من المبادئ المطرِدة في أكثر المجتمعات الوثنية (مجتمعات الشرك)، ومنها المجتمعات الاستهلاكيَّة الحديثة؛ فكرة "سوقية التدين"، خصوصا صور التديُّن التقليدية المرتبطة بالشعائر العبادية المنتظمة، مثل الصلاة. لذا، يحرص من يتبنى هذا التصور على عزل الممارسات والشعائر الدينية عن الفضاء الاجتماعي بدعوى "الحفاظ على قدسيتها"، وهو في الحقيقة "حفاظ" على دنس المجتمع و"وقاية" له من الآثار الاجتماعية المطهِّرة للعبادة، تكريسا لعبودية أكثر أفراده للهوى وللعبيد.
وستجد (تصديقا لما نذهب إليه) أن كل المراكز التجارية والأماكن السياحية والشركات الكُبرى.. إلخ، بل وحتى المنتديات الثقافيَّة؛ تُخصص غُرفا منزوية للصلاة، تقع عادة في أحقر أماكن البناية أو التجمُّع، وأقلها أهميَّة؛ وفي الغالِب مجاورة للمراحيض، وذلك على عكس التخطيط المديني ما قبل الدولة الحديثة، الذي كانت دور العبادة فيه مركزا للبلدة أو المدينة أو القرية؛ فحلَّت دار البلدية محل دار العبادة مع الدولة الحديثة، وتراجعت دار العبادة إلى قبو دار البلدية. ذلك أن البيئة البروتستانتية الأنغلوسكسونية، التي صنعت الحضارة الحديثة ودشَّنت الثورة الصناعية وبَنَت النظام الرأسمالي؛ هي علمانية لا تُعادي الدين، وإنما توظِّفه، إذ تفرغ مقولاته من محتواها وتُعيد ملأها بما يخدم أهداف القائم بترشيد الواقع. إنها علمانية تُدرك جيدا دور الدين في النفس، لهذا لا تصطدم به؛ بل تُبقي عليه مُكبَّلا في الهامش، وتجتهد في توظيفه لصالحها.
ستجد (تصديقا لما نذهب إليه) أن كل المراكز التجارية والأماكن السياحية والشركات الكُبرى.. إلخ، بل وحتى المنتديات الثقافيَّة؛ تُخصص غُرفا منزوية للصلاة، تقع عادة في أحقر أماكن البناية أو التجمُّع
لكن تظل مقولة "الحفاظ على قدسيَّة الشعائر الدينية" هي إحدى أهم المقولات العلمانية، سواء الأنغلوسكسونية أو اللاتينية؛ التي توظَّف لحصر شعائر الإسلام داخل المسجد (مسجد الضرار!)، وذلك كما تُحصَر شعائر جمهرة العبادات الوثنية في أماكن خاصة ومعابد لها "قداستها"، لا تتعدَّاها إلى المجتمعات المنخورة. ورغم أن الوضع مختلف بالكليَّة في الإسلام، إذ
تجوز الصلاة في أي مكان وفي كل مكان على ظهر الأرض، كما يجوز الذكر والدعاء والتسبيح وقراءة القرآن وتعلُّمه وتدبره في أي مكان، بل إن الصلاة والتعلُّم في الإسلام تجوزان ولو على ظهور الإبل؛ فإن ذراري المسلمين قد استبطنوا تصور القداسة الزائفة، حتى لم يعُد للدين أي أثر اجتماعي في حيواتهم إلا فيما ندر، مثلهم في ذلك مثل أصحاب الديانات الوثنية!
وجه آخر من أوجه هذا العزل الاجتماعي للشعائر الدينية؛ هو تكريس لون من ألوان الطبقيَّة، لا ترتبط في مجملها بحجم الناتج الاقتصادي للفرد أو بحجم ثروته أو ما يحوز من أدوات إنتاج، لكنها تُكرِّس فكرة العزل الاجتماعي لمن يلتزمون بالشعائر العباديَّة، بدرجات متفاوتة؛ عن سائر المجتمع. فإذا امتدَّت "عدوى" هذه "الدروشة" الدينيَّة إلى الطبقات الأخرى؛ اكتسبت لونا شاذا لا علاقة له بالإسلام، كما في محاضرات ودروس الدُعاة الجدد، والبيئة التي تُلقى فيها، بل وطبيعة هذه المواعظ نفسها وحقيقة استمدادها من الواقع الجاهلي للمتلقي (خصوصا من السياق البروتستانتي) بأكثر مما تستمد من الإسلام نفسه.
وهذا العزل ليس مستحدثا، بل إنه قديم قِدَم الدين نفسه، وقِدم حاجة الإنسانية للدين. فقد عرف الهندوس والمجوس - وغيرهم- آلهة ومعابد لكل طبقة.. آلهة ومعابد للفقراء، وأخرى "لوكس" يتعبَّد فيها الأغنياء وأبناء الطبقات المترفة؛ معابد ينال فيها المترفون وأصحاب السلطة الحظوة والمكانة، ويحتفظون فيها بغرورهم وكِبَرهم حتى أمام الإله المعبود، لا لتقوى أو تفانٍ في اتباع تعاليمه، بل بسبب ثروة حققوها أو جاه نالوه أو مكانة أحرزوها (ولو بالوراثة)، كأنهم يتفضَّلون عليه بالعبادة، أو كأنهم شركاؤه. وهم في هذا اللون من الدين المختَلَق شُركاء للإله المعبود في حقيقة الأمر. فالملأ شركاء ما ينحتون من آلهة وثنية؛ شركاء لها في استعباد الخلق وفي التربُّح من هذا الاستعباد!
