هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
يعيش بيننا من صدّق أوهاما لا يصدقها عاقل ولا مغفل، مثل أن "الجنرال (سيسي) وزير دفاع بنكهة الثورة"، وأنه "يبكي خشوعا وهو يصلي صلاة الظهر".. وإلى آخر هذا الهراء!
هؤلاء الذين تغافلوا عن جميع التحذيرات (وهي بالآلاف)؛ يحاولون اليوم أن ينصحونا، وأن يحذرونا من المؤامرات المخابراتية المحبوكة التي لا يراها أمثالنا من المغفلين.
إذا سألتهم عن أي شيء.. ستجد الإجابة جاهزة: "إنها لعبة مخابراتية بلا شك".
أستغرب من اليقين الذي يتحدث به هؤلاء - ولهم كل الاحترام - وأستغرب من إصرارهم على تفسير كل شيء بالتفسير نفسه.
إذا سألتهم عن رأيهم في مسألة الإفراج عن السيد أبو العلا ماضي مثلا (في عام 2015).. ستجد التفسير جاهزا: ما خرج إلا لأن له دورا ما يخدم النظام.. لماذا أفرجوا عنه هو بالذات؟
إذا سألتهم عن مبادرة الفريق الرئاسي التي أطلقها الدكتور عصام حجي (عام 2016)، ستجد الإجابة نفسها: العسكر يلاعبنا بهؤلاء الليبراليين!
إذا سألتهم هذه الأيام عن إعلان ترشح الفريق شفيق، أو منعه من السفر، أو حتى عن اعتقاله وترحيله إلى مصر.. الإجابة واضحة.. إنه "فيلم مخابراتي" لتلميع الفريق شفيق!
إذا سألتهم عن العقيد أحمد قنصوه، وإعلانه المثير للجدل بشأن انتخابات الرئاسة، أو عن القبض عليه وحبسه على ذمة قضية عسكرية، ستجد الإجابة نفسها: "هذا ملف تم إعداده بعناية، ومنذ سنوات، في أروقة المخابرات"!
بالنسبة لي.. عندي مشكلتان.. المشكلة الأولى: أن هذا التفسير يقفز على عشرات الأسئلة البسيطة. فنحن أمام أفلام مخابراتية لا وجه للاستفادة منها أساسا. فما الذي يستفيده جهاز المخابرات من ترشيح شخص مثل "قنصوه"، لا فرصة لديه للفوز أصلا، ولا معنى ولا منطق لكل التفسيرات (مثل تفتيت الأصوات). أي تفتيت وأي أصوات إذا كان من يقولون بهذه الترهات لا يؤمنون بجدية الانتخابات القادمة أصلا؟
أما المشكلة الثانية: فهي اليقين المطلق الذي يتحدث به هؤلاء! وكأنه لا يوجد أي احتمال آخر إلا هذا الاحتمال.
***
هل يمكن أن يكون كل ما حدث للسيد الفريق شفيق والسيد قنصوه، وغير ذلك من الأحداث، "أفلاما مخابراتية"؟
من الناحية النظرية ممكن..!
ولكن يستحيل أن تكون كل الأحداث ضمن سيناريو تآمري، كما يريد أن يقنعنا البعض.
فهناك حقائق على الأرض لا يمكن إغفالها، وهي أننا نتعامل مع دول لا يرقى تفكيرها لهذا الذكاء أبدا، وأجهزتها الأمنية أغبى من أن تفكر سنوات إلى الأمام بهذه الطريقة المعقدة.. إنها دولة عبد العاطي كفتة.
كما أنه لا يوجد أي دليل على هذا التفسير الساذج. كل ما هناك أمران: عقدة نفسية ناتجة عن انقلاب 3 تموز/ يوليو 2013، والثاني عجز عن التفاعل الإيجابي مع كل ما يحدث من تطورات حولنا.
***
على الجانب الآخر، يعيش بيننا من يرى كل ما يحدث على طريقة "فخار يكسر بعضه"، وليس لنا أي علاقة بما يحدث، وليس هناك أي فائدة من ترشح فلان أو علان، وليس هناك أي إهانة في أن يؤخذ السيد شفيق من قفاه إلى القاهرة؛ من قبل إمارة أبوظبي التي أصبحت تتحكم في مصر، فأصبحنا نرى للمرة الأولى في التاريخ؛ قطا يقود أسدا!
