كثيرون يظنون لويس السادس عشر -آخر ملوك
فرنسا الذي قامت ضده الثورة- كان سيئا أو لا يبالي بالشعب، لكن الغريب لمن يطالع التاريخ أن لويس بدأ حكمه بمحاولة اكتساب عطف الشعب والاستجابة لبعض مطالبه، بعد أن عانى هذا الشعب الأمرين على يد آبائه ملوك فرنسا السابقين.
لكن النتيجة كانت عكسية؛ فالشعب الفرنسي الجائع، ومع استجابة لويس السادس عشر لبعض مطالبه، فقد انفتحت شهيته لمزيد من الطلبات، ونظم المزيد من الوقفات والاحتجاجات للحصول على المزيد من المكتسبات، حتى تطورت الأمور، واندفع المتظاهرون ذات يوم نحو سجن الباستيل المرعب.
والباستيل لمن لا يعلم كان حصنا في البداية وكان يسمى "الباستيد"، وتعني بالفرنسية الحصن، إلا أنه تحول سريعا إلى سجن لحبس معارضي الملك، واكتسب سمعة سيئة تقارب الآن سمعة سجن العقرب في
مصر! لقد أصبح الباستيل يمثل رمزًا للسلطة الحاكمة في باريس، لذا كان من الطبيعي أن يذهب المحتجون رأسا إلى سجن الباستيل.
الطريف في الأمر أن سجن الباستيل المرعب لم يكن يضم في ذلك الوقت إلا ستة أو سبعة مساجين فقط على اختلاف الروايات، منهم 4 مزورين، واثنين من المجانين! ورغم ذلك فقد كان المستهدف كسر سطوة النظام المتمثلة في السجن المرعب، وليس في تحرير سجناء سياسيين، رغم أن ذلك قد كلفهم مقتل ما بين 600-1000 من الثوار.
***
التشابه بين الثورتين المصرية والفرنسية كبير، وقد خصصنا لذلك عدة مقالات. لكن وجه الشبه الذي نريد أن نركز عليه في هذا المقال يتبدى في ثلاث نقاط رئيسية:
1 - مثلما استجاب لويس السادس عشر لبعض الطلبات في بداية حكمه، فلم يقنع المطالبون بذلك، بل ازدادت مطالبهم، فإن إغداق
السيسي بالأموال والمنح على قطاعات مؤيدة له (الجيش والقضاة) جعل الغيرة تتملك من قطاعات أخرى مؤيدة له وتريد المعاملة بالمثل! (
أمناء الشرطة).
2 - أن هيبة النظام الملكي في فرنسا سقطت بسقوط الباستيل رغم أنه كان يحوي ستة مساجين فقط، ورغم ذلك فإن انتصار الثورة الفرنسية الحقيقي حدث بعد ذلك بسنوات. وبالمثل فقد سقطت هيبة النظام القمعي في مصر في جمعة الغضب في 28 يناير، رغم أن انتصار الثورة الحقيقي لمّا يأتي بعد! وكل ما يجري هو محاولة بائسة يائسة شديدة العنف لأنها شديدة الضعف لاستعادة هذه الهيبة!
3 - في فرنسا في النهاية اضطر لويس السادس عشر إلى الاستماع إلى الطبقة الثالثة المطحونة، وتم وضع دستور أراد أن ينقل فرنسا من الملكية المطلقة إلى الملكية الدستورية التي يملك فيها الملك ولا يحكم، وتكون الصلاحيات للبرلمان "الجمعية الوطنية".
لكن مؤامرات الملك ورجاله وأعوانه -التي وصلت حد الاستعانة بالأجنبي المحتل- جعلت الثوار أكثر راديكالية، وأكثر رغبة في حسم الأمور والتخلص من النظام القديم حتى وصل الأمر إلى قناعة الثوار التامة أن الثورة لن تنجح إلا إذا تم إعدام آخر إقطاعي بأمعاء آخر قسيس! وبعد أن حافظ دستور الثورة على منصب الملك، فقد رأى الثوار ضرورة إعدامه وزوجته بعد الثورة بثلاث سنوات!
وها هو السيسي يسير على خطى لويس السادس عشر، إذ جعل من الشباب الرومانسي الحالم الراغب بالإصلاح السياسي والدستوري، ثوارا على قناعة تامة أنه لا سبيل لنجاح هذه الثورة إلا بالإطاحة والقصاص من كل رموز النظام القديم، من عسكريين وشرطيين وإعلاميين وقضاة.
***
مرتبات أمناء الشرطة ليست بالقليلة، وربما يطمح كاتب المقال أن يكون راتبه مثل راتب أحد أمناء الشرطة هؤلاء من متوسطي التعليم وأصحاب النفوذ الذي يمكنهم من تخليص أي ورقة في أي مصلحة حكومية، وهذه ميزة ضخمة لمن لا يعلم ذلك من غير المصريين.
