منذ اتفاقية كامب ديفيد المشؤومة التي أبرمتها
مصر (الدولة والنظام) مع دولة الكيان الصهيوني، تغيرت العقيدة السياسية والأخلاقية للجيش المصري والنظام السياسي الحاكم بالتبعية تجاه هذا الكيان المسمى (إسرائيل) الذي ترسخ في الذاكرة الجمعية الشعبية، فضلاً عن العقيدة العسكرية للجيوش العربية والإسلامية، وليس
الجيش المصري فقط عدوا استراتيجياً رئيسياً منذ زرعه في الأراضي
الفلسطينية وحتى الآن.
لقد تحول العدو إلى صديق وشريك، فصار التنسيق الأمني والتعاون العسكري والتطبيع السياسي مع الكيان الإسرائيلي من طبائع الأمور، بينما صار نقد تلك العلاقة من دواعي تكدير السلم الاجتماعي وضربا للأمن والاستقرار العام!
كان من البديهي أن ندرك منذ البداية أن أي تقارب عربي أو إسلامي مع الكيان الصهيوني سيكون على حساب المقاومة الفلسطينية، وخصما من دورها وتأثيرها في الكفاح المسلح الشريف لتحرير الأرض وإنهاء ذلك الاحتلال، وهو ما فعله النظام المصري في عهد المخلوع حسني مبارك بتقاربه مع العدو بممارسة الضغوط على حركات المقاومة في غزة عبر الترويض والابتزاز، وفي مقدمتها حركة المقاومة الإسلامية
حماس.
وكانت أداته في ذلك مدير المخابرات العامة اللواء الراحل عمر سليمان، لتتحول بوصلة العلاقة والتنسيق مع حماس من ممارسة الضغوط إلى نقلة خطيرة من نظرة الدولة المصرية من راعي وشقيق أكبر إلى اعتبارها كياناً إرهابيا معادياً للدولة والشعب المصري، بعد حكم محكمة الأمور المستعجلة في القاهرة في 28 فبراير الماضي باعتبار حركة المقاومة الإسلامية حماس جماعة إرهابية.
وتقول حيثيات الحكم أن الحركة تورطت في تفجيرات واغتيالات ضد الجيش والمدنيين، بالرغم من عدم قبول الدعوى لعدم الاختصاص قبل شهر من هذا التاريخ في 26 يناير الماضي في القضية ذاتها المتعلقة بحركة حماس، هذا على الرغم من أن المحكمة ذاتها قد قضت بعدم الاختصاص أيضاً في 16 أبريل من العام الماضي فيما يتعلق بتجميد أنشطة إسرائيل، على اعتبار أنها قضية سياسية ومن ثم اعتبارها دولة راعية للإرهاب!
فهل نسي القضاء المصري شهداء الجيش المصري والوطن في حرب 1948؟ وهل نسي قضاؤنا الشامخ أسرانا في حرب يونيه 1967 الذين تم دهسهم أحياء ودفنهم في رمال صحراء سيناء المخضبة بدماء شهداءنا الأبرار، ناهيك عن مجازر العدو في دير ياسين وقانا وصبرا وشاتيلا وغزة، فضلاً عن جرائمه المستمرة في الأراضي المحتلة والانتهاكات بحق بيت المقدس المبارك!
ألا تستحق الجرثومة الخبيثة "إسرائيل" أن تُوصم بالإرهاب ولو بالكلمات؟ فأين الاختصاص فيما يتعلق بحكم حركة حماس إذن؟ أم أن الأمر لا يعدو سوى تصفية حسابات وتنفيس عن مرارات مع حركة مقاومة خرجت من رحم جماعة الإخوان المسلمين الأم (عدو المرحلة)، والخصم اللدود الآن، والمعزولة عن الحكم بانقلاب عسكري دموي في الثالث من يوليو 2013.
وليس خافياً على كل متابع منصف أن انقلاب 3 يوليو كان من أهم أسبابه تقليم أظافر المقاومة الفلسطينية عامة، وحركة حماس خاصة، وتقويض حركتها، وخنقها وحصارها من أهم شريان حيوي داعم لها، وهى مصر الثورة (في عهد الرئيس محمد مرسي)، وهذا ما أكدت عليه النخبة الإسرائيلية ذاتها كثيرا في صحفها ومراكز أبحاثها المعنية بالأمن القومي الإسرائيلي.
