من المهم في البداية أن نؤكد، ونحن نحاول أن نفتح الباب حول عمليات
النقد الذاتي للقوى السياسية المختلفة، أن نعترف بأن ممارسة هذا النقد إنما يشكل قاعدة أساسية لقيام هذه القوى بمراجعة أفكارها ومواقفها؛ ليس فقط حيال الثورة المصرية في يناير أو الحالة الانقلابية، ولكن بأن تراجع مجمل رؤاها حول مدى تأثيرها وقدراتها الحقيقية، وعلاقتها بجمهور الناس وعموم الشعب، وعلاقة هذه القوى بالسلطة أيا كان وصفها، وعلاقتها على وجه الخصوص بالسلطة الاستبدادية سياسة وأفعالا وموقفا من كل ما تقترفه السلطة في حق القوى السياسية المختلفة وعموم الناس، وكذلك تصور هذه القوى لعلاقتها على وجه الخصوص بالعسكر، وإدارتهم لملف العلاقات المدنية العسكرية وكافة الملفات الأخرى المتعلقة ببناء الدولة، والقدرة على تأسيس حكم راشد يقدم نموذجا قادرا على الاستجابة لضرورات واحتياجات الناس والتفاعل مع تطلعاتهم وأمانيهم، والقدرة على بناء وطن جديد في دولة عادلة فاعلة راشدة قوية تحسن صياغة علاقة سوية مع مجتمعها؛ فتؤسس لعلاقة رصينة ومكينة بين الدولة والمجتمع.
لا شك أن هذه القوى السياسية قد عانت من أزمتين أثرتا بشكل كبير على رؤيتها ومواقفها بالنسبة لكل تلك المسائل التي أشرنا إليها، والتي أكدنا في عملية النقد الذاتي أنها محل مراجعة واسعة بين كل قوة سياسية على حدة، وبين القوى السياسية وبعضها البعض، وبين علاقاتها بمؤسسات الدولة وبكل تنوعات المجتمع.
تبدو لنا تلك الأزمة الأولى في ما بعد هذه الثورة وما تبعها من أحداث؛ تتمثل في ما يمكن أن نسميه بـ"أزمة الرؤية والموقف في الأيام الملتبسة"، ذلك أن القوى المختلفة وقفت عند أيام بعينها؛ أيام تتمسك بها وتعتبرها مفصلية في معاركها مع القوى السياسية الأخرى، وأيام أخرى تغفلها وتتجاهلها، وأيام صارت محلا للنزاع وممارسة الهجاء المتبادل بين القوى المختلفة، أما تلك الأيام التي مرت وارتبطت بالثورة فقد توقف عندها الجميع بإعادة التأويل والتفسير، بما يؤكد لكل قوة سياسية على حدة أن الخطأ قد طال الآخرين، وأنها الوحيدة هي القوى السياسية الوحيدة الناجية من عالم الأخطاء؛ تفترض في نفسها عصمة لا يمكن أن تكون في مجال ممارسات السياسية أو في مساحاتها أو في ساحات القضايا المتعلقة بها.
وستظل كل قوى سياسية أو فريق ينتقي ما شاء من الأيام ويثبت الصورة حولها وكأنها هي الأيام الوحيدة التي مرت بها ثورة وما تبعها من أحداث، وتمخض كل ذلك عن جملة من الاتهامات والإدانات، وتحول أي شكل من أشكال الحوار إلى عملية شجار، وبدا الجميع غير مؤهل للقيام بمواجهة حقيقية لكل ما نال هذه الثورة؛ ومن ذلك الفريق المضاد للثورة الذي تجمع من كل صوب وحدب، بل وتجمعت قواه في الداخل والخارج في الوطن وفي الإقليم؛ لتقوم بأكبر عملية تطويق وتشويه للثورة المصرية.
