لم تغب
فلسطين عن أية قمة عربية، منذ انعقاد قمة أنشاص الطارئة عام 1946م، وحتى قمة شرم الشيخ 2015م، لكنَّ ذلك لا يعني أن حضورها كان مميزاً وقوياً.
"القمة
العربية الأولى في أنشاص حضرتها الدول السبع المؤسسة للجامعة العربية وهي (مصر، شرق الأردن، السعودية، اليمن، العراق، لبنان، سوريا)، ولم يصدر عن مؤتمر القمة بيان ختامي، بل مجموعة من القرارات كان أهمها: مساعدة الشعوب العربية المستعمرة على نيل استقلالها، واعتبار قضية فلسطين قلب القضايا القومية، وضرورة الوقوف أمام الصهاينة باعتبارهم خطراً لا يدهم فلسطين وحسب، بل جميع البلاد العربية والإسلامية، والدعوة إلى وقف الهجرة اليهودية وقفاً تاماً، ومنع تسرب الأراضي العربية إلى أيدي الصهاينة، والعمل على تحقيق استقلال فلسطين، والدفاع عن كيان فلسطين في حالة الاعتداء عليه". والنتيجة أنه بعد سنتين من تلك القمة، أقام الصهاينة دولتهم المزعومة على أرض فلسطين العربية!
بعد عشر سنوات عقدت قمة بيروت 1956م، بدعوة من الرئيس اللبناني كميل شمعون إثر الاعتداء الثلاثي على مصر وقطاع غزة. وبالتدقيق في الفترة الزمنية بين القمتين الأولى والثانية نتعرف على حجم الاهتمام العربي بفلسطين، التي عُقدت أول قمة لها قبل قيام الدولة الصهيونية على أرضها المحتلة بعامين، والقمة الثانية بعد ثماني سنوات على إعلان قيام الدولة الصهيونية، وفي ذلك تأكيد على الانشغال العربي اليومي في قضية فلسطين.
إن المتتبع للخط البياني الخاص بالقمم العربية، يجد أن فلسطين انحدرت إلى هاوية الإهمال العربي الرسمي، فبعد أن كانت القضية المركزية الأولى، والدافع الأقوى لانعقاد تلك القمم، أصبحت كما سنرى لاحقاً صداعاً يسعى العرب للتخلص منه، حتى لو كان ذلك من خلال مبادرات وحلول على حساب القضية الفلسطينية.
في
القمة العربية التالية التي عقدت بعد ثماني سنوات في القاهرة عام 1964م، بدعوة من الرئيس عبد الناصر، نلاحظ أنها اتخذت مجموعة من القرارات أهمها: قيام "
إسرائيل" خطر أساسي يجب دفعه سياسياً، واقتصادياً، وإعلامياً، وإنشاء قيادة عربية موحدة لجيوش الدول العربية، يبدأ تشكيلها في كنف الجامعة العربية بالقاهرة. وفي السنوات التالية شهدت القمم قرارات تتعلق بخطة العمل العربي الجماعي في تحرير فلسطين -عاجلاً أو آجلاً-، والترحيب بمنظمة التحرير الفلسطينية، ودعم قرارها بإنشاء جيش التحرير الفلسطيني.
إلا أن القمة التي عُقدت في الخرطوم في 29 /8 / 1967، بعد الهزيمة العربية أمام الدولة الصهيونية، وما سمي بنكسة حزيران، والتي حضرتها جميع الدول العربية، باستثناء سوريا التي دعت إلى شنّ حرب تحرير شعبية على الدولة الصهيونية. عرف ذلك المؤتمر بقرار اللاءات العربية الثلاث: "لا للاعتراف، لا للتفاوض، لا للصلح". وكانت تلك القمة علامة فارقة في تاريخ القمم العربية، عكست ردود أفعال الدول العربية التي منيت بهزيمة نكراء، ولا سيما جمهورية مصر العربية.
هذا الصعود الملحوظ في الخط البياني للقمم العربية تجاه فلسطين -التي ستصبح فيما بعد "قضية فلسطين"- لم يدم طويلاً. فقد كانت القمة التالية "لقمة النكسة" مباشرة، هي قمة الرباط التي عقدت في 21/ 12/ 1969، وشاركت فيها أربع عشرة دولة عربية، بهدف وضع استراتيجية عربية لمواجهة الدولة الصهيونية "إسرائيل"، لكنَّ قادة الدول العربية افترقوا قبل أن يصدر عنهم أي قرار أو بيان ختامي. وهذه المفارقة العجيبة في الأداء العربي تجاه فلسطين، ظلّت السمة العامة لمعظم القمم العربية التي كانت في الظاهر تُعقد من أجلها، ولكنها في الحقيقة ترسخ الانقسام العربي، وتشرعن الاحتلال الصهيوني لأرض فلسطين.
