في عام 1869 قادت إمبراطورة فرنسا يوجين أسطولا يحمل وفودا ملكية أوروبية شاركت في حفل افتتاح
قناة السويس والتي أشرف على إنشائها ابن عمها فيرديناند دي ليسيب. في تلك الأثناء أراد حاكم
مصر الخديوي إسماعيل أن يبهر ضيوفه فأمر بإنشاء حي جديد في القاهرة على عجل على الطراز الأوروبي، يشتمل على دار أوبرا مبهرجة، قرر أن تفتح بأوبرا جديدة مثيرة وخارقة للعادة. وفي النهاية، ورغم التأخير، كانت نتيجة ما أمر به الخديوي هي أوبرا عايدا للموسيقي الإيطالي فيردي.
وفي الخميس السادس من آب/أغسطس احتفل عبد الفتاح
السيسي، حاكم مصر الحالي - المشير السابق الذي غدا اليوم رئيسا، بافتتاح توسعة لقناة السويس من شأنها تقريبا أن تضاعف من سعتها. حل أطفال المدارس محل الضيوف الملكيين، ولكن كسلفه الخديوي أمر السيسي أيضا بالمضي قدما في تنفيذ مشروع إنشائي ضخم في القاهرة، حفزت الاحتفالات على كتابة نص جديد ببيئة مصرية. كان مؤلف هذا النص هو وزير الدفاع البريطاني مايكل فالون، الذي بلغ نصه من الخيال (الفانتازيا) ما بلغته أوبرا عايدة، إلا أنه كان أقل جمالا منها بكثير.
في مقال افتتاحي خاص نشرته له صحيفة الأهرام شبه الرسمية، وصف فالون القناة الجديدة بأنها "من عجائب العصر" وأنها رمز لطموحات مصر وتطلعاتها إلى "مستقبل أكثر أمنا وأكثر استقرارا وأكثر ازدهارا".
وقد أقر عرضا بتوقعات حكومة السيسي وتنبؤاتها المفرطة في التفاؤل بأن الريع من القناة متجه نحو الزيادة، ولكن الأهم من ذلك هو أنه أشاد بالسيسي معتبرا أن لديه "رؤية لمجتمع أكثر ثراء وأكثر ديمقراطية"، واعدا بأن يقف إلى جانبه كتفا إلى كتف في مواجهة الإرهاب الإسلامي، كما أشاد بالعلاقات العسكرية البريطانية مع مصر السيسي وبسجل بريطانيا كأكبر مستثمر قادم من الخارج.
وفي إشارة غير مباشرة لقضية حقوق الإنسان، أخبر فالون قراء الأهرام بأننا "مستمرون في تشجيع الحكومة على تنفيذ الحقوق التي يضمنها دستور عام 2014"، وهي لغة أشبه ما تكون بتلك التي استخدمها المعجبون بستالين حول الحقوق التي يضمنها الدستور السوفياتي الذي وضع في عام 1936.
كان واضحا من الصياغة أن فالون حرص كل الحرص على ألا يغضب مضيفه، حيث أعلن أن "المصريين رفضوا التطرف والسلطوية، فهناك بديل قابل للنجاح، وهو الحكومة التي تستجيب لمتطلبات الناس وتخضع للمحاسبة، حكومة تتأسس على الحقوق والحريات وسيادة القانون"، وكأنه يقصد القول بأن السيسي يقود حاليا حكومة بهذه المواصفات.
يعتبر فالون من أكثر السياسيين لطفا وفصاحة بين من تبقى على قيد الحياة من منتسبي المدرسة الثاتشرية في السياسة البريطانية، وكان قد عمل في وزارتين من وزارات حكومة الائتلاف الأخيرة، وكان يرأسه في كلتا الحالتين وزراء من الديمقراطيين الليبراليين، وقد تمكن خلال قيامه بعمله من تنفيذ السياسات الثاتشرية دون إعاقة تذكر، ثم وزيرا للدفاع منذ يوليو من عام 2014، عمد بذكاء إلى استغلال القلق البالغ الذي ساد مختلف الأحزاب السياسية بشأن الوضع المجهد الذي تمر به القوات المسلحة البريطانية فضمن من وزير المالية جورج أوزبورن التزاما بالإبقاء على معدل الإنفاق العسكري عند نسبة 2 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي.
إلا أنه بدأ مؤخرا يظهر ميولا مؤسفا نحو النطق بكلام سيء وأحمق بالأصالة عن رئيس وزرائه.
