تراجع
وزير
التعليم المصري عن شعار "تابليت لكل تلميذ"، بعد شهور قضاها يبشر
بأن زمن الكتاب المطبوع قد ولى، وأنه بداية من العام الدراسي الجديد سيتم توزيع
"تابليت" وضعت عليه المناهج الدراسية بديلاً عنه!
وكما رفض
الوزير أن يستمع للرأي الآخر وهو يصر على "التابليت"، فقد بدا صدره
ضيقاً حرجاً عندما تم سؤاله عن "التابليت" والعام الدراسي على الأبواب،
وقد قال إنه لا يريد أن يستمع إلى هذا السؤال مرة أخرى، فالكتب المدرسية وصلت
المدارس، وبالتالي فلا معنى لهذا السؤال!
كان كلام
الوزير يؤكد أنه يعيش في المريخ بعيداً عن الكرة الأرضية، وكأنه ليس مطلعاً على
حال المدارس وعلى العملية التعليمة في مصر، ولهذا فقد كان وهو يعيد ويزيد، ويلت
ويفت في موضوع "التابليت"؛ يذكرني بواقعة قديمة في كل مرة أقرأ تصريحاته
وكيف أنه لن يتراجع عن شعار "تابليت لكل تلميذ"!
كنا نعمل
في جريدة "الأحرار"، أقدم صحيفة حزبية في مصر بعد انقلاب 1952، وكان لدى
رئيس الحزب تصورات للارتقاء بالمستوى المهني والوظيفي للصحفيين في الجريدة، لكن
رئيس التحرير لم يكن يساعده على تحقيق ذلك، وقد سرح بخياله وهو يفكر في تحديث
المكاتب الخاصة بـ"صالة التحرير"، وأن يعطي لكل صحفي حقيبة جلدية، بها
كاميرا، وجهاز كاسيت، ولا مانع من أن يشتري لكل واحد سيارة من شركة النصر للسيارات
بالتقسيط، كما فعلوا مع قيادات الحزب.
ولم يتحقق
شيء من هذا، لكنه بعد سنوات، وفي عهد رئيس تحرير جديد، شاهد ما أزعجه وهو الرجل المنتمي
بالوراثة للطبقة الارستقراطية، إذ كان في زيارة مقر الجريدة، عندما شاهد ما أظهر
الاشمئزاز على وجهه. كان أحد المحررين الجدد، قد فرغ من
صلاته، ويبدو أن هناك سبباً دفعه لأن ينتعل "الشبشب" المخصص للوضوء
سريعا، وهنا وقعت الفأس في الرأس، وكنت في استقبال الرجل فوجدته مشمئزاً، ولم أشأ أن
أوضح له أن هذا ليس السلوك العادي للزميل الشاب، لكنه اختزن الصورة في مخيلته!
فعندما
جاء رئيس تحرير جديد، اقترح على رئيس الحزب أن يختار سبعة محررين ويأتي لكل واحد
منهم بجهاز كمبيوتر؛ لأنه بعد سنوات قليلة فإن من لم يجد التعامل مع الكمبيوتر لن
يكون صحفيا بل مساعد صحفي. وكان هذا في وقت مبكر، وكنت أول صحفي في الجريدة بعد
رئيس تحريرها القادم من الخارج؛ يكتب مقالاته على الكمبيوتر، مع أني كتبت مقالاً أشكك
فيه في مقولة أنه سيأتي يوم يكتب فيه الصحفيون أعمالهم على الكمبيوتر، ورويت قصة
مصطفى أمين، مؤسس "أخبار اليوم" مع الآلة الكاتبة، فقد اشترى عشرين آلة
ليتعلم الصحفيون الكتابة عليها، وانتهى المطاف بها إلى مخازن المؤسسة، عدا واحدة،
فالوحيد الذي تعلم كتابة مقاله على الآلة الكاتبة هو رئيس تحرير "أخبار
اليوم" بعد ذلك، "إبراهيم سعدة"!
ما علينا..
فطبيعة "مصطفى كامل مراد" الشخصية كانت توحي بأنه سيوافق على اقتراح
"الكمبيوتر" لعدد من الصحفيين، لكنه قال مستنكراً: "هات لهم أحذية
الأول"، فقد اختزن عقله واقعة "شبشب الصلاة"، رغم مرور عدة سنوات
عليها!