هؤلاء - وأغلبهم من التيار الآخر - لا يبالي بما يحدث في الشأن المصري، ولا في الإقليم، ولا يكادون يربطون أي أحداث ببعضها. فلا يفهم أحدهم أن هناك رابطا بين حصار قطر وبين الربيع العربي، ولا يدركون أن انقلاب تركيا الفاشل له علاقة بسير الأحداث الداخلية في مصر والسعودية واليمن، ولا يفهمون أن هناك نظرية تسمى "الأواني المستطرقة"، وأن المنطقة العربية حاليا أصبحت وكأنها ملعب واحد يلعب فيه فريقان، ولا يوجد فريق ثالث، وكل ما يدخل من أهداف هي في الحقيقة إما لفريقك، أو في شباكك.. هؤلاء السذّج لا يدركون أن هناك مباراة أصلا، وإذا تحدثت مع أحدهم ستجد كلاما طفوليا عن مبادئ ثورة يناير (وهو كلام لا يختلف على جوهره أي شخص محترم)، ولكن إذا سألته عن الواقع، وعما هو ممكن، ستسمع كلاما لا علاقة له بالمنطق.
***
في هذه اللحظات.. لا بد أن ندرك أن خططا كثيرة قد وضعت للمنطقة، بعضها ينجح، وبعضها على وشك الفشل، فخطة مثل "صفقة القرن" على وشك أن تفشل (في رأيي).
والذي يحدث اليوم في الولايات المتحدة من تحقيقات مع كبار المسؤولين، وتساقطهم واحدا تلو الآخر، ووصول السقوط إلى الدائرة الأقرب للرئيس الأهوج ترامب.. كل هذا ستكون نهايته - في رأيي - إما سقوط ترامب نفسه، أو على الأقل تراجع قدرته في إنفاذ وتنفيذ صفقة القرن.
ضعف ترامب.. ينعكس على كل حلفائه، وأولهم المتسلط المندفع السعودي، والسفاح المدعو "سيسي"، فهذا الجنرال كان ينتظر دوره في صفقة القرن بفارغ الصبر، لكي يصبح ذو حيثية دولية.
وحين يحاول السيد ترامب أن يعلن نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، فهو بذلك يقوم بعملية انتحارية بعد فشل الصفقة، وكأنه يهرب للأمام، أو يحاول أن يدفع ثمن دعم اللوبي الصهيوني في أزمته مقدما.. وهو تكنيك غبي؛ لأن من يدفع مقدما لا يحصل على شيء (خصوصا مع الصهاينة).
مجموعة متشابكة من العوامل تؤدي إلى تراجع القدرة على تنفيذ هذه الصفقة، بعضها في الداخل الأمريكي، وبعضها في واقعنا العربي.
***
من هذا المنطلق.. تأكد أن ترشح السيد أحمد شفيق (أيا كان رأينا في الفريق شفيق)، هو غالبا عمل حقيقي جريء (وربما متهور بعض الشيء)، وليس فيلما كما يريد بعض المساكين أن يقنعوا أنفسهم. وما توفر لدي من معلومات يؤكد أن برنامجه في عدة دول كان حافلا، وأن ظهوره كان سيهز رئيس جمهورية الأمر الواقع "سيسي" بشكل مباشر.
وما حدث لشفيق أمران: الأول إهانة لكل مصري.. فلا يحق لأبناء زايد أن يقبضوا على رئيس وزراء مصري سابق تحت أي زعم، حتى لو كان فاسدا أو مجرما، هذا ليس من شأن هؤلاء الصبية.
الأمر الثاني.. لقد مُنع السيد شفيق من الترشح باتفاق مصري إماراتي؛ لأنه يمثل خطرا على "سيسي"، فهو مرشح يمكن أن يكسب الانتخابات (وليس لذلك أي علاقة بكونه رجلا طيبا أو شريرا).
***
خلاصة القول: الساحة المصرية والعربية مليئة بالأحداث، ومن يعتقد أن كل ما يحدث مجموعة من المؤامرات المخابراتية لا يمكن أن يقود الناس في مثل هذا الظرف الذي نعيشه، ومن ينفصل عن الواقع ويعتبر أن ما يحدث لا علاقة للثورة به، فهو أيضا شخص لا يستحق أن يثق الناس فيه، وأن يطلبوا رأيه.
مصر والمنطقة تمران بأحداث متسارعة، تحتاج إلى سياسيين قادرين على التفاعل، وعلى الفعل، وعلى التوقع.. والأهم من كل ذلك.. نحن نحتاج إلى جبهة واسعة من المعارضين تتحد، بحيث يصبح لها وزن أمام الشعب، وأمام العالم، وحينها لن يضرنا أن تكون كل هذه الأحداث حقيقية أو محبوكة في أجهزة المخابرات، فكم من الأحداث بدأت كمسرحية من الحاكم، وتحولت إلى حقيقة بسبب تعامل الناس معها بجدية!
موقع الكتروني: www.arahman.net
بريد الكتروني: [email protected]