اقتضى أمر عائلي، أن أمضي في الخرطوم نيفا وثلاثة أسابيع، لم أتابع خلالها من وسائل الإعلام إلا الصحف السودانية. وبما أن ما فينا في السودان يكفينا، ولدينا منه فائض للتصدير بلا مقابل، فإن صحفنا غير معنية كثيرا بما يحدث في أي بلد آخر. وبما أن قنواتنا التلفزيونية تعتبر أن رسالتها تقتصر على بث الأغاني الركيكة من حيث الكلمات والتوزيع الموسيقي واللحن، ونوع آخر من الأغاني يرددها المطبلون للحكومات بأصوات شعبولية، فقد كانت علاقتي بوسائل الإعلام مقطوعة بالكامل طوال تلك المدة.
ولأن الأمر العائلي الذي استوجب صمودي في الخرطوم في فصل الخريف، حيث يرتفع دخل الفرد من الذباب والبعوض إلى معدل مخيف، سار بسلاسة نسبية، فإن العيش في جهل شبه تام بوقائع الأمور في مختلف أنحاء العالم، زادني إحساسا بالراحة.
ثم عدت إلى مقر إقامتي وعملي في الدوحة، وكان لزاما علي أن "أواكب" الأحداث بأثر رجعي، حتى أكون قادرا على مواصلة عملي في شبكة تلفزيونية إخبارية، ورجعت إلى أرشيف أكثر من صحيفة إلكترونية من بينها عربي21، وفي غضون ساعتين أو أقل قليلا أحسست أنني مواكب وما فاتني شيء:
• غارات إسرائيلية على غزة (هذه من باب "تابع ما قبله"، أي أمر لا جديد فيه، بل إن سوء الأحوال في غزة وعموم فلسطين، لم يعد قضية عربية، وربما كانت وجهة النظر العربية الرسمية هي أن الفلسطينيين نالوا حصتهم الكافية من الاهتمام، وذبحونا بقضيتهم لأكثر من نصف قرن، فصار السوريون أولى بالمعروف، و"المعروف" هنا ليس العمل الحسن والعون والمساعدة، بل "ما هو معلوم": استنكار تجاهل الغرب لمعاناة السوريين، ثم إرسال المعلبات الغذائية للاجئين سوريين هنا وهناك).
من مقتضيات الإنصاف أن نشيد باهتمام المجتمع الدولي، ممثلا في بعض المنظمات الغربية بمصير الكائنات الحية في حديقة الحيوانات في غزة، التي كانت تعاني من الجوع والمسغبة، وفي غضون ساعات كان هناك جسر جوي ينقلها إلى جنوب أفريقيا وإسرائيل وغيرهما، لتتلقى الرعاية الطبية والتغذية الصحيحة وتنعم بكافة حقوق "اللجوء". أما أهل غزة البشر، فعندهم الجسر الأرضي عبر معبر رفح ولو تحلوا بالصبر فإن بضع عشرات منهم يستطيعون اجتيازه مرة كل أربعة أشهر.
• معركة الحكومة العراقية مع تنظيم الدولة الإسلامية لتحرير الموصل باتت وشيكة ("وشيكة" في هذا السياق تعني "الشيك المؤجل"، فقد كانت تلك المعركة "وشيكة" في مثل هذا اليوم من العام الفائت، ثم قبل ستة أشهر، ولكن – يا جماعة – هنالك أولويات، فكيف تدير حكومة بغداد معركة حاسمة وهي لا تستطيع إدارة نفسها؟ فلابد من اتفاق مكونات تلك الحكومة حول من ينبغي أن يتولى أمر وزارة الدفاع، لأنه من مقتضيات الديمقراطية العراقية، أن يتم التداول السلمي لتلك الوزارة بين الأحزاب، لأن ذلك يؤدي الى التوزيع العادل للثروة، فصفقات الأسلحة الوهمية والحقيقية تدر على من يمسك بملف الدفاع وحزبه البلايين، ومتى ما نال كل حزب مستحقاته من تلك الصفقات ستصبح معركة تحرير – أو استعمار – الموصل ممكنة).
• الأوضاع في اليمن (هنا أيضا كل شيء كما كان، فجماعة عبد الله صالح والحوثيين ما زالت "حية" تسعى، وجميع الأطراف لديها من الذخائر والآليات الحربية ما يكفي لمواصلة الاقتتال إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية، و"كلها" سنة وبضعة أشهر ويأتي وسيط أمريكي لحل الإشكال بتشكيل حكومة وحدة وطنية – ولك أن تتساءل: كيف تحمل حكومة في اليمن صفة "وحدة وطنية"، والبلاد برمتها لم تعرف الوحدة على مدى أكثر من مائة وخمسين سنة؟).
• ليبيا (مالها ليبيا؟ القذافي لم ينهض من قبره، مما يؤكد أن الثورة الشعبية على نظامه ما زالت منتصرة، وجميع أقاليم ليبيا – طبرق وطرابلس والزنتان وسبها – تنعم بالحكم الذاتي، بل إن تقاسم السلطة أعطى كلاً من خليفة حفتر وتنظيم الدولة الإسلامية مدينة عليها القيمة).
والشاهد هو أن الانقطاع عن متابعة/ مواكبة الأحداث في ما يسمى بالعالم العربي لحين طويل أو قصير من الدهر، لن يجعلك جاهلا بـ"مجريات الأمور"، لأن تلك الأمور ليست في حقيقة الأمر جارية، بل مفرملة وتقف عند كل محطة زمنية لأشهر وسنوات وربما عقود، وليس في ذلك ما يعيب حكامنا، لأنهم أحفاد من اخترعوا الصفر، والوقوف طويلا عند الصفر احترام لتركة الأسلاف.
وثِقْ بي أيها القارئ عندما أقول لك ذلك عن تجربة، بل أذهب إلى أبعد من ذلك وأكرر نصحي لك بالابتعاد عن الفضائيات العربية عدة أسابيع كل بضعة أشهر، وعلى مسؤوليتي فإنك إن فعلت ذلك ستحس بالعافية النفسية والعضوية. كن مثلي واعتبر كل مسؤول عربي يظهر على شاشات التلفزة "شعبولا" وعدم رؤية شعبولا وسماعه "نعمة".