لم يعد
نتنياهو يتمطع وحده، أو يتمدد بمفرده في المشهد! لقد
ظل هكذا شهورا عدة، منذ بداية طوفان الأقصى، وكان يعلن أنه من سيعيد رسم خريطة
المنطقة، في لحظة بدا فيها أنه لا يقدر عليه أحد، حتى اغتال بغبائه إسماعيل هنية
وحسن نصر الله، فبدا هذا كما لو كان كلمة سر الليل، فجاء الرد على ذلك بما حط من
قدره لدى بني وطنه، فلم تعد له سلطة تقرير المصير في المنطقة!
وظهر خائفا يترقب، بعد أن كان يتمدد طولا وعرضا،
فالمقاومة
اللبنانية استهدفت غرفة نومه، لكنه لم يكن في منزله، "فعمر الشقي
بقي"، وإن كان ما جرى أثبت له أنه ليس بعيدا تماما عن صواريخ
المقاومة ومسيّراتها،
وليس في كل مرة تسلم الجرة. وأمكن التعامل مع قبته الحديدية بممارسة المناورة
معها، برشقة صواريخ تنشغل بها ثم تتحرك الطائرات المسيرة، وواحدة منها انفجرت في
مستوطنة على الحدود مع لبنان، قبل أن يصل إليها في زيارة ميدانية يستعرض فيها
عضلاته المفتولة، فقد أجبره التفجير على إلغاء الزيارة!
وبعد أن ضرب بشكل جنوني
حزب الله في الجنوب اللبناني،
معلنا أنه سيعيد النازحين الذين هُجّروا، يصل الأمر الآن إلى الإعلان عن أن 58 ألف
مواطن غادروا منازلهم في شمال
إسرائيل بسبب القصف الصاروخي لحزب الله، وهو ما
أعترف به المتحدث باسم الحكومة الإسرائيلية، وما خفي أعظم!
الرقابة العسكرية:
والملاحظة المهمة، أن خسائر الكيان مصدرها الكيان نفسه،
سواء المتحدث باسم الحكومة، أو وزير الدفاع، أو الصحف العبرية، أو هيئة البث
الإسرائيلية، وفي اعتقادي أنهم لا يعلنون الحجم الحقيقي للخسائر، فالرقابة على
الإعلام هناك لا تزال قائمة، وليس كل ما يحدث يُقال، بيد أن الحجم الكبير للخسائر
دفعهم إلى إعلان ما يذاع عن الخسائر التي تكبدها لهم المقاومة، لأن إذاعة هذه
المقتلة التي يتعرض لها جيش الاحتلال يوميا، وتصيب جنوده وقياداته، لا يمكن سترها،
فتسريبها من شأنه أن يقلب الكيان على رأس نتنياهو وحكومته المتطرفة. ثم ينبري حمقى
من بيننا ويسألون في ذكاء فطري منقطع النظير، ولماذا تعلن إسرائيل خسائرها؟
إنها -يا هذا- مسرحية، ودعاية إسرائيلية لحزب الله،
لينطلي عليك الأمر فتصدق أنه مقاومة فتتشيع.. يا لك من ذكي، انظر كيف أن الحروب
تنشب الآن من أجلك، وأنت على سريرك تعبث بأصابع قدميك؟! ومن هذه الجلسة فأنت مؤثر
في هذا الكون الفسيح!
شهور عدة منذ طوفان الأقصى، بدا فيها نتنياهو أنه من
يملك زمام الأمور، وأنه صاحب الكلمة المسموعة، وأن أنظار العالم لا بد أن تتعلق به
وحده، وكيف لا وهو يستبيح القطاع، ويتجاوز كل الخطوط الحمر، ويدوس بحذائه على
القانون الدولي، وعلى النداءات الدولية الصادرة من الأمم المتحدة، وعندما استهدف
زعيمين بحجم إسماعيل هنية وحسن نصر الله، فعل وهو يعتقد أن أحدا لا يمكنه أن
يردعه!
وفاته أنه ما أقدم عليه كان حماقة، دفعت إيران المترددة
للرد، فإذا بالكرامة الإسرائيلية المفترضة كهشيم تذروه الرياح، وإذا برد طهران -مع
تهوين البعض منه- ينال من سمعة إسرائيل، التي تصرفت هي بعقل هذه المرة فكان ردها
ذرا للرماد في العيون، خشية الرد الإيراني على الرد، وها هو العالم يقف على أطراف
أصابعه بعد الإعلان الإيراني بالرد على الضربة الإسرائيلية الأخيرة، بعد أن كانت
طهران بترددها تثير السخرية. وود كثيرون ممن ينحازون للمقاومة ألا ترد ليستمروا في
سخريتهم منها، فلم يتذكروا أنها شيعية سوى الآن، ولم يتذكروا انحيازها لبشار الأسد
إلا عندما بدت أذرعها في المنطقة، ومن لبنان إلى اليمن، تمثل إضافة مهمة للمقاومة!
الزعيم نتنياهو سابقا:
ومنذ الخطاب الأول في المعركة سخرتُ من حسن الله، الذي
بدا لي أنه محلل سياسي لا أكثر، وكتبت عنه ساخرا، لكن بغباء نتنياهو فقد فجر
الموقف باستهدافه؛ وهو (نصر الله) رجل السياسة الحصيف، الذي كان يعلم أن الجبهة
اللبنانية ليست كلها معه، ولا يريد أن يعطي ذريعة لانقلاب لبنان عليه إن وسعت
إسرائيل دائرة الحرب، فقتله نتنياهو فصار جيش الاحتلال يتعرض لحرب
استنزاف على
مدار الساعة، فكيف لم يصل اختراقه للحزب إلى كل هذه الصواريخ، وكل هذه الطائرات
المسيرة؟!
