(1)
أطول شريط على البحر في العالم اسمه "تشيلي".. أرض النحاس والانقلابات و"بابلو نيرودا".
يقولون إن كلمة "تشيلي" تعني "آخر نقطة على الأرض".. أي النقطة التي لا يوجد بعدها إلا ماء أزرق وقمر من الخيال يسكن نقطة غامضة في أفق لانهائي، أما كلمة "بابلو نيرودا" فهي اسم مستعار، نصفه من لحم البلاد ونصفه الثاني لشاعر تشيكي كان يحب الفقراء.
لم أذهب إلى "تشيلي" يوماً، لكنها صديقتي في اللغة وفي خبرة الألم، لذلك كثيرا ما أرى نفسي أهرول برفقة بابلو نيرودا وهو يهيم مذهولاً بين الجثث في سانتياجو، ويصرخ مخاطباً المجهولين: "تعالوا وانظروا الدم فى الشوارع". لن أكتب اليوم عن الانقلاب الفاشيستي الذي قاده الجنرال بينوشيه، سأكتب عن سؤال بابلو نيرودا المحير الذي بدأ به إحدى قصائده: "عندما أفتح نافذتى فى الصباح، فأرى قتيلًا وأرى وردة، أليس من المخجل أن أتجاهل القتيل وأكتب عن الوردة؟".
(2)
في بلدي لا يوجد رجل اسمه نيرودا، لكن توجد انقلابات ويوجد دم.وفي بلدي الآن عندما نفتح الناس النوافذ في الصباح لا نرى ورداً، فقط نرى جيشاً من "القافات" البغيضة: القتل، القبح، القمع، القهر، والقوة الغاشمة، لذلك لا نقف حائرين أمام اختيار نيرودا بين الوردة والقتيل. بالأمس القريب قتلوا شيماء الصباغ لأنها أشهرت وردة دفاعاً عن الشهداء، وفي الصباح التالي مات عم "محمد وردة" بائع الأمل وموزع البسمات في قلب القاهرة. لم يكن عم محمد يسهر حتى المساء المتأخر، لأقابله في طريقي إلى مقهى "التكعيبة" حيث نحتسي الكلام وثرثرات المثقفين، وفي ذلك الوقت يكون محمد وردة قد أغلق كشك الورد وغادر القاهرة مع طلة المساء ليعود إلى حضن الدلتا، حيث يسكن ويحزن ويغسل الهم في بيتٍ صغير وفقير، وفي الصباح يشرق عم محمد نحيلاً كعود جلاديولا ليفرش شارع شامبليون بالسلام وتحيات الصباح وبالورود أيضاً.. تعرفت على عاشق الورد من خلال صديق من كائنات "وسط البلد"، فلم يخطئ "عم وردة" اسمي ولا وجهي بعد ذلك ابداً.. كلما مررت في النهار بادرني بالتحية، حتى اتصل بيننا الكلام والسؤال عن الحال. وفي كل مرة كنت أكتم دهشتي من قدرة الحزين على منح البهجة، من قدرة الفقير على العطاء، من قدرة الضعيف على الدعم والمجاملة، من قدرة الجائع على رعاية الورود لنصف قرن، مع أن الزهور لا تصنع الخبز!
(3)
"محمد وردة" مثل "بابلو نيرودا".. اسم مستعار يخفي رجلاً حقيقياً لم يعرف الناس عنه الكثير، فهو يخفي أوجاعه الواقعية منتصراً للوظيفة الإنسانية والدور العام، نيرودا اختار اسمه الجديد ليتقرب مما يحب (الشِعر)، ويتجنب عقاب والده إذا ضبطه ينشر القصائد، بينما اختار الناس الاسم الجديد للشخص الذي كان "درويش عبد السلام" فأصبح "محمد وردة"، وكما لم نعرف الكثير عن "فيتالي ريكاردو بازولتو" الذي سمى نفسه "بابلو نيرودا"، لم يهتم مثقفو "التكعيبة" و"قهوة صالح" ورواد "تاون هاوس" وصحفيو جريدة "الأهالي" وفنانو "أتيليه القاهرة" وصنايعية شارع شامبليون؛ بشخص كادح يدعى "درويش عبد السلام"، لم نهتم بمعاناته وهو يقطع مئات الكيلومترات يومياً لكي يرش الشارع بالماء، ويضع وردة للأفندية في عروة الجاكتة، أو يهدي "الحبّيبة الصغار" قليلا من الزهور والدعوات. لقد تغافلنا عن حياة المعاناة التي عاشها هو وأسرته، ولم نتذكر إلا "الأيقونة" التي نهواها، والتي تصلح لتزيين حكاياتنا الاسترجاعية، كلما أخذنا الحنين للحديث عن غزوات ونزوات وسهرات ومشاوير "وسط البلد".
