مقالات مختارة

وأخيرا.. يبدو أن انتصار إسرائيل في معركة القدس انتصار أجوف

1300x600

(أراد نتنياهو من إسرائيل أن تستعد لحدث تاريخي يوم يعترف ترامب بالقدس عاصمة لها، إلا أن النتيجة كانت مخيبة)

 

كان من المقرر لتوقيت اعتراف الرئيس دونالد ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل أن يترك أكبر الأثر على الجمهور الإسرائيلي

بدأ ترامب الحديث في الساعة الثامنة مساء بالتوقيت المحلي (الواحدة ظهراً بتوقيت واشنطن، وهو توقيت غريب بالنسبة لخطاب تاريخي). إنه التوقيت الذي تبدأ فيه شبكات التلفزيون الإسرائيلية برامج الذروة المسائية. وكان نص الخطاب قد أتيح لهم مسبقاً حتى تتمكن القنوات التلفزيونية من إعداد الترجمة العبرية وكتابتها على الشاشة حينما يبث الخطاب. 

أجمع المعلقون الإسرائيليون في تقييمهم لخطاب ترامب أنه كان تاريخياً. حتى اليسار لم يسعه إلا أن يعبر عن سعادته لسماع رئيس الولايات المتحدة يتحدث بذلك الوضوح عن ارتباط اليهود بعاصمتهم، وعلى مدى ثلاثة آلاف عام. 

كان رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو في حالة من النشوة الاحتفالية، وهو الذي ولد من صلب مؤرخ متخصص في العصر الوسيط، إذ اعتبر تصريح ترامب واحداً من أهم الأحداث في التاريخ اليهودي المعاصر، لا يقل في أهميته عن وعد بلفور وإعلان استقلال إسرائيل في عام 1948 واحتلال (أو تحرير، كما يعتبره هو) القدس في عام 1967. أما وزيرة الثقافة ميري ريغيف، تلك المرأة المشهورة بغرورها، فقالت إن اسم ترامب "سوف يحفر إلى الأبد في حجارة القدس وحائط المبكى."

بدون احتفالات


ومع ذلك، ورغم الترحيب الحار الذي قوبل به خطاب ترامب في أوساط الجمهور الإسرائيلي، إلا أن إسرائيل لم تشهد مظاهر بهجة وفرح، ولا حتى شهدتها مدينة القدس ذاتها. يبدو أن معظم الإسرائيليين اكتفوا بالعلم أن الرئيس الأمريكي انحاز إليهم بشكل لا لبس فيه، ولكنهم أخفقوا في إدراك كيف يمكن أن يؤثر ذلك على حياتهم. فمنذ اليوم الأول في الحضانة، يلقن الإسرائيليون بأن القدس هي عاصمتهم. ولذلك، ورغم كل ما فيه من رمزية، لم يأت خطاب ترامب بجديد.

ومع مرور الأيام بات واضحاً أنه حتى من الناحية السياسية لم يكن لكلمات ترامب ذلك الأثر الذي بشر به اليمين الإسرائيلي، والذي اختار تجاهل إعلان ترامب بأن الحدود ستقرر في المفاوضات اللاحقة. وسواء كان ذلك التجاهل متعمداً أم غير متعمد، اكتفى اليمين الإسرائيلي باعتبار الإعلان اعترافاً صريحاً بشرعية ضم إسرائيل للقدس الشرقية. 

خذ على سبيل المثال موقف وزير النقل إسرائيل كاتز، أحد أقوى الرجال في حزب الليكود الذي يتزعمه نتنياهو وصاحب الحظ الأوفر في كسب معركة التنافس على خلافته فيما لو أجبر على الاستقالة بسبب التحقيقات الجنائية الجارية ضده. أبدى كاتز من الشجاعة ما يكفي حين صرح لموقع إيلاف السعودي بأن ترامب لم يعترف بما أسماه "القدس الموحدة" (العبارة التي يكنى بها عن ضم الجزء الفلسطيني من المدينة) عاصمة لإسرائيل، بل ترك الباب مفتوحاً بشأن قضية القدس الشرقية. يعتبر مثل هذا الموقف بعيداً جداً عن حالة الابتهاج والشعور بالنصر اللذين عبر عنهما نتنياهو تجاه خطاب ترامب. 