معظم القمم التالية كانت متشابهة جداً إلى حد الملل، في معظمها تغيب دول، وتقاطع دول أخرى، حتى كان أسوأ ما فيها أنها اجتماعات لتأكيد الضعف العربي، والعجز الرسمي، ولا سيما مع فلسطين التي نالت مئات القرارات والتوصيات والوعود، ولكنها خرجت من كل ذلك بخفي حنين!
لقد كانت الانتكاسة المريعة حين حرصت الدول العربية على فكفكة "الصراع العربي-الصهيوني" -الذي سيصبح فيما بعد صراعاً "فلسطينياً - صهيونياً"- من خلال الاستمرار في العمل بكل الوسائل من أجل تحقيق "السلام" القائم على العدل، ومع مَن؟ مع الدولة الصهيونية المحتلة لفلسطين، والطامعة بالوطن العربي!
لسنا في معرض استعراض القمم العربية طوال عقود من الزمن، لكننا نرصد محطات على قدر من الأهمية لمعرفة مكانة وموقع فلسطين لدى العرب. ولنأخذ قمة بيروت التي عقدت في 27/3/2002 مثالاً نرى من خلاله موقع فلسطين في أجندة العرب، ونستشرف مستقبلها في القمم التالية للقمة التي يمكن أن نطلق عليها "أم القمم"، والتي تبنت فيها الدول العربية المبادرة العربية التي اقترحها ولي العهد السعودي آنذاك الأمير عبد الله بن عبد العزيز، واختُصرت بعبارة "الانسحاب الكامل مقابل التطبيع الشامل". فهل بهذه المبادرة التي لا تساوي الحبر الذي كتبت به على ذمة المجحوم شارون، تكون الأنظمة العربية قد أوجدت الحل المعجز والفذ والنهائي للقضية الفلسطينية؟ هل هذا كل ما يتطلع إليه العرب؟
ولعل من المفيد أن نطرح هنا مجموعة من الأسئلة التي تساعدنا في الإجابة عن السؤال الجوهري: ماذا استفادت فلسطين من تلك القمم؟ ولذلك نتساءل: ماذا لو قال فريق من الباحثين الجادين بالتدقيق في مقررات مؤتمرات القمم العربية، ودراسة البيانات الختامية لتلك المؤتمرات دراسة علمية موضوعية لا تشوبها العواطف، وبحثوا في ذلك كله عن فلسطين؟ ثم ماذا لو أراد الباحثون معرفة ما دخل إلى حيز التنفيذ من تلك القرارات، والتوصيات، والوعود؟ وكيف أثر كل ذلك -سلباً أو إيجاباً- على قضية فلسطين؟ ولا أريد هنا أن أسأل الباحثين عن نظرة الدولة الصهيونية في نتائج تلك القمم؛ لأن "إسرائيل" كانت تعطينا رأيها في ميدان المواجهة، سواء كان ذلك قبل انعقاد القمم، أو خلال انعقادها، أو بعد انتهائها، كان العدو يرد على تلك القمم بإراقة دمنا الفلسطيني والعربي الذي يشبه الماء في عيون القادة العرب.
عندها سيكون بمقدور أمتنا أن تتعرف على حجم النكبة التي عاشتها فلسطين، حين كانت منذ أكثر من ستة عقود ضحية لأنظمة ضعيفة، مغلوبة على أمرها، كان دورها بارزاً في ضياع فلسطين ووقوع المأساة عام 1948م، ثم فيما سمي "بالنكسة"، التي كانت فاجعة أصابت الأمة، وطرحت أسئلة مدوية عن دور أنظمة العنتريات في ضياع ما تبقى من فلسطين.
ورحم الله شاعرنا الفلسطيني الكبير، إبراهيم طوقان، الذي صرخ فيهم قبل أن تصبح لدينا جامعة عربية وقمم فاشلة:
في يدينا بقية من بلادٍ..
فاستريحوا كي لا تضيع البقية!