كتاب عربي 21

فبراير الأسود.. مرحبا بك في دولة "الآمنين"

1300x600
كان لزاما لعالم الاجتماع (حسن) انتظار هبوب عاصفة رملية شديدة فاجأته بمعية أسرته وهو في رحلة سفاري داخل البلاد، ليعلم، وهو الباحث الاجتماعي المفترض فيه فهم صيرورة المجتمع حيث يعيش، أن "العلماء" والمثقفين ليسوا إلا اكسسوارات لديكور ضخم تؤثثه مجموعات اجتماعية أخرى كواسطات عقد مجتمعي لا يفي بمتطلبات أحد غيرها.

يومها، عرف الدكتور حسن أن لا مجال للعيش بـ"كرامة" في جمهورية مصر العربية، ومعها كل دول الخريف الثقافي، ليكون البديل إما الهروب خارجا بعد اختراق كل الموانع التي تفرضها سفارات الدول "المتحضرة" أمام الراغبين باللجوء إليها، أو اختراق حصون الفئات "الآمنة" داخل وطن استباحته دونا عن غيرها.

لقد استطاعت العاصفة الرملية أن تدفن حسن وعائلته ومن صادفوهم في طريق رحلتهم إلى الواحات. لكنها دفنت أيضا أي أمل لديه في الانتماء إلى الوطن وهو الذي لم يكف عن طمأنة العائلة أن "الحكومة مش ممكن تسيبنا".

حضرت الدولة، ممثلة في دورية عسكرية، وأنقذت لواء أمن الدولة وعائلته ثم رئيس المحكمة ورئيس جمعية رجال الأعمال وزوجتيهما. أما "أسرة العلماء" فقد وجدت في الذئاب المنقذ الوحيد بعد أن نهشت الذئاب البشرية ما تبقى لها من كرامة. من "الحكومة مش ممكن تسيبنا" تحول الدكتور حسن إلى  "ربنا مش حيسيبنا" بعد أن فقد الأمل في عودة فرقة الإنقاذ العسكرية.

كان هذا في السينما، أما في الواقع فقد فاجأت عاصفة ثلجية مجموعة من الشباب في رحلة سفاري إلى سانت كاترين، سنة واحدة بعد عرض فيلم (فبراير الأسود)، ولم تفلح الدولة في إنقاذ أربعة منهم، لم يكن بينهم لواء أمن دولة ولا مستشار ولا رجل أعمال، فقضوا بردا في يوم من أيام فبراير الأسود في الواقع كما في السينما.

" لقد اتضح أن العتمة شديدة لدرجة أنك لن تستطيع رؤية الشمعة أصلا لتشعلها، ودورنا الحقيقي لو كنا شرفاء أن نواجه الناس بأن مصر على شفا كارثة تاريخية لو بقيت الأمور تدار بهذا الشكل.. أنتم، للأسف، مستقبلكم مظلم".

كانت تلك آخر كلمات وجهها الدكتور (حسن) لطلبته قبل أن يخرج من مدرج الجامعة ويتركهم حيارى، هم الذين عرفوه متفائلا وداعيا لطمأنة الناس. لقد استلذ الدكتور ومن معه من المثقفين والعلماء التودد لسلطة منحتهم قليلا من الفتات، وظنوه تقديرا وإكراما لهم، فساروا في درب تخدير الشعب بدل استثارة وعيه الجماعي ودفعه للثورة على وضع سائد مهين. كان الاعتقاد أن لهم حظوة ومكانة.

ولعل في عودة عالم بقدر عصام حجي للعمل تحت قيادة الانقلاب قبل أن يهان باختراع جهاز كفتة عبد العاطي لدليل واضح على نظرة الحكام العرب للعلم، باعتباره مجرد "شعوذة" ليس إلا. ذاك حال الفنانين والراقصات والرياضيين أيضا، فما هم إلا مجرد أرجوزات يحركها الحاكمون الحقيقيون، أما الإعلاميون فمجرد "متعهدي حفلات" في أكثر التوصيفات أدبا.

في مشهد من أكثر مشاهد السينما المصرية مباشرة وتشريحا لخريطة الأوضاع الاجتماعية بمصر، يقف الدكتور حسن أمام جمع العائلة الذي استدعاه على عجل ليعلنها صراحة: في ظل المأساة التي تعيشها البلد، لا أحد يمكنه أن يعيش مطمئنا على كرامته وحياته وأسرته إلا الأفراد في المنظومات الثلاث:

أولا، الجهات السيادية (الحكومة، أمن الدولة، المخابرات)

ثانيا، العدالة ( القضاء، النيابة، الشرطة)

ثالثا، الثروة (رجال الأعمال)، وهي القادرة على شراء المنظومتين السابقتين.

