بعد أن أجبروا على إخلاء موقع استيطاني متقدم داخل الأراضي
الفلسطينية، قد يعمد أعضاء الكنيسيت
الإسرائيلي إلى تغيير القواعد الخاصة بالاحتلال الإسرائيلي في
الضفة الغربية، وسيكون لذلك عواقبه الدراماتيكية.
في واحد من أكثر البرامج الوثائقية الجامعة حول التاريخ القانوني للاحتلال الإسرائيلي في المناطق الفلسطينية وعنوانه "القانون في تلك الأجزاء"، يُوجه السؤال التالي إلى الرئيس السابق للمحكمة العليا في إسرائيل مئير شامغار: "لماذا كانت المحاكم الإسرائيلية باستمرار تمتنع عن التعامل مع مسألة مدى قانونية المستوطنات؟".
بعد لحظة صمت طويلة، أجاب شامغار: "لا أعرف"
لا يوجد شخص مؤهل للإجابة عن هذا السؤال أكثر من شامغار نفسه. فقد كان يشغل منصب رئيس دائرة المدعي العام داخل الجيش الإسرائيلي أثناء احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة في يونيو / حزيران 1967، ثم شغل بعد ذلك منصب المدعي العام من سنة 1968 وحتى ترشيحه للمحكمة العليا في عام 1975. ولذلك فقد كان يعتبر أحد مهندسي الاستراتيجية القانونية التي انتهجتها إسرائيل داخل المناطق المحتلة.
ولقد كان حجر الزاوية في هذه الاستراتيجية هو رفض الاعتراف بأن الضفة الغربية وقطاع غزة "مناطق محتلة" ينبغي أن تطبق فيها بنود اتفاقية جنيف الرابعة، على الرغم من أن هذه الاتفاقية كانت تطبق بشكل "طوعي" على نفس تلك المناطق.
باختصار، كانت الاستراتيجية تقضي بالتصرف كقوة احتلال عسكري دون الاعتراف الرسمي بذلك لا من قبل المحاكم الإسرائيلية ولا من قبل المجتمع الدولي.
أتاح هذا الغموض الفرصة أمام إسرائيل لأن تضع وجها قانونيا، على الأقل في عينيها هي، على احتلالها الذي استمر لما يقرب من 50 عاما، الأمر الذي سمح للفلسطينيين باللجوء إلى المحكمة العليا، بينما مضت وبشكل متزامن في توطين مئات الآلاف من الإسرائيليين في الضفة الغربية، في مخالفة صريحة للمادة رقم 49 من اتفاقية جنيف الرابعة التي تحرم نقل السكان المدنيين وتوطينهم في المناطق المحتلة.
نهاية الغموض
قد تكون نهاية هذا الغموض قد اقتربت بسبب ما باتت تطلق عليه معظم وسائل الإعلام الإسرائيلية اسم "قانون التطبيع" (مع أن الاسم الأنسب والأصح له هو قانون مصادرة الأملاك أو قانون السطو على الأملاك)، والذي يجري نقاشه حاليا داخل البرلمان الإسرائيلي. إذا ما أقر هذا القانون فإنه سيمهد الطريق نحو الضم الكامل والتام للضفة الغربية والتي يحكمها وبشكل رسمي تقريبا نظام من التمييز العنصري.
لا عجب إذ ذاك أن يكون من أشد المعارضين لهذا القانون هو المدعي العام الحالي أفيخاي ماندلبليت، الذي يدرك جيدا محاسن هذا الغموض الذي طال أمده والذي صاغه بكل عناية سلفه شامغار. فهو يعلم علم اليقين أن نفس الأسس التي يقوم عليها نمط
الاحتلال الإسرائيلي باتت مهددة وأن الخطر محدق بها من كل جانب.
