حدث ما كان متوقعا، حيث وقف الحبيب الصيد بصفته رئيسا للحكومة أمام أعضاء
البرلمان ليدافع عن نفسه وعن أداء حكومته، رغم أنه يعلم مسبقا بأنه لن ينال ثقة الأحزاب الحاكمة التي ساندته من قبل، واتفقت السبت على ضرورة تغييره.
رغم أن الكثيرين رأوا في إصرار الصيد على التوجه إلى مجلس نواب الشعب خطأ سياسيا منه، وافترضوا أنه قد عرض نفسه لإهانة قاسية، لكن في الحقيقة ما حصل في
تونس يمثل ممارسة ديمقراطية قام بترسيخها هذا الرجل من خلال قبوله المرور بهذه التجربة القاسية. البرلمان هو الذي يضفي الشرعية على رئيس
الحكومة، والبرلمان هو الذي يسحبها منه. وبالتالي، انتهى العهد الذي كان فيه مصير الوزير الأول معلقا بإشارة تصدر من رئيس الجمهورية الذي بلغ به الشعور بالتأله السياسي - خاصة في عهد بن علي - إلى درجة جعلته يعتقد بأنه هو الذي يحيي وهو الذي يميت.
من الطبيعي أن يدافع كل مسؤول عن أدائه، وهو ما فعله الصيد في خطابه، إذ رفض بشدة اتهامه بالفشل، حيث قام بتذكير الجميع بالوعود التي قدمها للتونسيين عند توليه مهام رئاسة الحكومة، ثم استعرض النتائج التي تحققت، لكن ذلك لم يغير شيئا من مصيره، ويعود ذلك إلى عاملين أساسيين:
يتعلق العامل الأول بوجود شعور سلبي لدى الطبقة السياسية بمختلف مكوناتها إلى جانب منظمات المجتمع المدني وعموم التونسيين. أصبح هؤلاء يتحدثون منذ فترة طويلة عن إخفاق الحبيب الصيد والفريق الحكومي في إقناع الرأي العام بأن له برنامج متكامل، كما لم ينجح في إشعار المواطنين بأن البلاد قد بدأت تشهد تغييرا ملموسا على أكثر من صعيد. ورغم أن الصيد حاول في كلمته أمام البرلمان أن يفند ذلك بالأرقام، إلا أن أي حكومة مهما كانت قوية ستخسر معركتها إذا كانت لا تستند على سياسة اتصالية مقنعة وفعالة. وهذه تعتبر من الثغرات الرئيسية التي عانت منها ولا تزال معظم الحكومات التي تعاقبت على إدارة شؤون البلاد منذ الثورة حتى الآن.
أما العامل الثاني الذي جعل صوت الصيد لا يخلف أي صدى لدى مستمعيه يخص الفاعلين المتحكمين في المشهد السياسي، أنهم أصبحوا مقتنعين بأن وضع شخصية أخرى على رأس الحكومة القادمة وتحت يافطة "الوحدة الوطنية" من شأنه أن يخفف الضغط عليهم، وقد يسمح لهم بامتصاص حالة الإحباط التي تهيمن حاليا على عموم التونسيين. فالمثل الشعبي التونسي يقول: "تغيير السروج فيه راحة"، والمقصود بذلك أن الحصان عندما يشعر بالتعب يجب أن يتم تغيير سرجه حتى يشعر بالراحة ويكون مستعدا لاستئناف السير وتحمل الأعباء. لكن المشكل القائم حاليا في تونس لا يتعلق بالإبقاء على الصيد أو استبداله، وإنما يكمن في غياب البديل المتفق حوله حتى الآن.
لا شك في أن تونس ليست عاجزة عن إنتاج شخصيات قيادية، ولكن ما تمت ملاحظته أن البعض من هؤلاء قد اعتذروا عن تحمل المسؤولية بسبب خوفهم من تسلط الأحزاب الكبرى، وبالأخص "حزب نداء تونس" الذي يسعى بكل الطرق لكي يعين واحدا من كوادره ويضعه على رأس الحكومة القادمة. وهذه معضلة أخرى لم تكن موجودة من قبل، فتقديم مصلحة الحزب على مصلحة الدولة والبلاد قد تكون له تداعيات خطيرة من شأنها أن تؤثر على العلاقات داخل أجهزة الحكم وقد يمتد ذلك إلى نطاق أوسع.
من الناحية الديمقراطية، كل حزب يحصل على المرتبة الأولى في نظام برلماني أو شبه برلماني مثلما هو الشأن في تونس، يكون من حقه أن يحكم، وأن يختار رئيسا للحكومة. لكن التجربة التونسية كشفت أن الحصول على المرتبة الأولى في عدد أعضاء البرلمان لن يكون ضامنا لوحده حسن إدارة شؤون الدولة إذا كان هذا الحزب لا يملك بين صفوفه من هو قادر على تشكيل حكومة قوية ومقنعة وأن ينجح في كسب ثقة أهم الفاعلين في البلاد. فرئاسة الحكومة مثلها مثل رئاسة الجمهورية تفرض توفر شروط إضافية إلى جانب موازين القوى العددية. ولهذا السبب حاولت الطبقة السياسية التونسية تجاوز المنطق العددي، وراهنت في مناسبات سابقة على صيغة التوافق التي تأخذ في الحسبان حالة التنوع السائدة في مرحلة انتقالية هشة وصعبة.
بناء عليه، يجري حاليا البحث عن شخصية يفترض فيها ألا تكون من التكنوقراط، أي تحمل خلفية سياسية تسمح لها بحسن التعامل مع السياسيين، دون أن تكون بالضرورة شخصية حزبية. وهنا يتأكد أن توفير مثل هذه الشخصية ليست عملية يسيرة. يضاف إلى ذلك أن عديد الأطراف اشترطت ألا يكون رئيس الحكومة القادم من الحرس القديم الذي سبق له أن عمل مع الرئيس بن علي، وأن يكون قادرا على الخطابة للتواصل مع المواطنين، وأن يتمتع بثقافة اقتصادية دنيا تجعله واعيا بتحديات الملفات المالية والاقتصادية، وأن تكون له رباطة جأش وشجاعة سياسية تسمح له بالتصدي إلى شبكات الفساد، وإقامة العدل وتطبيق القانون.
الأيام القادمة وحدها هي التي ستكشف ملامح رئيس الحكومة القادم، وإن كان الأهم من ذلك هو مدى استعداد الأحزاب السياسية على مساعدته والتعاون معه في سبيل خدمة مصالح الشعب وتفعيل الدولة.