جرى ربط إعلان ترامب بالرسائل المتبادلة بين الرئيس جورج دبليو بوش ورئيس الوزراء الإسرائيلي آرييل شارون في عام 2004، والتي كتب فيها الرئيس الأمريكي يقول إن مشكلة اللاجئين الفلسطينيين ينبغي أن تحل خارج حدود إسرائيل وأن أي صفقة سلام يتم إبرامها لابد أن تأخذ بالاعتبار المستوطنات الإسرائيلية القائمة في الضفة الغربية. 

إلا أن ذلك مضلل. فرغم أن المستوطنات وحق العودة يبقيان موضع نزاع كبير في جميع المفاوضات التي تجري بين الإسرائيليين والفلسطينيين، إلا أن الفلسطينيين في واقع الأمر لم يرفضوا بتاتاً الاعتراف بأن القدس الغربية ستكون عاصمة لإسرائيل بعد التوقيع على اتفاق للسلام. 

ليس هناك من مبادر

بل تبدو الساحة الدولية أقل حماسة تجاه إسرائيل. لم يخف نتنياهو رجاءه في أن تتبع بلدان أخرى في العالم ما ذهب إليه ترامب، وإذا ما أخذنا بالاعتبار الوزن الذي ارتبط تقليدياً بمواقف الولايات المتحدة، فيمكن القول إن ذلك كان توقعاً معقولاً. وعندما أعلن رئيس جمهورية التشيك ميلوس زيمان أن بلاده قد تنظر في أمر الاعتراف بالقدس الغربية عاصمة لإسرائيل، اعتبر ذلك قطرة أولى في موجة قادمة من الاعترافات الدولية. 

إلا أن ذلك لم يحدث. ثم أمل نتنياهو أن يتمكن خلال زيارته إلى بروكسيل في وقت مبكر من هذا الأسبوع، وهي الزيارة التي كانت مقررة قبل خطاب ترامب، من إقناع بعض الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي على الأقل بالاعتراف بالقدس، إلا أنه فشل. بل بادرت فيدريكا موغريني، مسؤولة الشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي، إلى رفض الخطوة الأمريكية رفضاً قاطعاً وحسمت أمرها وأعلنت عدم تقديم أي تنازلات بهذا الشأن. ولم يحقق نتنياهو نتائج أفضل حينما التقى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. 

وحتى جمهورية التشيك ودولة المجر، وهما من أكثر البلدان في أوروبا الشرقية موالاة لإسرائيل، واللتان استثمر فيهما نتنياهو جهداً ووقتاً كبيرين جداً، امتنعتا في نهاية المطاف عن الإفصاح عن متى ستنقلان سفارتهما إلى القدس، هذا إن كانتا ستفعلان ذلك أساساً. 

تعلم نتنياهو هذا الأسبوع درساً عن محدودية القدرة الأمريكية في التأثير على دول العالم الأخرى في عهد ترامب. وإذا ما أقدم زعماء الاتحاد الأوروبي – كما ورد في تقارير نشرتها وسائل إعلام إسرائيلية – على إعلان القدس عاصمة مشتركة لإسرائيل والدولة الفلسطينية المستقلة القادمة، فسوف يشكل ذلك هزيمة دبلوماسية هائلة لإسرائيل. 

من وجهة النظر الإسرائيلية تبدو الصورة مختلطة فيما يتعلق بالفلسطينيين. فما من شك في أن الأحزاب والمنظمات الفلسطينية التي أجمعت فيما بينها على الدعوة إلى مظاهرات ضخمة في الأسبوع الماضي قد فشلت حتى اللحظة في تحريك الجماهير. 

الاحتجاجات

وقعت احتجاجات وصدامات في كافة المدن الفلسطينية إلا أن مستوى الفعل جاء أدنى بكثير مما كان متوقعاً. وخلال ذلك مارس الجيش الإسرائيلي درجة معقولة من ضبط النفس، وخاصة في الضفة الغربية، ونظراً لأن عدد الضحايا ظل حتى هذه اللحظة منخفضاً فقد تجاهلت وسائل الإعلام الإسرائيلية تلك المظاهرات. 