كان هذا القانون قد اقترح في الأصل من أجل الحيلولة دون إخلاء أمونا، وهو موقع استيطاني متقدم أقيم بدون إذن رسمي على أراض بالقرب من رام الله تعود ملكيتها إلى عائلات فلسطينية. وكانت المحكمة العليا الإسرائيلية قد حكمت قبل أكثر من عامين بوجوب تفكيك ذلك الموقع وإعادة الأراضي إلى أصحابها. وبعد تسويف وتأخير مستمر، تقرر أن يكون الموعد النهائي لإخلاء أمونا هو يوم الخامس والعشرين من ديسمبر.
ما من شك في أن تفكيك موقع استيطاني متقدم كبير الحجم يعيش فيه ما يقرب من 40 عائلة (مع العلم أن معظم المواقع الاستيطانية المتقدمة أصغر من ذلك بكثير) لأمر يصعب تجرعه من قبل حكومة تعتبر الأكثر يمينية في تاريخ إسرائيل.
ولكن بعد أن نطقت المحكمة العليا بحكمها النهائي، أدرك حتى السياسيون من أمثال وزير التربية نفتالي بينيت، رئيس حزب البيت اليهودي، أنه بات من المستحيل تقريبا منع ذلك من الحدوث.
استخدام أمونا
وبناء على ذلك فقد قرر بينيت وأعضاء حزبه، ومعهم في ذلك العديد من أعضاء حزب الليكود الذي يتزعمه رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، استخدام أزمة أمونا لتحقيق هدف آخر أعلى طموحا، ألا وهو تغيير الوضع القانوني القائم الذي حافظت على استمراره الحكومات الإسرائيلية المختلفة منذ عام 1967 وحتى الآن، وهو أمر واقع تُحكم فيه الضفة الغربية من قبل القادة العسكريين الإسرائيليين وما يصدر عنهم من مراسيم وقرارات وليس من قبل البرلمان الإسرائيلي وما يصدر عنه من قوانين.
يحمل كل فلسطيني على كاهليه العبء اليومي للقانون العرفي العسكري المطبق في الضفة الغربية، من حواجز التفتيش إلى الاعتقالات اليومية إلى الخضوع للمحاكم العسكرية. هذه الأمور لا تعني الكثير بالنسبة للمواطنين الإسرائيليين الذين يعيشون في نفس المناطق، والمقصود بهم المستوطنون. فهؤلاء يدفعون ضرائبهم داخل إسرائيل، ويصوتون لانتخاب برلمان إسرائيلي ولانتخاب المجالس المحلية (البلديات)، وعندما يقدمون للمحاكمة فإنهم يحاكمون أمام محاكم إسرائيلية مدنية.
ومع ذلك، فثمة جانب واحد مهم يشعرون بأنهم مقيدون تجاهه، ألا وهو استخدام الأراضي. صحيح أن إسرائيل تمكنت عبر السنين من إيجاد طرق متعددة لسلب أراضي الفلسطينيين من خلال تصنيفها على أنها أراضي دولة اعتمادا على قانون عثماني عفا عليه الزمن يعود إلى القرن التاسع عشر. وفعلا، فقد بنيت معظم المستوطنات على مثل هذه الأراضي التي يزعم بأنها ملك للدولة، والتي وصلت مساحتها حتى الآن ما يقرب من 900 ألف دونم (الدونم الواحد يعادل ألف متر مربع).
سمح شامغار وزملاؤه المدعون والقضاة لهذه العملية بأن غضوا الطرف وتجاهلوا الأمر. واكتفوا بوضع قيد واحد ينص على حظر استخدام الأراضي المملوكة للفلسطينيين بشكل شخصي لأغراض بناء هذه المستوطنات، حيث اعتبروا أن استخدام الأراضي المملوكة بشكل شخصي يشكل انتهاكا صريحا لاتفاقية جنيف، والتي قامت إسرائيل فعليا بتطبيقها في الضفة الغربية لسنوات طويلة، وإن لم يكن ذلك بشكل رسمي.
صمم قانون التطبيع / أو قانون مصادرة الأملاك من أجل كسر هذا القيد. إذا ما صدر هذا القانون فإنه سيسمح للحكومة بمصادرة الأراضي المملوكة للفلسطينيين بشكل شخصي والتي تم فوقها بناء آلاف الوحدات السكنية ضمن العديد من المستوطنات، وليس فقط في أمورا.
