كتاب عربي 21

خطاب العنف والكراهية: أوار الحرب يخبو، ولا تخبو آثارها

1300x600
في ليبيا اليوم خطاب الكراهية ولغة البغضاء يحاصرانك أينما يممت وجهك، ويواجهانك وأنت تقلب قناوات الفضاء الليبي، ويلاحقانك وأنت تتصفح الفيس بوك.. تطرق مسامعك وأنت تعبر زوايا الشوارع الرئيسية حيث يقف الناس يتجادلون، ولا يمكن أن تنأى بنفسك عنها وأنت تتحرك في الأسواق أو تقضي مصالحك في الدوائر العامة. 

لن تجد مجالا رحبا لحديث المبادئ والقيم والمآلات والتداعيات للقضايا محل النقاش - الملف المهيمن اليوم هو حفتر و "الكرامة" - وتنعدم عبارات التهدئة والاحتواء والحوار، فهي اليوم تكاد تغيب عن قاموس الكلمات الذي تملاء أوراقه مرادفات: الإلغاء، السحق، الحرق، النسف...الخ. 

القذائف التي تتساقط على الرؤوس لا تيمز بين مدني ومسلح، لكن دويها له صدى التكبير والدعاء أن لا تبقي أحد من "الإرهابيين"، دون تقدير لروح بريئة ترتفع إلى بارئها بدون ذنب أو جريرة.

أما إذ كان الرد من الطرف الآخر، هو النادر لأن كثافة القصف والجوي والمدفعي تأتي من معسكر حفتر، فهناك أيضا مكبرين ومهللين، ومن يسقط من أنصار حفتر "جيف" لا يستحقون الحياة.

ولاتسأل عمن هم الإرهابيون أو "الخوارج" فيليبيا،وكيف نحددهم،وكيف نجابههم، وهل الحرب هي الوسيلة الصحيحة، ولا تتوقع أن تسمع جوابا شافيا حتى من المبرزين من النخبة. ويرد عليك بعض من يكرر لفظ الخوارج بأنهم من خرج على"علي بن طالب" كرم الله وجهه، ولا يدرك معظم هؤلاء أن عليا بعث إليهم عبدالله بن عباس محاججا ومحاورا فعاد بأكثر من ستة آلاف منهم إلى حضيرة "الأمة"، أو "الدولة"، وهنا تبرز قيمة الإجماع والشرعية في مواجهة الأزمات، إذ لا سبيل لمجابهة من نعتقد بأنهم خارجون عن الإجماع بخروج مماثل عن الإجماع!! وهنا تكمن أبرز أسباب اختلال تحرك حفتر وأنصاره.

إذا لا مساحة للحديث عن آثار الاقتتال ومخاطر النزاع إلا نزرا، بل الحماس والهمة في أثبات صواب ما يؤيده المتحدث على الشاشات أو المدون في الفضائات الاجتماعية.

وعندما يشتد الجدال ويتحول إلى عراك فلا كرامة ولا اعتبار لمكانة الإنسان والروح البشرية، ولا تذر لأرواح الشهداء الذين سقطوا: "ياريت صاروخ عابر حدود ينزل على المؤتمر الوطني وهم مجتمعين ونفتكوا منهم كلهم"، "نتمنى يجمعوا متاعين اللحى في حفرة كبيرةويولعوا فيهم النار"، "ياريت التفجير خذا حفتر وجماعته وكل من يؤيد الكرامة وفكنا منهم". 

القذائف والصواريخ تمزق أجسادا، وصدى التجاوب معها يمزق النسيج الاجتماعي، وقابليتنا للعنف والكراهية تجعل من هذا الداء يسري في جسد الوطن كالهشيم ليحيله إلى أنقاض لا سامح الله.

فقد كشفت أحداث ما بعد 17 فبراير 2011 أننا شعب لديه استجابة كبيرة للعنف وللكراهية، وسريع التخندق والاصطفاف، وميال للصدام ومستعد لتعبئة كل الإمكانات المتاحة لإفراغ مخزون العنف وشحنات الكراهية بوابل العبارات أو التعبير عنها بوابل الرصاص إن لزم الأمر وتوفر السلاح. وهذا لعمري أساس هش لبناء دولة، بل هو التحدي الأكبر أمام مشروع للنهضة.

أقول وبكل ثقة أن خطاب العنف والكراهية تورطت فيه النخبة السياسية ومن نعتقد أنهم النخبة المثقفة، فهم من صدَره للناس، وهم من سلموا مفاتيح مغاليقه لينتشر في أوساط الليبيين ويكون لسان حالهم ومقالهم.

وارجع إلى كل سبب للكره ومبرر لاستخدام خطاب العنف فستجد أن من روج له محسوب على أهل الوعي والفكر والثقافة أو السياسية. ولا يدرك من يحترفون خطاب العنف والكراهية، ولقد أصبح لدينا محترفون في ذلك بلا أدنى شك، أنهم يكرسون آفات لا تبقي لهم ما يبنون عليه مجدا يطاردونه أو طموحا يلهثون خلفه، "فالبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه، والذي خبث لا يخرج إلا نكدا" الآية.

يبرع المتنازعون في الاقتتال، ويتحاذق السياسيون في توظيف تداعي الحرب، ويبدع المتحدثون والمدونون في البحث عن المبررات والدوافع دون أدنى بصيرة أو رادع من خلق، فتسمع ما يحزنك ويدمي فؤادك، ويغيب صوت الحكمة،  وتتساءل بآسى: هل يدرك أصحاب ماكينة القتل وبث الرعب ما يفعلون، وهل يفهم محترفوا التأجيج خطورة ما يقولون، أم أن الهوى بلغ بهم مبلغا أعمى أبصارهم عن المنزلق الذي ينزلقون إليه. وليتهم ينزلقون فيه فرادى، ولكنهم بفعلهم وخطابهم يجرون معهم الوطن إلى المجهول.

لا سبيل للخروج من الأزمة الطاحنة والمدافعون عن القتل والاقتتال هم من يتصدر المشهد من كلا الطرفين، وسيدفعون البلد إلى مزلق الاحتراب الداخلي والتمزيق الاجتماعي والتقسيم الجغرافي، ولا تسأل عن الحدود عندما يعلوا صوت الكره، فالكراهية لن تقف بنا عن الحدود التاريخية، والاستعداد للتطرف الفكري والسلوكي الشائع اليوم لن يقف بنا عند ثلاث أقاليم، وقد رأينا كيف صار لنا (103) بلدية ونحن في حال السلم، والأسباب جهوية، فكيف نتصور شكل ليبيا عندما تتسع مساحة الاقتتال وتوظف فيه النعرات الجهوية والقبيلة والمناطقية وتتدرحج النزاعات بقوة دفع الكراهية ككرة الثلج؟!