فسر معظم المعلقين الإسرائيليين هذا الرد المبدئي الفاتر على أنه يمثل فشلاً ذريعاً للرئيس محمود عباس ولحركة حماس التي تمنت انطلاق انتفاضة ثالثة. إلا أن مثل هذا التفسير ناجم عن رؤية قصيرة المدى، فالمظاهرات لم تتراجع بل ازدادت حدة يوم الجمعة، وصار الوضع على امتداد الحدود مع قطاع غزة أكثر عنفاً ولقي أثناء ذلك عدد من المحتجين حتفهم.  

ولكن الأهم من ذلك كله هو أنه وبعد أن كادت قضية فلسطين تصبح نسياً منسياً لدى معظم العالم العربي والإسلامي، ساعدت مسألة القدس محمود عباس على إحياء القضية الفلسطينية في الساحتين الإقليمية والدولية، ووجهت المظاهرات التي نظمت في كثير من أرجاء العالم الإسلامي رسالة واضحة مفادها أنه حينما يتعلق الأمر بالقدس، فإن الفلسطينيين لا يقفون وحدهم. 

لم تفاجأ إسرائيل بالقرار الصادر عن القمة الإسلامية التي انعقدت في إسطنبول هذا الأسبوع وشاركت فيها سبعة وخمسون دولة عضواً في منظمة التعاون الإسلامي والذي أعلن أن القدس الشرقية هي عاصمة دولة فلسطين. ومع ذلك لا يمكن لإسرائيل تجاهل حقيقة أن لديها علاقات دبلوماسية كاملة مع عشرين على الأقل من الدول الأعضاء في هذه المنظمة. 

الحلفاء العرب يلتزمون الصمت

ولا يقل أهمية عن ذلك أن "المحور السني" – والذي يتكون من المملكة العربية السعودية ودول الخليج ومصر – والذي علق عليه نتنياهو وإسرائيل آمالاً كباراً، يبدو أنه تلقى ضربة موجعة. فمع أن اللغة التي استخدموها كانت لطيفة إلا أن مصر والمملكة العربية السعودية لم يكن أمامهما من خيار سوى التنديد بخطاب ترامب، ويصعب تصور كيف يمكن للحكومة السعودية السماح لنفسها بتطوير علاقاتها مع إسرائيل كما كانت تتمنى في واقع الأمر حتى اللحظة التي سبقت إتيان ترامب بخطوته الأخيرة. 

من خلال رفضهم استقبال نائب الرئيس الأمريكي مايك بنس في رام الله، يكون عباس والفلسطينيون قد رفعوا السقف في تحدي ما كان يعتبر الجهة الأقوى، وربما القوة الخارجية الوحيدة، ذات العلاقة بالصراع الدائر في الشرق الأوسط. يبدو أن المراهنة نجحت حتى الآن. وإذا كان ترامب يرجو الدفع قدماً "بصفقته النهائية" من خلال إقناع السعوديين بالضغط على الفلسطينيين للقبول باتفاق تكاد تجمع كل التسريبات على أنه ليس في صالحهم، فيبدو حالياً من غير المحتمل أن ينجح في ذلك بعد الآن. 

على الرغم من ذلك الموقف الفلسطيني، ستبقى الولايات المتحدة المفاوض الأساسي في الشرق الأوسط خلال المستقبل المنظور، وذلك بالدرجة الأولى لأنه لا يوجد أي جهة أخرى – لا الاتحاد الأوروبي ولا روسيا – على استعداد لأن تحل محلها. إلا أن الضعف الذي انتاب الدبلوماسية الأمريكية خلال الأيام الأخيرة لن يساعد أصدقاءها في المنطقة على الإطلاق، وفي مقدمتهم إسرائيل. لا يقصد من ذلك القول إن تعهد أمريكا بالاعتراف بالقدس عاصمة لها قد كبد إسرائيل خسارة، وإنما المقصود هو أنه لم يأت لها بمكاسب ملموسة.  

 

 

(عن موقع "ميدل إيست آي" البريطاني، مترجم خصيصا لـ"عربي 21")

الأكثر قراءة اليوم
الأكثر قراءة في أسبوع