يمثل ذلك في المرحلة الأخيرة ذلك التصريح الذي ورد على لسان أمين عام الجامعة العربية، وما هو بالأمين وما هي بالجامعة ولا هي ترعى المصالح العربية. إن "أبو الغيط" حينما يعبر عن موقفه من الربيع العربي فيتهكم بأنه لم يكن ربيعا "من الخطأ أن نطلق على السنوات الماضية ربيعا عربيا"، مشيرا إلى أن ما حدث من فعل التغيير والتأثير الذي تركته تلك الثورات لم يجرّ على الدول العربية إلا ويلات ومآلات، وكأن الثورة هي المسؤولة عن كل ما حدث في المنطقة، خاصة بعد أن استطاعت القوى المضادة للثورة أن تمكن لنفسها، وأن تحول تلك الثورات بكثير من سياساتها إلى حالة انقلابية أو إلى حالات نستطيع أن نصفها بالحروب الأهلية، ومن قبل ذلك تصريح المنقلب أراد منه أن يشكك في ثورة يناير؛ بأنها كانت "التشخيص الخطأ" في محاولة منه أن يجعل من فعل الثورات والتغير عملا يقوض ما أسماه الدولة؛ وما نرى من أفعاله وسياساته ومواقفه الفاشية إلا استراتيجية حقيقية لتخريب الدولة والمجتمع، ودورا يقوض كل أركان الدولة وما تبقى منها. هكذا رأينا ذلك التشخيص لثورات هدفت إلى التغيير، ولكن الثورات المضادة نجحت من خلال أفعال وممارسات متعددة من القوى السياسية؛ تؤشر على عدم نضج في المواقف داخلها أو في علاقتها بين بعضها البعض، فأدى ذلك إلى تهيئة بيئة مناسبة لصناعة الفرقة والفوضى.
أما الأزمة الثانية فإنما تشير إلى ما يمكن تسميته وما تمخضت عنه الأحداث والمواقف من القوى السياسية المختلفة؛ بتراكم ما يمكن تسميته "الأمراض النفسية الجماعية"، وهو أمر طال الجميع وصارت الهواجس سيدة الموقف، إلا أن هذه الهواجس في الحقيقة تحولت إلى أحوال مرضية من وساوس وهلاوس مارستها لجان إلكترونية ومتعاطفين مع كل فريق، فتحكمت لغة الهجاء والاقتتال، وتفوقت على كل أمر يدعو إلى التعقل وإلى الاصطفاف، وبات كل واحد من هؤلاء يكيل الشتائم بناء على أخطاء لا تغتفر لكل فريق، وصار الأمر مع تراكمه معقدا ومزمنا حتى أصبح جزءا من التعاملات اليومية التي اصطنعت لها المناسبات، وغفل الجميع عن ذلك العدو الرئيسي الذي يتمثل في نظام بوليسي فاشي استهدف الجميع بلا استثناء، وفرط في حياض الوطن وأمنه القومي، في ظل انبطاح استراتيجي في علاقات تتسم بالدفء؛ في ما أسماه المنقلب السلام الدافئ مع الكيان الصهيوني.
كل ذلك أدى إلى هذه الأمراض الجماعية المزمنة التي وجدت في بيئة الاصطفاف، وفي بعض من هؤلاء الذين يجيدون إشعال الحرائق وافتعال المعارك والاقتتال، بحيث لم يعد هناك على الساحة إلا من وصف بالخيانة أو الشلل والعجز. ومثل هؤلاء بما حملوه من امراض جماعية عبء على الحالة الثورية التي تضررت وبشدة من هذه القوى السياسية جميعا بمدنييها وإسلامييها، وهو ما جعل عملية استئناف الحالة الثورية حالة من ضروب الخيال الذي لا يمكن أن يخطر على بال. وهنا، من المهم الإشارة في هذا المقام إلى أنني قد طالعت في الآونة الأخيرة بعض تحليلات رصينة أقرب ما تكون إلى المحاولات البحثية ذات أبعاد منهجية في التعامل مع الظاهرة الثورية في مصر، وتحليل مواقف القوى السياسية، وهذه المرة لم تكن مجرد آراء مرسلة أو اتهامات مرتجلة أو احتراف لشجار واقتتال حول القضايا المختلفة؛ مارسه بعض الشباب من كافة تيارات القوى السياسية.
واحتضن هؤلاء من خلال دراسات بحثية رصينة مارست نقدا ذاتيا من خلال شباب الباحثين من قوى سياسية مختلفة، وعلى رأسها بعض من شباب الإخوان المسلمين، فإن من أهم المسالك التي يمكن نعتمدها في سلوك النقد الذاتي ذلك المدخل البحثي، فقدّم أحد شباب الإخوان من الباحثين (ياسر فتحي) دراستين غاية في الأهمية في عملية النقد الذاتي، من خلال بحوث ميدانية اعتمد الاستبيانات واستطلاعات الرأي، ومن الصواب أن نستعرض هاتين الدراستين في مقال قادم لنعبر عن أهمية تلك الدراسات العلمية كأهم مسالك عمليات النقد الذاتي، حتى يمكن ممارستها منهجيا وبحثيا، ذلك أن الكثيرين من هؤلاء الذين انتموا تنظيميا أو حزبيا ظلوا أوفياء لهذه العقلية التنظيمية على حساب كل الأمور التي تتعلق بضرورات ومتطلبات الحالة الثورية وموجبات النقد الذاتي وممارستهـ ولذلك مجال للتناول المفصل في مقال قادم.