(4)
لا أخشى الموت.. أؤمن أنه "أجل"، لكنني أخشى
الحياة، فالمهم عندي ليس عدد الأيام الذى نعيشها، المهم هو قيمة هذه الأيام ومدى نفعها للناس.فهناك من يعيش وهو ميت، وهناك من يموت ويظل حيا، وعم محمد وردة كان الاثنين معاً، لذلك فكرت كثيراً في رؤيتنا لثنائية "الحياة والموت". وتذكرت كلمات صلاح عبد الصبور الناقمة في "ماساة الحلاج": "أمي ما ماتت جوعاً.. أمي عاشت جوعانة"، حيث قال نصاً: مرضت أمي، قعدت، عجزت، ماتت/ هل ماتت جوعاً؟ لا / هذا تبسيط ساذج/ يتلذذ به الشعراء الحمقى والوعاظ الأوغاد/ حتى يخفوا بمبالغة ممقوتة/ وجه الصدق القاسي/ أمى ما ماتت جوعا، أمي عاشت جوعانة/ ولذا مرضت صبحاً، عجزت ظهراً، ماتت قبل الليل"، وهذا ما حدث لعم وردة وما يحدث كل يوم للفقراء في بلادي.
(5)
سهرت ليلة طويلة أفكر في التفاصيل الكثيرة التي أسرف في نقلها صديق من القاهرة.. كانت بمثابة النافذة التي فتحتها، فرأيت القتيل ورأيت الوردة الذابلة. لم أكن شغوفاً بتفاصيل الموت، قلت لصديقي (بضيق صدرٍ يغيظني من نفسي في الشهور الأخيرة): "لا تحدثنى كيف مات، ولا لماذا يموت؟ حدثني كيف كانت حياته، ومن أجل ماذا مات؟ حدثني عن أحلامه حياً، عن أفكاره قبل الموت، عن المستقبل الذى كان يرجوه؛ لأننى إذا عرفت هذا بإمكانى أن أكمل حياته، بإمكانى أن أظل معه ويظل معي على الطريق الذى يرجوه ونرجوه"..
(6)
قلت لصديقي: منذ سنوات يخنقني التمييز في الحياة، وفي الموت أيضاً.
قال: أفهم التمييز في الحياة، لكن كيف يكون التمييز في الموت؟
قلت: لنأخذ ثورة يناير كمثال، لقد التقينا جميعاً فى الميدان.. حشوداً من المحتجين تحت راية التغيير، ولما اقتربت بشائر النصر ظهر البأس بيننا شديداً، فانقلب الوفاق إلى عراك، وصار لكل فئة شهيد، هو عند الفئة الأخرى ليس إلا قتيلا مستباح، ارتفعت الرماح تحمل الرؤوس، وصارت الرايات "قمصان دم". نسينا العدو وصرنا أعداء لأنفسنا، غاب الوئام، وتفشى الخصام، وحلت الخناجر مكان الحناجر.. تقاطعت المسارات وتصادمت الاتجاهات، وألِفنا منظر الجثث فى الطرقات، واحترفنا التبريرات والتعويضات والتكريمات، ليضمن كل فريق استمرار التحريض ضد الفريق الآخر. ومع استمرار الحرب والضرب والكرب، ألِفْنا الموت ونَسِينا الورد، وفي أرض مثل هذه من الصعب أن يعيش "محمد و ردة"؟
(7)
لم يكن حياً ليموت
لم يكن يشتهي الحزن، لنطارده بمزيد من الحسرات
لا نعترض على الموت يا رب
اعتراضنا على الحياة
(من الأحزان الخفية في مرثية رجل عادي جداً)
__________
* إشارة:
لهذا المقال قصة سأرويها بالتفاصيل قريباً؛ لأنها تنقلنا من إعلام "العباسيين"، حيث الخضوع لتوجيهات عباس كامل ووصايا أشرف الخولي، إلى سطوة "الميديوكرز" ووصاية الطغاة الصغار.
[email protected]