خلال الانتخابات العامة منح فالون زعيم حزب العمال آنذاك إيد ميليباند يوما من أيامه القليلة الجيدة، وذلك من خلال شن هجوم شخصي شديد عليه قال فيه إن إيد ميليباند الذي طعن أخاه في الظهر من قبل يمكن أن يفعل الشيء نفسه بالبلاد إذا ما أصبح رئيسا للوزراء.
ولكن، كانت تلك حركة استعراضية انتخابية ما لبث الناس أن نسوها بسرعة. أما النص الذي كتبه فالون حول السيسي فيعتمد أساسا على التحريف والتشويه وإخفاء الحقيقة، ويوطد علاقة بريطانيا بشريك أبعد ما يكون عن الثقة، ما فتئت أساليبه تتحول يوما بعد يوم إلى أعظم هدايا يمكن أن يطمع في الحصول عليها المتطرفون والجماعات الإرهابية التي تخوض ضدها بريطانيا حاليا حربا ضروسا.
من يقرأ مقال فالون لا يمكن أن يتصور بأن السيسي جاء إلى السلطة عبر انقلاب عسكري أطاح بأول رئيس مصري منتخب هو محمد مرسي.
ما من شك في أن حكومة مرسي الإسلامية التابعة للإخوان المسلمين ارتكبت أخطاء، سواء من حيث العرض أو من الناحية العملية، وتراجعت أحوال معظم المصريين بسبب الانقطاعات المستمرة والمتزايدة في الطاقة، والاحتجاجات الجماهيرية ضد حكومة مرسي في صيف عام 2013 كانت على الأقل جزئيا حقيقية.
ولكن مرسي لم يكن دكتاتورا ولا حتى مشروع دكتاتور، والدستور الديمقراطي الذي أجيز في عهده وافق عليه 64 بالمائة من المقترعين في استفتاء أجرى حوله في ديسمبر من عام 2012، وحينما أطيح به كان عدد الأحزاب السياسية المصرية الحية والنشطة لا يقل عن أربعين حزبا.
ما كاله فالون من مديح لمصر من أن فيها "حكومة تستجيب لمتطلبات الناس وتخضع للمحاسبة، حكومة تتأسس على الحقوق والحريات وسيادة القانون" سيبدو كلاما أجوف بالنسبة لعشرات الصحفيين الذين سجنوا بتهم ملفقة تتعلق بالإرهاب، مع أن السبب الفعلي لاعتقالهم هو امتناعهم عن نشر الأخبار على الصورة التي تتمناها حكومة السيسي. فالصحفيون بموجب تشريع سن مؤخرا يمكن أن يواجهوا عقوبة بالسجن لعامين إذا ما نشروا ما يناقض التصريحات الرسمية الصادرة عن أي مؤسسة حكومية بشأن العمليات الإرهابية.
ولربما حير مقال فالون جماعة الإخوان المسلمين المحظورة، والتي تظل الحركة السياسية المصرية الأكثر شعبية أو المنظمة الحكومية التي حرمت بشكل تعسفي من أن تسجل نفسها والتي صودرت ممتلكاتها وأموالها، كما سيحير ما يزيد عن 41 ألف مصري سجنتهم الحكومة الجديدة، غالبا لأسباب سياسية بحتة، أو يحير عائلات ما لا يقل عن 2600 إنسان قتلتهم الشرطة وقوات الأمن المصرية، بما في ذلك 800 قتلوا في ميدان رابعة في واحد من الاحتجاجات التي نظمت ضد الانقلاب على مرسي.
وفي العام الماضي وحده حكم على ما يزيد عن 500 إنسان بالإعدام بما فيهم مرسي نفسه، حتى أن من يدافعون عن السيسي، ويلتمسون له الأعذار يشعرون بالقلق ويخشون من تنفيذ الحكم الصادر بحقه.
ينطبق على ما يجري ما يروى من أن وزير الشرطة في عهد نابليون قال ذات مرة على وجه التهكم إن ذلك بمثابة "ما هو أسوأ من الجريمة، إنها خطيئة" من شأنها أن تضفي على مرسي هالة الشهادة، وقد تدفع ببعض أتباعه نحو الرغبة في الانتقام من خلال اللجوء إلى الإرهاب.
لم تزدد مصر أمنا بفعل القمع المتزايد الذي يمارسه السيسي، فبحسب تحليل صادر عن معهد التحرير الذي يتخذ من العاصمة الأمريكية واشنطن مقرا له تضاعفت الهجمات الإرهابية خلال العامين اللذين تبعا الانقلاب على مرسي خمسة عشر ضعفا مقارنة بالعامين السابقين للانقلاب.
