هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
في الجزء الثاني والأخير من التقرير الخاص، الذي تنشره "عربي21"، عن "جمعية العلماء المسلمين" الجزائرية، واقعها وعلاقتها بالحراك الشعبي الذي انطلق في الجزائر منذ 18 شباط (فبراير) الماضي، يدافع قادة الجمعية وأنصارها عن دورهم في الحفاظ على الإسلام الوسطي المعتدل في الجزائر، بينما يعتقد مراقبون محايدون أن الجمعية تحولت من رائدة في مجال الفكر والفعل الحضاري إلى مجرد جمعية خيرية معزولة عن قضايا الناس وهمومهم.
مشروع يتجدد
أظهر حراك الشارع الجزائري، أن وعيا مختلفا وواعدا يسكن ملايين الجزائريين، وعلى رأسهم الشباب والطلبة، بأن مشروع جمعية العلماء المسلمين الذي كان قبل أكثر من ثمانية عقود، قد رجع اليوم بعد كل هذه السنين هو الأصل في ثورة شعب يبحث عن حريته وكرامته، ليس فقط من خلال رفع صور وشعارات الشيخ ابن باديس "شعب الجزائر مسلم.. وإلى العروبة ينتسب"، وإنما في ايمان الجماهير بما بات يسمى "المشروع النوفمبري الباديسي"، وهو المشروع الذي يتماهى فيه الشعب مع مؤسسته العسكرية، وهذا هو الشيء المثير للإعجاب والأمل، ذلك أن المؤسسة العسكرية التي كانت في التسعينيات بعقيدة استئصالية، تحارب الإسلام والمسلمين، صارت اليوم تتحدث في أدبياتها عن المشروع النوفمبري الباديسي، بصراحة وكل وضوح في مواجهة المشروع الباريسي.
اليوم صار الاصطفاف في الجزائر، ليس بين علمانيين وإسلاميين كما هو الحال في تونس والسودان، ولا هو بين العسكر والإخوان كما هو في مصر وليبيا، ولا هو بين السنة والشيعة كما هو في العراق وسوريا واليمن، إنما هو بين مشروع وطني إسلامي (نوفمبري باديسي)، ومشروع فيدرالي أقلاوي (صومامي باريسي)، بعد أن وجدت الغالبية العظمى من الشعب نفسها، مضطرة أن تخرج من تحت عباءة التصنيفات الكلاسيكية الجاهزة (سلفيين، إخوان..)، إلى التصنيف الحضاري الأشمل، الذي يجد فيه الإسلامي نفسه في نفس الخندق مع الوطني الحقيقي.. وهنا بالذات تكمن عبقرية الشعب الجزائري، في استحضار تاريخه ورموزه وعلمائه، لتكريمهم من جهة، والسير على منهاجهم الهادي من جهة أخرى.
الدكتور قسوم: هناك ضغوط تمارس ضد الجمعية
أكد رئيس جمعية العلماء المسلمين عبد الرزاق قسوم لـ "عربي21"، أن جمعية العلماء المسلمين قد سبقت الحراك في التنبيه إلى الغليان الشعبي، عبر مختلف التدخلات والافتتاحيات التي كانت تنشرها عبر صحيفة "البصائر".
وقال: "نبهنا المسؤولين والقائمين على شؤون البلد إلى الغليان السائد في أوساط الفئات الاجتماعية المختلفة، وأن الأمر يوشك أن يتحول إلى فيضان إذا لم يتم التكفل به".
وأضاف: "كنا سباقين إلى القيام بواجبنا نحو الوطن، ضد الفساد والمفسدين، وضد حملات التلوث العقلي والاجتماعي عبر كتاباتنا التي ما تزال شاهدة علينا"، مؤكدا أن الجمعية تساند مطالب الحراك الشعبي لعودة السلطة إلى الشعب.
وبرر الدكتور قسوم الوضعية التي تعيشها الجمعية حاليا، بوجود ضغوط تمارس ضد الجمعية عبر حرمانها من الحصول على مقر لائق، وعلى مساعدات مالية تسند ميزانية الجمعية، إضافة إلى وجود تعتيم إعلامي حول نشاطات الجمعية، مستبشرا في الأخير بحراك الشعب الذي سيحرر الجمعية وقال: "إن قوتنا هي من قوة الوطن، كما أننا نستمد قوتنا من شعبنا وتطلعاته"، على حد تعبيره.
