وكما قال الشاعر: "صياد رحت أصطاد صادوني"!..
كان الشاعر "الحلمنتيشي" يحكي عن مأساته، وكأنه يصف حالة عبد الفتاح
السيسي، بعد هزيمته الساحقة والماحقة في موقعة "هشام جنينة"، رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات، فكان قرار حظر النشر ليستر العورات التي تبدت للناظرين!
لا ينزل "جنينة" للسيسي من زور، رغم أن الأول بذل كل ما في وسعه من أجل أن يتقرب إليه زلفى، ولكن وكما قال القائل: "وليس كل من تهواه يهواك قلبه"، ومن الواضح أن الأمر له علاقة، بأن رئيس جهاز المحاسبات استخدم صلاحيته في عهد الرئيس محمد مرسي بالتفتيش على ميزانية وزارة الدفاع، وهو الأمر الذي مكنه منه الرئيس، بعد أن كانت رئاسة الجمهورية ووزارتا الدفاع والداخلية خارج رقابة الجهاز، وذلك رغم أن القانون يمنحه الحق في المراقبة، ويبدو أن "جنينة" علم أكثر مما ينبغي من فساد، ويبدو أن حدته وصلت "السيسي" فأزعجته، والشخصيات التي تعاني ضعفا يمنعها من الرد السريع، فإن الخصومة تتحول عندها إلى غل يتحين الفرصة للانتقام!
الانقلاب أعاد الأمور إلى مرحلة ما قبل الثورة، وقد أعلن "هشام جنينة"، أكثر من مرة أنه لم يتمكن من مراقبة ميزانية الرئاسة، ووزارتي الداخلية والدفاع فيما هو خارج التسليح ونحو ذلك، وكان هذا المشهد وحده كافيا لتأكيد كذب الادعاء بأن
مصر مرت بثورتين عظيمتين، فلا توجد إلا ثورة واحدة عظيمة، أما الثانية فهي الثورة المضادة، التي غلت من جديد يد الجهاز المركزي للمحاسبات عن مراقبة ميزانية الرئاسة والوزارتين، كما كان الحال عليه في عهد مبارك، مع أن القانون يخضع كل ميزانيات أجهزة الدولة، بل والأحزاب السياسية والمؤسسات الصحفية القومية لرقابة الجهاز.
السيسي لم يلتق بجنينة منذ الانقلاب العسكري، ولم يدعه لأي مناسبة مع أنه موظف كبير في الدولة المصرية، ثم عين له نائبين دون علمه ليعلم بالقرار بعد إذاعته، وقبل ذلك أُصدر قرار بقانون يعطيه الحق في عزل رؤساء الهيئات المستقلة، وكان واضحا أن المستهدف بهذا القانون هو رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات، فضلا عن أن السيسي يرفض فكرة تحصين المواقع، باعتباره هو الحاكم الناهي، وإذا كان دستور الانقلاب قد حصن منصب وزير الدفاع، في لحظة كان مقررا له هو أن يستمر وزيرا، فإن الدعوات التي تطلق الآن بضرورة تعديل الدستور لمنحه صلاحيات جديدة، ومد فترة الرئاسة من أربع إلى ست سنوات، تستهدف بالإضافة إلى ذلك، إلغاء التحصين، ليس لأن وزير الدفاع ضده، ولكن لأن السيسي لا يريد لأحد أن يكون شريكا له في الحكم، أو يعتقد أن وجوده في منصبه هو بقوة الدستور، وليس بقوة "عبد الفتاح"!
كان يمكن لقائد الانقلاب العسكري أن ينتظر إلى شهر سبتمبر المقبل موعد انتهاء ولاية "هشام جنينة" فلا يجدد له، وليعين السيسي نائبه "هشام بدوي" مكانه في هدوء، لكن "الغل" دفعه لأن يتعجل في أمره، ليكون الخروج مهينا، فنظام السيسي يحطم كل القامات وكل الخيارات المحتملة، و"جنينة" بنى سمعته على أنه من قضاة الاستقلال الذين قاموا بانتفاضة ضد مبارك، فضلا عن أنه كشف الكثير من مواطن الفساد. وهذا ما يمكن أن يجعل منه "بديلا محتملا"، ومؤهلا للإجماع الوطني العام!
