فاجأت الدائرة
الدستورية بالمحكمة العليا في
ليبيا الجميع بمن فيهم من تقدموا بالطعون بحكمها. إذ تكهن الكثير من المدونين على الوسائط الاجتماعية من أنصار الطعون بأن المحكمة لن تحكم لصالحهم وطعن بعضهم في نزاهة قضاة المحكمة العليا، واتهموا العديد منهم أنهم من أنصار النظام السابق وبالتالي لا مجال لقبول الطعون وإصدار حكم كالذي صدر اليوم. وذهبت تقديرات العديد من المراقبين والمحللين، قبل صدور الحكم، إلى اتجاه المحكمة لترضية الطرفين المتنازعين وأكدوا أن قرار المحكمة الجمع بين الطعون الثلاث والتي في مقدمتها النظر في شرعية الجلسات والنظر في شرعة الانتخابات إنما تم ليصدر حكم بعدم شرعية الجلسات وبرفض الطعن المتعلق ببطلان الانتخابات.
لكن الحكم جاء ببطلان انتخاب
البرلمان، خلافا لكل التقديرات، وليفتح الطريق لمزيد من الجدل، ولينقل الأزمة السياسية إلى طور جديد، ربما لن تتغير ملامحها الرئيسية، خاصة الاستقطاب الحاد بين الأطراف المتنازعة، ولكن بالقطع سيؤثر الحكم في محركات الصراع وفي الأطراف المعنية به بشكل مباشر وغير مباشر.
جاء رد البرلمان كما هو متوقع برفض الحكم، والتبرير هو عدم اختصاص الدائرة الدستورية للنظر في نزاع حول الإعلان الدستوري، والثاني صدور الحكم تحت ضغوط ووقوع إكراه على القضاة من قبل "مليشيات تسيطر على طرابلس". ونتذكر أن البرلمان أصدر بيانا يعتبر فيه فجر ليبيا عمليات إرهابية، ودأب رئيس البرلمان وبعض أعضائه ورئيس الحكومة على وصف العاصمة بأنها مختطفة ورهينة بين يدي الإرهابيين، وبالتالي كان متوقعا أن يكون هذا الموقف المسبق مبررا لرفض الحكم.
فيما يتعلق بمسألة عدم اختصاص المحكمة العليا ودائرتها الدستورية، فأعتقد أنه لا أساس قويا له لسببين، الأول أن الجميع قبل بحكم المحكمة العليا في الخلاف حول انتخاب السيد احمد امعيتيق رئيسا للحكومة، مع وجود شبهة عدم الاختصاص باعتبار أنه نزاع يفصل فيه القضاء الإداري ولا جدل دستوريا حوله. أيضا فإن انتظار البرلمان لحكم المحكمة وعدم الحديث مطلقا عن عدم الاختصاص في فترة نظر المحكمة في الطعون المقدمة يضعف من موقفه ويعزز القول بأن رفضه للحكم سياسي ولا مستند قانونيا له.
بالمقابل، يشكل الحكم انتكاسة للبرلمان ومظاهر ذلك ما يلي:
- لطالما اعتمد البرلمان في مناكفته للمعارضين له على شرعيته التي يُقرها المجتمع الدولي ويعتبر احترامها الأساس في التعاطي مع الأزمة الليبية، والمنطلق لحل النزاع الراهن، ولأن المجتمع الدولي يدعم الشرعية والمؤسسية، فإنه من المتوقع أن يطالب البرلمان باحترام قرار المحكمة العاليا المعنية بالفصل في النزاعات الدستورية بين السلطات في الدولة، وإلا سيكون الموقف الدولي متناقضا في نظر قطاع كبير من الليبين.
- بالقطع سيشوش القرار على الدعم الكبير المادي والمعنوي الإقليمي الذي يتلقاه البرلمان، فقد دخلت بعض الدول على خط الصراع ودعمت بقوة البرلمان وحكومته وعملية الكرامة بحجة التعامل مع السلطة العليا في البلاد وهي البرلمان، وفي حالة مصر، فإن الدعم المصري تم بناء على اتفاقية تعاون أمني وقعها مسؤولون تم تعيينهم من قبل البرلمان وصارت لاغية بقرار حله.
- برغم حالة التجانس والتوافق بين أغلبية برلمانية نجحت في المحافظة على النصاب القانوني وذلك في التصويت على العديد من القرارات، إلا أن هذا التجانس يعتمد في أحد أسسه على الشرعية الذي يتحلى بها هذا الجسم، وبالتالي من المتوقع أن يحدث نوع من الانقسام في موقف أعضاء البرلمان من الحكم، يحجب عن البرلمان التماسك النسبي الذي كان يتمتع به.
- أيضا هناك شريحة ليست بالقليلة من الرأي العام ربما تتحفظ على كل أو بعض ما صدر عن البرلمان من قرارات، لكنها استمرت في دعمه من باب دعم الشرعية والمحافظة على المسار الانتقالي، لذا فإن هذه الشريحة يمكن أن تسحب تأييدها لتنضم للأصوات الضاغطة عليه.
إضافة إلى ما سبق، فقد مَثَّل إذعان الطرف الذي رشح احمد امعيتيق لقرار الدائرة الدستورية والذي قضى ببطلان انتخابه رئيسا للحكومة، مثل سابقة يمكن أن تحرج البرلمان، وبالتالي يمكن القول أن البرلمان واجه، منذ انتخابه، أزمة منعته من انتزاع ثقة كل الليبيين، ولن يستطيع أعضائه تلقي نفس الدعم السابق بعد رفض الحكم.
على الضفة الأخرى، فإن العديد من أعضاء المؤتمر الوطني الذين رفضوا الالتحاق بجلساته بعد استئنافها في شهر أغسطس الأمر الذي منع الوصول إلى نصاب قانوني، ربما سيعود العديد منهم للمشاركة ليعيد للمؤتمر نفوذه، دون أن يلغي ذلك التحفظات عليه.
والخلاصة أن الحكم لن يكون مؤذنا بانتهاء الأزمة، فحلها سياسي بامتياز، تأسيسا على الحكم، ولغياب أدنى درجات التقارب السياسي، فقد تأخذ الأزمة منعطفا جديدا، وربما سترتفع أصوات خاصة في "برقة" بالدعوة لتقرير المصير بمعزل عن باقي المناطق في البلاد، لكن سيظل هذا السيناريو غير قابل للتطبيق مادام مجلس شورى ثوار بنغازي يفرض واقعا في أهم مدينة في الشرق الليبي، بنغازي، يمنع سيطرة قوات حفتر عليها، ويبدو أن الحسم من قبل عملية الكرامة ليس ممكنا أو ليس قريبا.