحث خلفيات هذه المهرجانات، والبواعث السياسية التي تحركها، وحجم العناد في تمريرها رغم ظهور مؤشرات كثيرة على رفض عام لها، ففي السنة الماضية، كاد مهرجان موازين أن يخسر كل صداه الجماهيري بسبب فعل المقاطعة، ومع ذلك كان ثمة عناد ومقاومة كبيرة من الدوائر التي تقوم على المهرجان من أجل تمريره وبحث فرص اختراق المقاطعة، مما أعطى إشارة بأن هذا المهرجان ليس فرصة للفرجة أو تجسيد التنوع الثقافي، بقدر ما هو آلية من آليات الضبط السياسي، وإعادة إنتاج القيم التي تساهم في تأبيد واقع الميوعة السياسية، وقتل المعنى في السياسة.
فحسب بعض الدراسات، فثقافة المهرجانات التي نشطت بعد الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001، فقد كتب الأستاذ مارك ليفين سنة 2008، في موقع نيوز ويك واشنطن بوست مقالا حول العلاقة المفترضة بين سياسة المهرجانات وبين المعارضة السياسية في الوطن العربي، وكشف سياسة الحكومات العربية في التسامح مع الألوان الغنائية الجديدة وتشجيعها لإقامة مهرجانات تستضيفهم ومراهنتها عليهم لمواجهة الحركة الإسلامية، وأكد المقال أن ظاهرة المهرجانات التي تحركت في السنوات الأخيرة في المغرب ليست اجتهادا محليا، وإنما هي جزء من ظاهرة تشمل دولا كثيرة من العالم الإسلامي تمتد من تركيا شرقا إلى المغرب غربا، مع التركيز على الدول التي تعرف حركة إسلامية معتدلة ومتغلغة في صفوف الشباب (مصر والمغرب)، وأن التحول الذي حدث على صعيد موقف الحكومات العربية من ظاهرة شباب الألوان الموسيقية الجديدة من المناهضة إلى التسامح ثم الدعم والتشجيع يكشف أن الأمر يتعدى كونه اختيارا محليا، وإنما هو جزء من الاستجابة للضغوط الدولية التي تضغط باسم حرية التعبير والإبداع في اتجاه التمكين لهذه الأشكال التعبيرية، والملفت في الأمر أن الدراسة، أشارت في هذا الاتجاه إلى دور الشركات المتعددة الجنسيات التي دخلت هي الأخرى على الخط، وصارت تمثل الداعم الأكبر لهذه الظاهرة دون أن يوضح طبيعة المصالح التي تتحقق من هذا الدعم.