قبل هذه الهمة من جانب المقاومة اللبنانية، بدا لي أن
الإجرام الذي يرتكبه نتنياهو في
غزة، قد يرتقي به ليكون لدى الناخب الإسرائيلي
واحدا من زعماء الكيان الكبار، الذين يشار لهم بالبنان في تاريخهم الملطخ بالدماء،
لكن الأمر مشكوك فيه الآن، وجيشه بقياداته وجنوده ودباباته يتعرضون لحرب الاستنزاف
هذه، فقد جلب للكيان العار، حد أن غرفة نومه تستهدفها مسيرات المقاومة، وحد أن
يستشعر الخطر فيلغي زيارة له لبلدة حدودية شمال الكيان، انفجرت فيها مسيرة لحزب
الله، فيبدو هو نفسه كريشة في مهب الريح!
وقد وصلت مسيرات المقاومة إلى المصانع الحربية فأصابتها
في مقتل مثل مصنع مكونات الطائرات في نهاريا.
وإزاء هذا كله، فإن البارجة الأمريكية تحركت إلى
المنطقة، كسلاح ردع لا أكثر، من أجل إحداث التوازن لتبقى الغلبة لإسرائيل كما كانت
دائما، وقد نوهنا إلى دلالة التدخل الأمريكي بإرسال السلاح في اليوم الأول لطوفان
الأقصى، فإسرائيل لا تملك السلاح اللازم لعملية كبرى كهذه، فماذا لو وضعت المقاومة
هذا بحسبانها في المستقبل، لتكون الضربة الأولى هي مواجهة شاملة؟!
إن نتنياهو كان قبل قليل يتحدث عن غزة بدون حماس، وعن
لبنان بدون حزب الله، باعتباره قادرا على ذلك، وآن له أن يعرف حدوده، ويعرف أنه لا
يملك سلطة تقرير المصير في المنطقة!
وقد استشعرت دول الإقليم هذا الموقف العصيب الذي يمر به
الكيان، فالإعلام الإماراتي لم يشمت في عملية استشهاد يحيى السنوار، واكتفى بنعي
من أحد كتابه (عبد الخالق عبد الله) بما لا يتسق مع سياقه، وترك الأمر للإعلام
السعودي، ممثلا في قناة "العربية" ومن حولها، وعندما هاجمت الجماهير هذا
الخذلان والذي تبدى في أحد التقارير، كان التدخل بحذفه والإطاحة بكاتبه وعدد من
القيادات، ثم كانت الدعوة إلى مؤتمر قمة عربي واسلامي لمناقشة الحرب، وكانت
المملكة تبدو قبل ذلك ليست معنية بما يحدث في غزة ولبنان!
ولا يمكن تجاهل الموقف المصري من واقعة السفينتين؛
الأولى التي قيل إنها رست في ميناء الإسكندرية محملة بالأسلحة لإسرائيل، والثانية
التي أبحرت في قناة السويس، وكانت البيانات المتلاحقة في الأولى تنفي وتندد بمن
يقول ذلك، وكذلك الاندفاع الرسمي والإعلامي لتبرير هذا المرور، وكيف أنه خاضع
لاتفاقية القسطنطينية، وتذكرت مع ذلك أن الاعلام الرسمي المصري كان يتعامل مع
الوجود التركي في مصر على أنه احتلال، والاتفاقية وُقعت في عهد الدولة العثمانية،
ودار الإفتاء ذهبت بعيدا فنشرت منشورا، كشف عن مراهقة المفتي ومن معه، بإدانة فتح
القسطنطينية لأنها مثلت انتهاكا لحقوق المسيحيين، إذ كان يتعامل على أن أردوغان هو
الفاتح، وعندما انفجرت منصات التواصل الاجتماعي بالتنديد والسخرية، لأن الفاتح في
دائرة التكريم النبوي، تم حذف المنشور، وليس هذا هو الموضوع!
التعلق في الحبال الدائبة:
فها هم القوم يتعلقون في "الحبال الدائبة"،
وها هم يحتمون في القسطنطينية ومعاهداتها، ويستجيرون بالدولة العثمانية التي كانوا
يقولون إنها كانت تحتل مصر!
فالاتفاقية تنص على حرية الملاحة في قناة السويس، وكأن
هذه الاتفاقية لم تكن شيئا مذكورا عندما اتخذت السلطات المصرية ذاتها قرارها بمنع
السفن القطرية من المرور في القناة، ضمن الجهود المصرية في فرض الحصار على دولة
قطر، في أزمة لا ناقة فيها لمصر ولا جمل، فقد كانوا يبشرون المصريين بالانضمام
لمجلس التعاون الخليجي إذا خرجت قطر منه، وليس هذا موضوعنا أيضا.
فحالة الاستنفار العام للنفي في واقعة ميناء الإسكندرية،
والتبرير في واقعة قناة السويس، ما كان لها أن تحدث لولا أن أمور نتنياهو ليست على
ما يرام، ولولا أن عقدة الأمر لم تعد بيد الجيش الإسرائيلي، وفي وقائع أخرى منذ
العدوان الإسرائيلي، لم تنجح انتفاضة منصات التواصل في إجبار السلطات المصرية على
إبراء الذمة ولو ببيان!
الأمر اختلف الآن، فهي حرب استنزاف، لم يعمل لها نتنياهو
(ذلكم الغبي) حسابا، فاختفى جنون عظمته، وإن حل معه هذا الغباء المستحكم، وهو
يتعرض لاستنزاف يومي يفتقد هو معه شجاعة الاعتراف بالهزيمة ووقف الحرب!
على نفسها جنت براقش!
x.com/selimazouz1