فحسب قناة صدى البلد فإن الأمين الممتاز ارتفع من 3552 جنيها إلى 4992 جنيها، والأمين الممتاز الثاني ارتفع من 4512 جنيها إلى 6312 جنيها، أما الأمين الممتاز الأول فقد ارتفع من 5712 جنيها إلى 7872 جنيها!
ورغم ذلك فقد نظم أمناء الشرطة وقفات احتجاجية مطالبين بسبعة عشر مطلبا إضافيا، منها أن يتم صرف معاش لهم يقارب 300 ألف جنيها!
لقد رأى أمناء الشرطة رؤساءهم الضباط وهم يلفقون القضايا ويلصقون التهم بالأبرياء، وقد طلب منهم فقط الانشغال بالنشطاء السياسيين، والاستعانة بمسجلي الخطر والمجرمين والبلطجية في قمع الاحتجاجات والمظاهرات. وعندما كان يتم اقتحام بيت أحد معارضي الانقلاب كان الضباط يشجعونهم بقولهم أن كل ما في البيوت حلال لهم، فيسرقوا ما في البيت من أموال وحلي ومتاع! أما في رابعة فقد سحبوا مصاحف المعتصمين ووضعوا بدلا منها أسلحة وذخائر "ميري" لإثبات أن الاعتصام كان مسلحا! واقتحموا المسجد وأحرقوه، وأطلقوا النار على مسجد الفتح في وضح النهار!
ورأى أمناء الشرطة السيسي وهو يزيد من معاشات العسكريين أكثر من مرة، وكذلك القضاة ووكلاء النيابة، فوسوست لهم أنفسهم: لم لا يتم معاملتهم بالمثل إذن، وقد اكتسبوا عداوة قطاعات عريضة من الشعب، بينما القضاة والعسكريين لا يحتكون مباشرة بأي من المواطنين!
وحتى وإن كانت تظاهرات أمناء الشرطة لعبة شد وجذب بين رجال وزير الداخلية القديم والوزير الجديد، فإن هذا يعني أن الكلام عن صراعات داخل النظام ليس مجرد شائعات. وحتى إذا وافق أمناء الشرطة على تعليق اعتصامهم حتى 5 سبتمبر؛ فما تفسير الدعوة لمليونية للموظفين في 12 سبتمبر القادم إذن؟؟
***
لقد سقطت هيبة الدولة، بل فقدت الدولة بأسرها بجميع مؤسساتها شرعية وجودها، بانقلاب بعض الضباط معهم السلاح في الثالث من يوليو على إرادة الملايين التي أنتجت رئيسا منتخبا. كما خسرت جميع القطاعات المؤيدة للسيسي أي رصيد لها في المعركة الأخلاقية، فأصبحوا مرتزقة يمصون دماء الناس بقوة السلاح لا غير!
لقد فهم كل المشاركين في الانقلاب هذه المعادلة وشربوها، فأصبح كل هممهم أن يحصلوا على أكبر مكاسب ممكنة في أقل وقت، مع غياب تام لمعاني الوطنية والانتماء، وشيوع لمعاني الغيرة والأنانية فيهم، والبركة في السيسي الذي أشاع هذا بانقلابه.
ولقد كان هذا واضحا في تداعي أمناء الشرطة من القاهرة والإسكندرية والصعيد والقناة للتضامن مع زملائهم أمناء الشرطة بالشرقية، فالمطالب التي يرفعونها ضخمة وتستحق المغامرة، وهم أكثر من يعلمون أن استقرار السيسي مزعوم، وأن نظامه هش، رغم القسوة الشديدة التي يبدو عليها!
لقد عرف أتباع السيسي أنه لم يكن صادقا قط في كل وعوده بالتجرد وعدم الرغبة في الوصول إلى الحكم، وأيقنوا أنه ما فعل كل ما فعل إلا كي يصل إلى السلطة، بعد أيمان مغلظة بأنهم ليس له أي مطمع في أي شيء.. وحتشوفوا!
وعليه، فقد تحولت العلاقة بين السيسي وبين القطاعات المؤيدة له من حب جارف في الثالث من يوليو، إلى مصلحة بحتة، تقاس بمدى النفع الذي يعود على هذه القطاعات من تأييدهم للسيسي، الذي ثم ها هو الآن يضطر إلى الإبقاء على هذه العلاقة بالاستجابة لهذه القطاعات وزيادة دخلهم، على حساب شعب مطحون، قال السيسي عنه يوما إن أحد لم يحنو عليه!