تلك هي الفئات "الآمنة" إلى يوم الدين. والبقية مرشحون في أي لحظة أن تضرب "بالجزمة". لا قيمة لنا في هذا الوطن الذي أصبح وطنهم وأصبحنا فيه لاجئين عندهم. لا حل أمامنا غير الهرب من البلد بأقصى سرعة أو أن نحاول الانتماء إلى الفئات "الآمنة" للدخول إلى مظلة الأمان الخاصة بهم عن طريق الزواج مثلا.

هكذا لخص الدكتور حسن واقع الطبقية المجتمعية بالبلد. لكن أين الجيش من كل هذا؟ ربما كان الحديث المباشر عن الجيش محظورا. لكن العودة لمشهد العاصفة الرملية تظهر كيف أن أصغر "رتبة" في هذا الكيان يخاطب "المدفونين": حنسحبكم زي ما الكوبوي بيسحب البقر لا مؤاخذة. وكذلك كان.

يسحب اللواء والمستشار ورجل الأعمال كـ"البقر" مكتوفي الأيدي ويساقون إلى مصيرهم وهم يسبحون بحمد العسكر ويشكرون. العسكر هم الحماة، وفي الثالث من يوليوز 2013 عينوا المستشار في رئاسة الدولة، وأعادوا الشرطة محمولة على الأكتاف في الميدان لتستبيح التعذيب والقتل، كما أخرجوا رجال الأعمال من السجون لدرجة ترشح أحمد عز للانتخابات البرلمانية القادمة، وغنى الفنانون للقائد الملهم وتمايلت الراقصات. وحدهم الرياضيون لا يزالون تحت رحمة "لعنة الثورة" وتبعاتها.

وطوال رحلة البحث عن "الأمان"، اعتمدت "عائلة العلماء" كل ما تعلمته من مناهج استنباطية ومنطقية واستقرائية لتطويع كل المصاعب التي واجهتها باستثناء القدر الذي وضع "الشرف" في طريق تحقيق حلمها في تزويج الابنة "ريم" من القضاء أو الشرطة، أو الحصول على "الجواز البديل" الفرنسي المحترم وغيرها من محاولات الانسلاخ التام من الوطن القديم بكل ملامحه وتفاصيله الهوياتية في عمليات "زار" جماعي.

ولعل في ذلك نقد مباشر لقبيلة المثقفين الذين طالما وجدوا في السلطة "حاضنة" شكلية لهم فاستلذوا القرب منها. كما أن مشاهد الفيلم المتتالية وجهت نقدا لاذعا للشعب الذي يساير كل أشكال الفساد وينحني لها مقابل الحفاظ على مصالح شخصية ضيقة. ففي مجال تزوير الإعلام للحقائق نرى كيف يتنقل أفراد عائلة حسن من استنكار التزوير الذي دأب عليه الإعلام لتلميع صورة النظام وتأكيد أكاذيبه إلى القبول به، بل التفوق في المشاركة فيه.

في فيلم (فبراير الأسود) قراءة "فنتازية" لواقع المواطنة في البلدان المستبدة وللغربة داخل الوطن. لكن الواقع صار أكثر فنتازية من الخيال.

فلا كان أحد بإمكانه تخيل كيف أن السؤال الذي يطرحه الفيلم في نهايته قد تحقق الجواب عنه شهورا قليلة بعد عرضه، فرأينا كيف عذبت واعتقلت وقتلت الشرطة من الفئات "غير الآمنة" ما شاءت، فتواطأ معها القضاء لتخرج من كل القضايا "بريئة" ومعها دعم رجال الأعمال والإعلام يطبلون جميعهم لراعي الفساد الأول العسكري الطامع للزعامة التي جاءته تباشيرها في الحلم. لقد عاد "الآمنون" إلى أماكنهم يعيثون في الأرض فسادا، وعاد الأراجوزات مجرد عبيد يأتمرون ويطبلون ويتراقصون في حفلات أعراس "ديمقراطية" جماعية.

في نهاية الفيلم تساءل الدكتور حسن: هل ستحب مصر نفسها وتسير في طريق العلم أم أننا سنبقى كما نحن "معفنين"؟ مات الممثل خالد صالح بعد أن رأى الإجابة عن سؤاله على الأرض تتحقق يوما بعد يوم.

وتركنا نحن نتابع كيف أن الكبت الفردي والمجتمعي الذي كان حذر منه مخرج فيلمه في فيلمين سابقين هم: (فيلم ثقافي) و(بنتين من مصر) انتهى بانفجار شعبي بميدان التحرير كما جاء بالضبط في (بنتين من مصر).

كما رأينا كيف انتهى المآل بالمنظومات المجتمعية الثلاث ومعها الجيش وبقية الكومبارس كما جاءت في (فبراير الأسود)، فهل تتحقق نبوءة محمد أمين كما رواها في فيلم (ليلة سقوط بغداد)، حيث ستأتي جحافل الاحتلال لـ"تنظفنا" كما جاء على لسان إحدى شخصياته؟

يقول الدكتور حسن إن البلد وصلت لمرحلة الـ"بيبي"، وأي كلام عن الأمل يبقى نوعا من الوقاحة.