عندما جوبه المبادرون باقتراح هذا القانون بتهمة أنه يرقى إلى السلب والنهب، ذهب هؤلاء يدافعون عنه قائلين إن مصادرة الممتلكات أداة مشروعة استخدمتها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة. من المؤكد أن مصادرة أراضي الفلسطينيين لصالح اليهود دون غيرهم ليس بالأمر الجديد في التاريخ الإسرائيلي.
صودرت ملايين الدونمات من الملاك الفلسطينيين بعد حرب عام 1948 داخل إسرائيل من أجل بناء مئات المستوطنات اليهودية الجديدة. وبعد ضم القدس الشرقية في يونيو / حزيران من عام 1967، صادرت إسرائيل مئات الآلاف من الدونمات من أجل إنشاء أحياء جديدة لليهود حصرياً. والهدف من القانون الجديد هو الاستمرار في هذا الإرث من مصادرة الأراضي وبناء المستوطنات.
هل هو فصل جديد في الضفة الغربية؟
ما من شك على الإطلاق في أن نتنياهو من الناحية العاطفية قريب من هذا الإرث، ويرغب في رؤية المستوطنات تزداد انتشاراً كلما أمكن ذلك. ولكن، لعله يفهم في نفس الوقت أنها من خلال إجازة هذا القانون، ومن خلال تطبيق قوانينها بشكل رسمي داخل الضفة الغربية، فإن إسرائيل ستتخلى فعليا عن غموضها الذي استمرت فيه طويلا بشأن الوضع القانوني للمناطق التي احتلتها في عام 1967.
سوف يفتح هذا القانون الطريق أمام الضم الكامل، وهي الخطوة التي طالما تجنبتها إسرائيل باستمرار خشية ما يمكن أن يترتب على ذلك من تداعيات دولية، وكذلك لأنها لا تشتهي "بلع" 5ر2 مليون فلسطيني يعيشون هناك. وهذا ما يفسر المعارضة الشديدة التي يبديها المدعي العام مانديلبيلت للقانون.
لن ينقذ هذا القانون مستوطنة أمورا، التي قد تفكك خلال الأيام القليلة القادمة بعد أن رفض سكانها "تسوية" عرض عليهم من خلالها الانتقال إلى أراض أخرى مجاورة يملكها فلسطينيون ملكية خاصة.
ليس واضحا ما إذا كانت عملية الإخلاء ستتم بشكل سلس. من المتوقع أن يتنادى آلاف الأنصار من التيار اليميني المتطرف لشد عضد سكان أمورا ومساعدتهم على مقاومة الإخلاء. وهناك احتمال لا بأس به بأن تشوب العملية أعمال عنف. وفيما لو حصل ذلك فإنه في الأغلب سيؤثر على تماسك الائتلاف الحكومي الذي يقوده نتنياهو والذي تلعب فيه العناصر اليمينية المتطرفة دورا مهما.
إلا أن السؤال الأكبر يحوم حول مصير قانون التطبيع / المصادرة، وحول ما إذا كانت إسرائيل ستتخذ قرارا بالتخلي عن سياسة الغموض التي ما لبثت تنتهجها. فبعد أن نجحت هذه السياسة على مدى أعوام طويلة، يبدو من غير الحكيم أن تتخلى عنها إسرائيل في هذا الوقت.
ولكن اليمين الجديد في إسرائيل، والذي يستمد الإلهام من النصر الذي حققه دونالد ترامب وكذلك من التصويت الذي حسم الأمر لصالح خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، قد ضاق ذرعا بسياسة الغموض. كما أن ترشيح دافيد فريدمان، المعروف بتأييده الشديد لمشروع الاستيطان، سفيرا جديدا للولايات المتحدة الأمريكية في إسرائيل قد يشير إلى أن زمن الغموض قد ولى، وأن إسرائيل قد تكون على وشك الدخول في فصل جديد تماما من احتلالها للضفة الغربية.