وجه آخر من أوجه هذا العزل الاجتماعي للشعائر الدينية؛ هو تكريس لون من ألوان الطبقيَّة، لا ترتبط في مجملها بحجم الناتج الاقتصادي للفرد أو بحجم ثروته أو ما يحوز من أدوات إنتاج، لكنها تُكرِّس فكرة العزل الاجتماعي لمن يلتزمون بالشعائر العباديَّة
ولهذا، فإن الملأ عندما تغلِب عليهم "التقوى"، وتأخذ بزمامهم حمية "الإيمان"؛ يريدون معابد خاصة لا يُزاحمهم فيها الدهماء بتقواهم وتضرُّعهم ورثاثتهم وحرارة رجائهم، لا يريدون أن تنافس التقوى الحقيقية، لمُستضعَفٍ مُستعبَدٍ خاضع؛ ذلك الغرور الأجوف للمترفين المتألهين!
هذه الصورة من صور "الاجتماع الديني"، كما اصطلحت على تسميتها "العلوم الإنسانية"، وسعت لتعميمها على كل الدين؛ ليست في حقيقتها إلا تنويعات على صورة واحدة من صور الدين، صورة الانتكاس في الدين: الشرك. لهذا، فما يُصطلح على تسميته بـ"الاجتماع الديني" هو في جملته وفي حقيقته اجتماع شرك (انحراف)، ولا علاقة له بنمط الاجتماع الإنساني/ الرباني في التوحيد (أصل الدين كله)؛ حتى إن كان طلائع هذا الاجتماع الإنساني هم طبقة "المتدينين" الجُدد، التي تتصدَّر المشهد الديني في بلادنا؛ من البورجوازية السلفية، والدُعاة الجُدد، وجمهرة كبيرة من المتمسحين بالأزهر والتصوف، ومن لف لفهم. فهم جميعا، بمسلكهم وتوجُّههم الديني، أقرب للشرك منهم للإيمان. وما تأفف بعضهم من "سوقيَّة" مظاهر التديُّن وشعائره العباديَّة إلا تجلٍّ لهذا الشرك المستتر.
***
إن تحطيم هذه التقسيمات المصطنعة وتجلياتها هو أول عمل ينبغي أن يضطلع به دعاة الإسلام الذين يريدون استعادة الناس لرحابه، وهو ليس صراعا طبقيّا كما قد يتوهم بعض أصحاب الميول الماركسية، إذ أن جمهرة لا بأس بها من سدنة هذا النظام والمدافعين عنه أصحاب أصول طبقيَّة دُنيا؛ قطعوا مراحل متباينة على طريق "الانعتاق" من طبقاتهم طمعا بالانضمام إلى الطبقات "الأعلى". بل إن هؤلاء حقيقة هم أشرس المدافعين عن هذا النظام، وأحقرهم طريقة. لذا، فتحطيم هذه التقسيمات يعني تحطيم النظام العالمي الذي يُكرِّسها ويُقننها ويجعل منها مثلا أعلى وإلها معبودا. إنها مهمة أشبه بمهمة دُعاة الإسلام الأوَل في تحطيم الأصنام الحجريَّة، غير أن أصنام هذا الزمان قد استتر أكثرها خلف الأهواء والشهوات؛ فلا يبدو بنيانها إلا في مسلكٍ أو هوى أو منزع.
تحطيم هذه التقسيمات المصطنعة وتجلياتها هو أول عمل ينبغي أن يضطلع به دعاة الإسلام الذين يريدون استعادة الناس لرحابه
إن هذه الأصنام الحديثة لم تعد مجرَّد قيد مباشر يُكبِّل حريَّة الإرادة الإنسانية في الاستماع إلى داعي الله، ولا مجرَّد عقبة كؤود في طريق انسياح هذه الدعوة إلى القلوب، ليقبلها من قبلها ويرفضها من رفضها بإرادة حرَّة وبغير إكراه؛ بل هي أداة خبيثة لتزييف الوعي الإنساني وشغل الكائن البشري الشريف بسفاسف وتفاهات تُيسر توظيفه والتلاعُب به على الملأ المتألهين. إنها قيود حريريَّة ناعمة، ثم إنها تحتفظ بالدين في ركن منزو حتى إذا لاذ به بعض المنهكين وجد راحة مؤقتة (تجعل توظيفه فيما بعد أيسر)، لكنها تتلاعب بما احتفظت به، فلا يتحقق به خلاص حقيقي، وإنما يصير حلقة في دائرة الاستعباد التي لا بد من كسرها.
وإذا كانت استعادة الإنسان للدين في
الشرائع التي سبقت الإسلام جد عسيرة، لاختلاط أصولها بالأهواء؛ فإن الإسلام قد احتفظ بأصوله لم تُمس، ودفع جمهرة معتبرة من أهله حيواتهم ثمنا لاستعصاء جهودهم على توظيف مساجد الضرار وأديان الشرك. لكنها مهمة شاقة على كل حال؛ مهمة التعريف بالحق حتى يعرف الناس أهله، ويدركوا الفارق بين دين التوحيد ودين الشرك المتدثر بمقولات التوحيد. إذ الفارق بين
مساجد التقوى ومساجد الضرار فارق جد دقيق، وغير مرئي؛ إنه فارق في النيَّة وفي المقصد، وفي هذا تكمن كل المشقة.
(للمزيد؛ راجع الثلاثية المنشورة على نفس الموقع لكاتب هذه السطور: "
دعاة السوء"، و"
دين ضد الدين"، و"
مسجد الضرار")