إذن لابد من التشهير به، فاعتبر السيسي أن التصريح المنسوب له في "اليوم السابع"، الخاص بفاتورة الفساد في مصر هو المدخل للإجهاز عليه، فشكل لجنة لتقصي الحقائق برئاسة النائب المستجد لرئيس الجهاز وخصمه، وبعضوية ممثلين لوزارات كشف الجهاز فسادها، وانتهت اللجنة من تقريرها سريعا وتوجهت به للرأي العام.
وقد كان هذا بمنزلة "كلمة سر الليل"، فعدد من النواب في "برلمان السيسي" جمعوا التوقيعات لمحاكمة "جنينة" تمهيدا لعزله، وجرى اتهامه بأنه يهدم الدولة المصرية، وهو الاتهام الرائج هذه الأيام، كما لو كانت هذه "الدولة"، هي "دولت" التي يخشون على سمعتها من القيل والقال، وقد ورد في الأمثال أن البنت ليس لها إلا سمعتها، وأن شرف البنت كعود الكبريت لا يشتعل إلا مرة واحدة!
كان المقرر أن يمثل "جنينة" أمام البرلمان، ليس فقط لمحاكمته، وإنما لإهانته والاعتداء عليه، وكانت الحجة المعلنة أنه بحديثه عن الفساد إنما يدمر البلد، ويمنع الاستثمار الأجنبي، مع أن الدستور الذي أقسم "نواب الغبراء" على احترامه يلزم رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات بتقديم تقاريره للرئاسة وللبرلمان وللرأي العام!
قالوا إن مبلغ الستة مليار جنيه قيمة الفساد مبالغ فيه، فإذا برجل أعمال واحد يتصالح مع الدولة برد مليار جنيه، وإذ كان "جنينة" أعلن أنه سيرد على تقرير لجنة تقصي الحقائق بعد "
25 يناير"، فقد قام بنفسه وربما عبر معاونيه بتسريب بعض المعلومات الصادمة لوسائل الإعلام، فجعل الرأي العام يقف على أن الأزمة ليست في أنه يهدم الدولة، ولكن في أن السيسي يرى أن اعتبار الدولة يتحقق بهذا الفساد، وظهر أن خصومه هم الرعاة الرسميين للإجرام في حق المال العام. وبالمرة فقد تم تسريب مذكرة للرئاسة وضعت فيها عبارة بالغة الأثر، تفيد أن هذه التقارير لم تشمل مراجعة ميزانية الرئاسة ووزارتي الداخلية والدفاع التي منع الجهاز من مراجعتها، سوى في فترة حكم الرئيس محمد مرسي، ليقف الرأي العام كله على مصر التي كانت في عهد الرئيس المنتخب، وكيف تحولت في عهد نجل مبارك بالتبني؟!.. أما نحن فقد وقفنا من خلال هذه المذكرة، على أن فترة حكم المجلس العسكري التي استمرت عاما ونصف العام بعد الثورة لم يمكن خلالها الجهاز من مراقبة هذه الميزانيات، رغم أن "جودت الملط" عزل من رئاسة جهاز المحاسبات بعد ثورة الموظفين فيه، وكانت الثورة من مبرر واحد أنه لم ينفذ القانون بالرقابة على وزارة الداخلية بالذات، لأن وزارة الدفاع كان يجري التعامل على أن ميزانيتها "سر حربي"، مع أن نشاط الوزارة والأندية المتعددة التي تؤجر في الأفراح ولأمور أخرى اجتماعية، لا تدخل في باب تسليح الجيش استعدادا للمعركة الفاصلة ضد أهالي سيناء!
