كتاب عربي 21

الأوجاع الداخلية لحركة النهضة

1300x600
كانت حركة النهضة تفتخر دائما بأنها، خلافا لبقية الأحزاب التونسية، بقيت محصنة ضد الانقسام والتشتت. وهناك عشرات التصريحات التي صدرت في هذا الشأن خلال السنوات الأخيرة التي تلت الثورة، وحتى قبلها. وهو رأي قريب من الصحة، خاصة عندما تتم مقارنة وضع الحركة بتنظيمات أخرى شهدت عديد الأزمات التي عصفت بوحدتها. ومع ذلك، فإن الوضع الداخلي للحركة أصبح غير مريح منذ فترة. فبعد مغادرة أمينها العام السابق حمادي الجبالي، الذي تحمّل مسؤولية رئاسة الحكومة خلال الشوط الأول من حكم الترويكا، حصلت عديد التطورات الداخلية التي كشفت عن أن الحركة بدأت تفقد الانسجام الكامل بين مكوناتها.

تابع الجميع الجدل الذي حصل بسبب البحث عن صيغة للخروج من إشكالية الدعوي والسياسي. وقد كان لتصريحات الغنوشي رئيس الحركة دوي واسع في صفوف الأعضاء. وبعد أن تم حسم ذلك خلال المؤتمر العاشر للحركة، قرر القيادي الحبيب اللوز مغادرة مجلس الشورى، رغم أنه كان عضوا منتخبا. ويعتبر اللوز من بين الشخصيات الدعوية التي طالما أثارت جدلا واسعا بسبب تصريحاته القريبة من الطرح السلفي، إضافة إلى انتقاداته الشديدة لما اعتبره انزلاقا خطيرا للقيادة السياسية في تعاملها مع المرحلة التي عقبت الثورة.

عندما انعقد المؤتمر الأخير للحركة، كشفت النقاشات والمواقف عن وجود تباينات عميقة بين عديد الكوادر الأساسية حول مسألتين، تعلقت الأولى بالخط السياسي العام الذي تبنته الحركة، والذي بلوره بالخصوص رئيسها الشيخ راشد الغنوشي. لم يظهر ذلك في بداية تجربة الانتقال الديمقراطي، وإنما حصل المنعرج بعد ما سمي في تونس بـ"لقاء باريس" الذي جمع الغنوشي بخصمه السياسي السابق الباجي قايد السبسي.

لقد غيّر هذا اللقاء أشياء كثيرة من القناعات السابقة لرئيس حركة النهضة، الذي قرر أن يذهب بعيدا في تحالفه الجديد مع شخصية أصبحت محورية في الحالة التونسية الراهنة، خاصة بعد أن وضع الغرب ثقله لدعم السبسي. لكن هذا التحالف وضع في المقابل حركة النهضة أمام تحديات حرجة، وهو ما يفسر الارتباك الذي طغى على مواقفها الداخلية. وقد تجلى ذلك بوضوح عندما قررت أغلبية كوادر الحركة وقواعدها التصويت خلال الانتخابات الرئاسية لصالح المنصف المرزوقي؛ بدل الباجي قايد السبسي الذي دعا الغنوشي إلى مساندته.

ونظرا للانشقاق الذي حصل داخل حزب نداء تونس لأسباب متعددة، ومن بينها العلاقة مع حركة النهضة، إلى جانب تعثر حكومة الحبيب الصيد، وتراجع دور "النهضة" في إدارة شؤون الدولة بعد أن قبلت بشروط رآها البعض قاسية، تعالت أصوات ناقدة لهذا الخط السياسي، وتطالب بمراجعته. لكن هذه الأخيرة لم تكسب أغلبية أصوات المؤتمرين.

أما المسألة الثانية التي حصل حولها اختلاف حاد، فتعلقت بدعوة عدد من كوادر الحركة إلى ضرورة انتخاب أعضاء المكتب التنفيذي مباشرة من قبل المؤتمرين، إلى جانب انتخاب رئيس الحركة. لكن الغنوشي اعترض على ذلك بحجة أنه في حاجة لفريق متجانس من مساعديه ليتمكن من قيادة الحركة، وعلى هذا الأساس هدد بالانسحاب من قيادة الحركة، ما أحدث رجة قوية في صفوف الأعضاء والأنصار، وكاد أن يخلق شرخا عميقا في صلب الحركة. وعندما فشل هؤلاء في تمرير مقترحهم، قام رئيس الحركة باختيار فريق مؤيد له.

اليوم، خرج الخلاف من داخل أطر الحركة، وأصبح متداولا في وسائل الإعلام، وذلك بعد التصريحات التي أدلى بها وزير الصحة السابق عبد اللطيف المكي، وطالب بما فهم منه محاسبة رئيس الحركة راشد الغنوشي الذي انفرد بالإعلان عن تأييد الحركة لتعيين يوسف الشاهد رئيسا للحكومة؛ قبل انعقاد مجلس الشورى. لقد رفض مكي موافقة الحركة على تكليف يوسف الشاهد ليتولى رئاسة الحكومة بهذا الأسلوب، وعلل ذلك بقوله: "لدينا تخوّف حقيقي مما يحدث. التونسيون عانوا الويلات من جرّاء "العائلات" من عهد بورقيبة الذي أفرز مراكز نفوذ ومصالح إلى عهد بن علي، الذي أصبحت معه الظاهرة مهيكلة. كان من المفروض الابتعاد عن الشبهات، حتى وإن كنا نحترم الرأي الآخر الذي يقول بحق كل تونسي في ممارسة العمل السياسي أو تقلد المناصب الحكومية، سواء كان ابنا أم صهرا يزعجنا بالفعل".

المؤكد أن حركة النهضة يمكن أن تفقد بعض كوادرها الأساسية خلال المرحلة القادمة، وإذا لم يحصل ذلك فإن النقاش الداخلي مرشح لمزيد من التوتر، وربما التوسع. وسيكون ذلك مرتبطا بمدى قدرة القيادة على الصبر وإدارة الخلافات بشكل ديمقراطي، إلى جانب مآل الحكومة القادمة التي ستشارك فيها الحركة بحجم ينسجم مع ثقلها العددي بحكم كونها الحزب الثاني في البلاد. وكلما وفقت حكومة الشاهد في تحسين الأوضاع، ساعد ذلك قيادة حركة النهضة على التحكم في خلافاتها الداخلية. لكن في حال حصول فشل حكومي جديد، فإن الأوضاع داخل صفوف حركة النهضة ستصبح مفتوحة على عديد الاحتمالات الخطرة.