وهي
المقولة التي أتذكرها في كل مرة أقرأ فيها لوزير التعليم شعار "تابليت لكل
تلميذ"، فمدارس كثيرة لا تصلح للعملية التعليمية، ومدارس في الأقاليم لا توجد
فيها مقاعد، أو دورات مياه، وتبدو لمن يشاهدها أنها تنتمي للمجتمعات التي لم تؤسس
دولة. وعندما يعلن وزير التعليم الغاء الكتاب المدرسي وتسليم "تابليت"
بديلاً له، فالمعنى أننا أمام كائن يعيش خارج "المجرة"، وعندما يسكت أهل
الحكم على ذلك، فالمعنى أن الأمر لا ينطلق من فراغ، فماذا هناك؟!
كنت
شاهداً على دخول القوات المسلحة والشرطة على خط طباعة الكتب المدرسية، مما يدفع للتنبؤ
بخسارة عظيمة لحقت بهذه الصناعة، ولم أتابع تداعياتها، فقد جاء ما يشغلنا ممثلا في
الانقلاب العسكري، فقد حدث هذا قبيل وقوع الانقلاب بشهور قليلة، وفي عهد الدكتور
محمد مرسي!
لقد كانت
طباعة الكتب المدرسية من نصيب المطابع الأميرية، ومطابع المؤسسات الصحفية، بجانب
المطابع الصغيرة المملوكة للأفراد، وكانت الأمور تتم بمناقصة ترضي الجميع، وتمثل
دخلاً مهماً لهذه المؤسسات ولأصحاب المطابع الصغيرة ومن يعملون فيها من عمال وخلاف
ذلك!
بيد أن
وزير التعليم في عهد الدكتور محمد مرسي، كان سبباً في أزمة عندما قال إن الأمر
سيكون بالمزاد للأرخص والأقدر، وليس بالمناقصة، كما اشترط قدرة المطابع المتعاقد
معها على طباعة كافة النسخ المطلوبة من الكتاب الواحد، فقد خرجت المطابع الصغيرة
من "اللعبة"، والتي كانت تتقاسم الكتاب الواحد، فطباعة مليون نسخة مثلا
من كتاب واحد أمر يفوق قدرتها!
وكانت
ثالثة الأثافي في طلب تأمين ضخم يصل إلى خمسة ملايين جنيه عن كل مطبعة، بدلاً من
أنها كانت تدفع في السابق مبالغ قليلة تصل إلى عشرة آلاف جنيه، وكان الأمر مثيراً
للريبة!
لقد عقدت
غرفة المطابع بالغرف التجارية اجتماعاً صاخباً، حضره ممثلو المطابع، وكان القرار
إما أن تلتزم وزارة التعليم بالعودة من النظام القديم، وإما أن تنسحب المطابع
جميعها من عملية طباعة الكتب المدرسية؛ الدجاجة التي كانت تبيض ذهباً.
وفي
الصباح بدأت ملامح مؤامرة تتبدى للناظرين، فمؤسسات الصحفية القومية مع المطابع
الأميرية، تراجعت عن القرار، وهي التي تزعمت حركة الاحتجاج والانسحاب أيضاً، وهي
غير المضارة من القرار، لكن كان من الواضح أنها جزء من المؤامرة!
لقد تردد
يومها أن هذا التطور الجديد مرده إلى أن مطابع الجيش والشرطة ستدخل لأول مرة في
هذه "السبوبة"، ووقع الانقلاب ولم نعرف ما جرى بعد ذلك!
وعندما
يقرر وزير التعليم التوقف عن طباعة الكتب، فهل يعني هذا أنه لم يكن يدرك
الأوضاع الجديدة؟.. أم أن جهات خارجية قررت التبرع بـ"التابليت" فتقرر
السطو عليه منها بهذه الدعاية، ثم تراجعت هذه الجهات، أم أن الوزير كان تعبيرا عن
حالة تفكير بصوت مسموع حول قيام المصانع الحربية بصناعة "التابليت" ولم
تتمكن من هذا؟
لا بأس،
فلا شيء من هذا حدث، فليست هناك منحة خارجية بـ"التابليت"، وليست هناك
نية من الجيش للاستحواذ على "السبوبة"، فما هو السر وراء إصرار الوزير
على "تابليت لكل تلميذ" ثم تراجعه عن كل هذا الآن؟!
فالشعب لا
يعمل في "حظيرة الوزير"، فسمعاً وطاعة عندما يقول بـ"التابليت"،
ثم سمعاً وطاعة عندما يعلن أنه لا أحد يسأله عن "التابليت"، فالكتاب
المدرسي في المدارس من الآن!
إنها سلطة
فاقدة للرشد!