لقد كنت من الذين تبنوا مطلب عزل المستشار "جودت الملط"، واتصل بي الرجل هاتفيا، وبدأ مكالمته بسؤال، قبل أن يفصح عن شخصه: ماذا تريد مني؟!.. وفهمت على الفور أنه سؤال له علاقة، بما قبله، فقد عين في موقعه في سنة 1999، بعد أن خرج على التقاعد من عمله القضائي السابق، الذي توج برئاسة مجلس الدولة، وكان آخر عمل له هو حكم يلغي حكما لمحكمة أول درجة يقضي بعزل "إبراهيم نافع" من رئاسة مؤسسة "الأهرام الصحفية"، لأنه بقي في موقعه أكثر من عشر سنوات بالمخالفة للقانون ولوصوله سن الإحالة للمعاش!
كان مبارك متمسكا بنافع في منصبه، الذي ظل مستمرا فيه لعامين بعد سن الستين، وعندما انتبه مبارك لذلك قام بتعديل القانون بالمد لسن الخامسة والستين، وبعد إقراره اكتشفوا أنه لا يسري على "نافع" فلا يسري عليه المد بأثر رجعي؛ لأنه من الناحية القانونية هو على المعاش، فرأي مبارك أن يتركه بالمخالفة للقانون!
وإذ اختلف "نافع" مع عدد من مرؤوسيه، فقد أقاموا دعوى أمام محكمة القضاء الإداري تطلب بوقف وإلغاء القرار السلبي لمجلس الشورى بالامتناع عن تعيين رئيس تحرير ورئيس مجلس إدارة لمؤسسة "الأهرام"، وصدر الحكم لصالحهم!
يقول الراوي إن "إبراهيم نافع" قال لمبارك إنه لا يريد أن يضع الرئاسة في حرج، فهو يقدم استقالته للرئيس، ولم يكن مبارك على علم بشيء، فلما علم بأمر الحكم تعامل بعدم اكتراث، وقد كان في حكمه يتعامل مع أحكام مجلس الدولة على أنها وجهات نظر، أو مقالات رأي!
حينذاك كان "جودة الملط" منتدبا مستشارا قانونيا في مؤسسة الرئاسة، وجرى الطعن أمامه في المحكمة الإدارية العليا في حكم القضاء الإداري فألغاه، وكانت هواية عندي الاحتفاظ بالأحكام المهمة لمجلس الدولة، فحصلت على نسخة من الحكم، الذي أظنه الأخير في تاريخ "الملط" القضائي قبل أن يعينه مبارك رئيسا للجهاز المركزي للمحاسبات، وقد راعني فيه هذه القدرة القانونية الخارقة على التأسيس لأمر باطل، وقد بذل فيه جهدا عظيما وكأنه يكتبه للتاريخ، وحتى إذا تم الاطلاع عليه بعد ذلك، أيقن المطلع أنه وإن جاء مخالفا للقانون، فإن صاحبه اجتهد ولن يحرم من أجر المجتهدين!
هذا حكم نهائي وبات، لأنه من أعلى محكمة، وقد صدر من أجل أعلى رأس في السلطة، إلا أن القاضي احتشد لكتابته. فكتبت مقالا مليئا بالعبارات الموحية وأبديت فيه إعجابي بهذه القدرة العقلية والقانونية ولمن يؤسس لأمر مخالف للقانون، أتذكر أنني بدأته بعبارة "آمنت بالله"، الذي خلق هذه العقلية التي استعان بها مبارك في رئاسة الجهاز المركزي للمحاسبات، ولم يكن مسموحا بالتطاول على حكم قضائي، لكن إذا كان القاضي بذل جهدا في شرعنة الباطل، فلم أكن بحاجة لأن أبذل جهدا في أن أقول في الحكم كل ما أريد، وبعبارات لا تضعني تحت طائلة القانون، ووصلت الرسالة لصاحبها واستوعبها!