بل ازدادت الهجمات الإرهابية التي شنت في القاهرة وفي شمال سيناء جرأة، وأصبحت أشد وقعا من أي وقت مضى. في حزيران/ يونيو لقي النائب العام في نظام السيسي هشام بركات حتفه اغتيالا، ولم تعرف بعد هوية من قاموا بالعملية. من المؤكد أن مثل هذه العملية تكشف عن عدم قدرة النظام على حماية عناصره الأساسية. ولقد عكر صفو احتفالات السيسي بقناة السويس تهديد منظمة الدولة الإسلامية الإرهابية بإعدام رهينة كرواتي.
بعد أن أظهر الاقتصاد بعض التحسن السريع تحت حكم السيسي، وبشكل خاص في مجال الطاقة، إلا أنه ما لبث أن أظهر الإخفاقات نفسها التي سادت عهود الأنظمة التي سبقته. وعلى الرغم من الضخ الهائل لأموال المساعدات، وبشكل رئيسي من المملكة العربية السعودية والكويت ودولة الإمارات العربية المتحدة، إلا أن الاقتصاد عاجز عن النمو بسرعة كافية بما يسمح بتحسين مستويات المعيشة للناس الذين يزداد تعدادهم باستمرار ويقدر الآن بما يقرب من تسعين مليون نسمة.
عمدت حكومة السيسي منذ وقت مبكر إلى شن هجوم كاسح على الدعم الحكومي للمواد الغذائية الأساسية وللوقود، ولا شك أن ذلك خفف الضغط عن الميزانية ويسر الاختلالات الكلية في الاقتصاد – إلا أنه ترك الملايين من المصريين في وضع معيشي أسوأ، وفي الوقت نفسه جبن النظام عن رفع الضرائب على ملاك الأراضي ورجال الأعمال.
تخيلات (فانتازيا) فالون تجد من يدعمها، وممن يفعل ذلك على الأقل في العلن سفير المملكة المتحدة في القاهرة جون كاسون الذي تنكشف المزيد من عوراته يوما بعد يوم. ففي شهر حزيران/يونيو صرح فيما يبدو رغبة في مد يد العون بأن "الأمن هو الأساس الحيوي لضمان الأمن والثراء والديمقراطية في مصر التي نرغب جميعا في رؤيتها. وهذا يعني اتخاذ إجراءات أمنية صارمة، ومواجهة الأيديولوجيا المتطرفة، وإنجاز تقدم في مجال الاقتصاد والديمقراطية وحقوق الإنسان، وهذه أمور لا استغناء عنها من أجل ضمان الأمن على المدى البعيد".
من المثير للانتباه أن هذه الفقرة تتضمن أربع إشارات لموضوع الأمن.
لقد تحول كاسون، مثله مثل البائس فالون، إلى مدافع عن السيسي وملتمس له الأعذار، فتصريحاته متهافتة، إذ أن حكومة السيسي أبعد ما تكون عن أن توصف بالآمنة، بل وتجتمع لها بالضبط تشكيلة العوامل القاتلة – فشل اقتصادي، وقمع، وتطرف عنيف، وهي العوامل نفسها التي تسببت في انهيار نظام مبارك.
إلا أن انهيار نظام السيسي ستكون له تداعيات أسوأ على الغرب مما كان لانهيار مبارك، ولربما كان السبب في ذلك، جزئيا على الأقل، يكمن في أن ليبيا لم تعد دولة منظمة ومستقرة، وأدى تحول الأوضاع فيها ترك فراغ كبير وخارج عن السيطرة على الحدود مع مصر حيث تسرح الجماعات الإرهابية وتمرح.
ولكن هناك سبب آخر، وهو أن الحكومات الغربية، وخاصة حكومة بريطانيا، وجهت رسالة فتاكة إلى الشعب المصري، مفادها أنه سيسمح لهم بالديمقراطية فقط إذا اختاروا الحكومات التي يرضى عنها الغرب. تعتبر هذه الرسالة بمثابة هدية مريعة تقدم على طبق من ذهب إلى الدولة الإسلامية التي تسعى إلى تجنيد الملايين من أنصار الإخوان المسلمين الذين يشعرون بأنهم خذلوا.
بيتر أوبورن: فاز بجائزة الصحافة الممنوحة لكتاب الأعمدة في عام 2013، وكان قد استقال مؤخرا من موقعه محررا سياسيا رئيسيا في الديلي تلغراف. له عدة مؤلفات منها كتاب بعنوان "انتصار الطبقة السياسية: صعود الكذب السياسي" وآخر بعنوان "لماذا الغرب مخطئ بشأن إيران النووية"