العمل الثقافي الدعوي على حساب السياسي
واعترف التهامي ماجوري أحد رجالات الجمعية حاليا في حديث لـ "عربي 21"، أن جمعية العلماء تقوم بجهد المقل كما يقال، رغم أن الانطلاقة العملية كانت ابتداء من سنة 2000، حين ركزت الجمعية في البداية على الانتشار الأفقي، وتقوية الهيكلة على المستوى الوطني، بحيث عمت جميع الولايات ومعظم بلدياتها، وهي في طريقها إلى تأسيس المدارس النموذجية؛ لأن التعليم هو العمود الفقري للمجتمع ومؤسسات الدولة، مشيرا إلى أن أول مدرسة رسمية معتمدة ستفتح في الموسم المقبل 2019/2020، في ولاية البرج،.
وأضاف مجوري: "إن جهود الجمعية المبذولة ليست كلها سياسية محضة، فهي احتجاجية مطلبية وتوعوية...، وأن أعمالها في عمومها في اتجاه العمل الثقافي الدعوي العام، وترى أنه من أوجب واجباتها تكون فيما انشغل عنه المجتمع ومؤسساته، في مجالات التربية والتعليم والتثقيف والدعوة إلى الأخلاق الفاضلة، ولا تولي كبير اهتمام للجانب السياسي بأشكاله الحزبية، وإنما تقتصر فيه على الحضور في المنعرجات السياسية الأساسية، والانحرافات السياسية الخطيرة، مثل التزوير في الانتخابات، الأخطار التي تهدد المجتمع، بسبب الاستبداد السياسي والفساد المالي، وقد شاركت الجمعية في كل ذلك بما تراه مناسبا، في لقاءات المعارضة، وكذاك استجابت لدعوات السلطة في مناسبات دعيت إليها، وأبدت رأيها فيما عرض عليها، وقاطعت مناسبات أخرى لم تقتنع بدجوى المشاركة فيها".
وتابع: "رغم أن ممارسات الجمعية لا يغلب عليها الطابع السياسي الحزبي، يضيف التهامي ماجوري، فإن افتتاحيات جريدة البصائر ـ لسان حال الجمعية ـ التي يكتبها رئيس الجمعية كل أسبوع، لم تخل يوما من موقف سياسي في شأن آني أو استراتيجي من شؤون البلاد، وتحضرني هنا فقرة من افتتاحية البصائر التي صدرت يوم الاثنين 18 شباط (فبراير) أي قبل انطلاق حراك 22 شباط (فبراير) الماضي، يقول فيها (احذروا من أن يتحول هذا الغضب الشعبي إلى فيضان..)، وقد نقلت وسائل الإعلام هذه الفقرة على أنها جاء استجابة للحراك، وهو في الواقع صدر قبل انطلاق الحراك بأربعة أيام."
نشاط محتشم وغياب غير مفهوم
في مقابل التبريرات التي قدمها رجال الجمعية حول الظروف التي تحيط بها، فإن الكثير من المراقبين في الجزائر يذهبون مهبا حديا في لوم الجمعية على غيابها الفادح في صناعة المشهد الجزائري، ومن ذلك ما أكده الكاتب والإعلامي الدكتور أحمد بلخن لـ "عربي21"، والذي أكد بداية ضرورة التفريق بين موقف جمعية العلماء كهيئة وقيادة وبين حركية نشطائها في القاعدة، مشيرا إلى أن جمعية العلماء ـ كهيئة - لم تقم بأي دور لا قبل الحراك ولا خلاله، وأن حضورها الإعلامي كان معدوما تماما.
وقال: "رغم أهمية تسجيل الموقف في هذه المحطات التاريخية، أغلب الجمعيات والأحزاب التي لا رائحة لها سكنت في البلاطوهات التلفزيونية ماعدا جمعية العلماء، في الوقت الذي كان يجب أن يكون موقفها صارخا وقويا وتاريخيا خلال الحراك، مع الأسف لم تقدم أي مبادرة باستثناء بيان أو إثنين محتشمين جدا، حتى صوتها الوحيد (البصائر) مازال مختنقا ولا أحد يسمعه، ربما لأن هيئة الجمعية حاليا تكاد تكون مختزلة في شخص واحد".