بعد عدة أيام من كتابة هذا المقال، تلقيت خبر وفاة أحد أقربائي، فسافرت لمسقط رأسي بالصعيد لتكون أول برقية عزاء تصل إلي هناك من المستشار "جودت الملط" رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات، ثم ظل فترة يرسل لي عبر زميل أنه يتابع زاويتي اليومية بـ "الأحرار"، وأنه معجب بكتاباتي، وكنت أفهم دلالة الرسالة، التي كان ينقلها الزميل مندوب صحيفتنا في الجهاز بشكل روتيني!
ولهذا فقد اعتبرت سؤال "الملط": ماذا تريد مني؟!.. عطفا على الموقف القديم الذي مر عليه حوالي اثني عشر عاما، فانطلقت لأبدد هذه الصورة بإحالته على ما يردده المحاسبون بالجهاز من أنه عطل النص القانوني، الذي يوجب عليه مراقبة ميزانية وزارة الداخلية..فعاد ليقول لي: ومن كان في مصر كلها يجرؤ على الاقتراب من وزارة الداخلية؟.. ولماذا لا يحتج هؤلاء الثوار على هذا التقاعس قبل الثورة؟!
لقد أقيل "الملط" بقوة الدفع الثوري، وعينت "منيرة عبد الهادي" في موقعه، واتضح أن المجلس العسكري لم يمكن الجهاز مما مكنه منه مرسي بعد ذلك، ومن مراقبة الرئاسة ووزارتي الداخلية والدفاع، وهي شهادة في صالح الرئيس المختطف!
في إطار سعيهم لتشويه "هشام جنينة" وتأكيد أنه إخواني يعمل على هدم الدولة، قالوا: ولماذا لم يتقدم ببلاغات للنائب العام إن كان بالفعل صادقا فيما يدعيه من وجود فساد، فإذا به يعلن أنه تقدم بـ (399) بلاغا لم يحقق فيهم!
وأحيط بالسيسي من كل جانب، وبدت المعركة محسومة لصالح رئيس جهاز المحاسبات، فالرجل يتشكل في الوجدان الشعبي زعيما، وقائد الانقلاب يتبدى للناس أنه راعيا للفساد باعتباره أحد مكونات انقلابه!
فكان لابد من ستر العورات، وبقرار حظر النشر، من خلال افتعال بلاغ جرى تقديمه للنائب العام ليستغل في إصدار القرار الذي تخلق في رحم البطلان، مع أن القضية ليس فيها مبرر قانوني واحد يستدعي صدور هذا القرار الذي يعد إساءة لاستخدام السلطة، والدستور وإن أقر عقد جلسات سرية للبرلمان، فإنه لم ينص على هذا بالنسبة لتقارير الجهاز الذي أوجب الدستور عرضها على الرأي العام دون استثناء!
لكنه الإثم الذي حاك في الصدر، هو الذي دفع للتصرف على أن جهاز المحاسبات هو محكمة الزنانيري للأحوال الشخصية، تنظر دعوى خلع من زوجة تجد حرجا من أن تعلن أمام الناس أن طلبها للطلاق هو لأنها تخشى ألا تقيم شعائر الله!
فليدندن السيسي الآن في أسى بقول الشاعر: "صياد رحت أصطاد صادوني"، على الوقع الموسيقي لأغنية حسن الأسمر: "كتاب حياتي يا عين.. ما شفت زيه كتاب.. الفرح فيه سطرين.. والباقي كله عذاب"، لأنه مشهد لا تصلح له موسيقى أغنية "أمينة": "واركب الحنطور واحنطر"، التي تكمن المشكلة فيها أن "حنطر" على وزن حليفه الاستراتيجي " خليفة حفتر"!
بالمناسبة، لا أعرف ما إذا كان صاحب مقولة "صياد رحت أصطاد صادوني" شاعر، شاعر، مثل شوقي وحافظ ومصطفى كامل، أم إنه فقط "شاعر بالهزيمة"؟!
azouz1966@gmail.com