كنت ضمن كتاب صحفيين كُثر أحدثوا جلبة عالية بعد ظهور عدد من الفضائيات العربية التي تستدرج المشاهدين بدغدغة غرائزهم الجنسية، وقلت مع آخرين إنه إذا كان ممكناً منع تداول المجلات الإباحية، بتشديد الرقابة بمختلف الوسائل، فلا سبيل لمنع تسلل تلك القنوات إلى بيوتنا إلا بالرادع والوازع الذاتي.
وراحت الجلبة والعويل الذي صاحبها أدراج الرياح، فقد صار الجيل الجديد يعرف عن عمرو دياب أكثر مما يعرف عن عمرو بن العاص، وصارت نانسي عجرم أكثر شهرة من الخنساء، واختلت القيم بحيث صارت فيفي عبده تتطلع لتكون نفرتيتي القرن الحادي والعشرين، بل منحتها الحكومة المصرية الحالية لقب الأم المثالية (بعض
الشباب يحسبون أن نفرتيتي هذه نوع من وحيد القرن).
وكنت أعزي نفسي دائماً بأنني، وكما قال البحتري: "صنت نفسي عما يدنس نفسي/ وترفّعت عن جدا كل جبس"، بتفادي التعامل مع قنوات الفجور الإلكتروني، ولكنني اكتشفت مؤخراً أن التلفزيون يمكن أن يصبح أداة "إلهاء"، حتى لو حرصت فقط على متابعة القنوات الرصينة التي تقدم المعرفة والترفيه الراقي.
وأعترف بأنني أجلس أحياناً أربع ساعات في اليوم الواحد -خلال العطلات- لمتابعة ما يدور في القنوات الإخبارية، والعلمية مثل ديسكفري وناشونال جيوغرافيك، وأعترف بأن ذلك كان على حساب السعي الجاد لزيادة رصيدي من المعارف والعلوم بالقراءة في مظان المعارف والعلوم.
وهذا كأن تستعيض عن الطعام الطبيعي بكبسولات وأقراص الفيتامين والحديد والكالسيوم، وما يسمى بالمكملات الغذائية، ثم تتوهم أنك تحافظ على صحتك.
وما أهاج هذه الشجون، هو أنني أتأهب للانتقال إلى بيت جديد، (بالتأكيد ليس بيتاً أملكه أو ورثته عن الذي خلّفوني)، واستوجب ذلك النبش والتنقيب في البيت "القديم"، وأدى ذلك إلى اكتشاف كتب اشتريتها قبل عدة سنوات ونسيت أمرها، وحدا ذلك بزوجتي إلى اقتراح تخلصي منها حتى لا تشكل عبئاً علينا خلال الانتقال إلى البيت الجديد. (ذات مرة نقلت مكتبتي الخاصة إلى غرفة النوم بعد أن سطا بعض أصدقائي على كتبي، عندما كانت المكتبة في الصالة المخصصة لاستقبال الضيوف، فقامت زوجتي بتخزين معظم كتبي في صناديق من الكرتون وحوّلت المكتبة إلى مجزمة، أي وضعت أحذيتها في الرفوف المخصصة للكتب، وبالمناسبة فإن قيمة أحذية زوجتي تعادل قيمة جميع ملابسي وممتلكاتي الشخصية بما في ذلك الساعات والنظارات، ولحسن حظي فإنها ليست من النوع الذي يستخدم الأحذية في حسم الخلافات العائلية).
المهم، عثرت على كتب حصلت عليها خلال رحلات خارجية، وكتب اشتريتها بالشيء الفلاني عبر الإنترنت، وكتب أهداني إياها مؤلفوها، وبعضهم (المؤلفون)، من النوع المرموق المعروف، وبعضهم نكرات ذوي أقلام منكرة يعتقدون أن الإنسان يصبح مؤلفاً وكاتباً لمجرد وجود اسمه على غلاف كتاب، حتى لو كان محتوى
الكتاب مثل محتوى أغاني العجرمية أو شعبان عبد الرحيم.
وما صرفني عن تلك الكتب إلا التلفزيون، فرغم أنني "مبهدل" في أمور كثيرة إلا أنني منضبط في استخدام واستغلال "الوقت"، ولست ممن يمارسون "قتل الوقت"، ولا شيء يستفزني ويجعل لساني يفلت من العقال ويأتي بالكلام "البطّال"، مثل استهتار شخص ما بموعد ضربه لي، بالتأخر عنه ولو بربع ساعة.
ولدي برنامج يومي ثابت، لا مجال فيه للهوِ أو المسخرة، ولا أتخلى عن ذلك البرنامج إلا لعيادة مريض أو تقديم العزاء في راحل عن الدنيا.
ثم اكتشفت أن التلفزيون يسطو على وقتي الشحيح، وأنا أتوهم أنني أتابع البرامج الرصينة البعيدة عن المسخرة، وعليه فقد قررت أن تقتصر علاقتي بالتلفزيون على متابعة نشرتي أخبار: واحدة في الصباح والثانية في المساء، بل متابعة النصف الثاني فقط من تلك النشرات لأن النصف الأول يتناول عادة أحوال العالم العربي، وأنا "مش ناقص" نكد وغم.