والأدلة على ذلك كثيرة، فقد قالت القناة العاشرة الإسرائيلية (26 يناير الماضي) إن التعاون بين الجيش والاستخبارات في كل من إسرائيل ومصر يتجاوز كل التوقعات، مشيرة إلى أن الجيش المصري يوافق على كل طلب يتقدم به الجانب الإسرائيلي، إذا كان متعلقاً بمواجهة الحركات الإسلامية المتشددة في كل من سيناء وقطاع غزة (في إشارة واضحة لحركة حماس).
وذكر "ألون بن دافيد "معلق الشؤون العسكرية بالقناة الصهيونية أن التعاون بين الجيشين المصري والإسرائيلي لا يتوقف على التنسيق وتبادل المعلومات الاستخباراتية، بل تعدّاه للتعاون الميداني" في إشارة واضحة لعمليات عسكرية مشتركة"، هكذا قال.
وفي سياقٍ متصل، قال الحاخام اليهودي البارز "يوئيل بن نون" الذي يعد أهم مرجعيات التيار الديني الصهيوني، إن انقلاب السيسي، الذي وصفه بأهم معجزة في العقود الأخيرة، منع تحول مصر إلى دولة عدو، مشدداً على أن استمرار حكم الرئيس محمد مرسي كان يمكن أن يشكل مصدر إسناد خطير لحركة حماس وحركات المقاومة الفلسطينية الأخرى.
وفي مقال له نشره موقع صحيفة "ميكور ريشون" اليمينية صباح الأحد (8 مارس)الجاري، أوضح "بن نون" أنه لولا الانقلاب العسكري الذي قاده عبد الفتاح السيسي لتحولت سيناء إلى ساحة لإطلاق الصواريخ بعيدة المدى على العمق الإسرائيلي، ولضاعفت حركة حماس من مخزونها من الصواريخ.
وشدد على أن التعاون بين الجانبين المصري الإسرائيلي تعاظم في عهد السيسي، لاسيما في أعقاب الحرب الإسرائيلية على غزة، مؤكداً على أن السيسي (هكذا يقول الحاخام اليهودي بن نون) لعب دوراً بارزاً في حرمان حركة حماس من أي إنجازات خلال الحرب الأخيرة، موضحاً أن السيسي كان أقرب لإسرائيل من الأمريكيين.
وأشاد بشن الجيش المصري تحت إمرة السيسي حرباً بلا هوادة على التنظيمات المسلحة في سيناء ونجاحه في وقف عمليات تهريب السلاح للمقاومة الفلسطينية في قطاع غزة.. لكن أخطر ما شدد عليه "يوئيل بن نون" في نظري أن السيسي عرض أن يساعد إسرائيل في التخلص من مشكلة اللاجئين الفلسطينيين، واقترح أن يتم توطينهم في شمال سيناء، ناهيك عن اعتبار القضاء المصري اعتبار حماس جماعة إرهابية، على حد قوله.
رغم أن قرار القضاء المصري الأخير تجاه المقاومة الفلسطينية الشرعية كان بمثابة طعنة في الشعور الوطني العربي والإسلامي، لكنه حسب المقدمات وتوالي الأحداث وسير المؤشرات، كان أمراً متوقعاً وطبيعياً وهاجساً لطالما أرّق كل وطني شريف، إلا أنه نزل عليه الخبر كالصاعقة رغم توقعه المسبق، كأن يتوقع المرء الموت لمريضٍ أنهكه طول وتمكن المرض من جسده المنهك، ثم يُصاب بالدهشة والوجوم والأسى لسماع خبر الوفاة، وكأنها مفاجأة غير متوقعة!
وعلى الرغم من قتامة المشهد وكآبة المنظر العام إلاّ أن المبدأ لا يتجزأ وسيظل يفرض نفسه بأن حركات المقاومة كرمزية لكفاح الشعب الفلسطيني الشرعي عن حقوقه، وفي القلب منها حماس حركة مقاومة شرعية وشريفة، وستظل تاجا على رأس كل عربي ومسلم يرجو العزة لدينه ووطنه رغم أنف الحاقدين والكارهين والمتآمرين والخونة، وستبقى المسمّاة "إسرائيل" العدو الاستراتيجي الأكبر في ذاكرة كل الشرفاء في العالم العربي والإسلامي، ونقطة سوداء في جبين المجتمع الدولي "الحر".