وأضاف الدكتور بلخن: "من الواضح أنه منذ رحيل شيبان رحمه الله، أي قبل الحراك، تميع جهد الجمعية في نشاطات اجتماعية بسيطة كختان الأطفال ودروس الدعم وقفة رمضان، رغم أن دورها أرقى وأعظم، اطلعت مرة على التقرير الأدبي والمالي لنشاطاتها المقدم في الجمعية العامة فصدمت، لأنه محصور تقريبا في أجور الموظفات وبعض الخدمات، وكانها انتهجت نمط الجمعيات الكلاسيكية، قبل أن يستدرك أن نشطاء الجمعية في القاعدة قد لوحظ حضورهم القوي في كل المسيرات، وشعاراتهم مميزة ونشاطهم للأمانة في بعض الولايات - قبل الحراك - لافت جدا، في ولاية برج بوعريريج مثلا يعد نشاط جمعية العلماء قطبا قويا ومعروف منذ سنوات على المستوى الوطني، لذلك ربما كانت جمعات الحراك في هذه الولاية بذلك الزخم المذهل"، وفق تعبيره.
خسارة مزدوجة .. للجزائر والإسلام الوسطي
بالنهاية، لم يكن هدف إضعاف جمعية العلماء المسلمين الجزائرية إلى هذا الحد، الذي تتحول فيه من حركة صنعت نهضة الجزائر أيام الاستعمار، وواجهت مخططاته التغريبية لفرنسة الجزائر، إلى مجرد جمعية خيرية، تبحث لها عن مقر لائق يقي أعضاءها الإهانة، هو الجمعية بحد ذاتها، بقدر ما كان الهدف هو المشروع النهضوي الكبير الذي حملته، حتى تبقى الجزائر ومن ورائها كل الأمة الإسلامية، تابعة لمشاريع الاستعمار وأذناب الاستعمار الذي خلفهم وراءه، وللأسف أثبتت الأيام أن دولة الاستقلال المنقوص كانت أشد وأنكى على الجمعية من الاستعمار ذاته، فلم تترك لها مجالا لكي تتنفس فيه هواء الحرية الذي ناضلت من أجله طويلا.
لقد خسر الإسلام الوسطي في الجزائر وكل العالم الإسلامي، رافدا مهما من روافد الاعتدال والفهم الصحيح لمقاصد الشريعة الإسلامية، لكن الخاسر الأكبر هي الجزائر كدولة وشعب، لأنها فرطت في أغلى عناصرها الحية لبناء الشخصية الوطنية، على أسس صحيحة، وما كانت تخشاه الجمعية أيام الاستعمار، أن يحصل الاستقلال قبل بناء الإنسان، هو تماما ما حصل، حينما حصل الاستقلال المنقوص، استقلال الأرض عن المستعمر، بينما ظل الإنسان مستلبا بمفاتن المستعمر، ويسعى جاهدا لكي يقلده في المأكل والمشرب والملبس، وقد تطور الحال أن صار شباب الجزائر في أوقات اليأس الكبرى، يقطعون البحار في قوارب الموت لكي يعيشوا كذبة الحضارة في بلاد الكفر.
نعم، الخسارة فادحة، لكن بصيصا من الأمل يصنعه اليوم أحفاد ابن باديش والشيخ البشير الابراهيمي، ومحمد الأمين العمودي، والطيب العقبي ومبارك الميلي، والعربي التبسي والفضيل الورتيلاني وغيرهم مئات بل آلاف العلماء العاملين، عبر هذه الهبة الشعبية التي أحيت من جديد جذوة الحق التي غرسها الأباء والأجداد، ذلك أن غدا فيه بشائر الحرية كفيل بأن يقلب كل الموازين، بأن تعود جمعية العلماء المسلمين لكي تمارس دورها الحضاري الذي أنشئت من أجله، ومعها تنبعث أسس الحضارة التي رسمها المفكر الكبير مالك بن نبي، كمعالم في الطريق الصحيح، طريق الخيرية والتقدم.