توقفت طويلا قبل نحو أسبوع، عند مقال للأستاذ عبد الرحمن الراشد في جريدة الشرق الأوسط، تناول فيه موضوعا ظل مسكوتا عنه لعقود طويلة، فتعالوا نقرأ له الواقعة التي ألهمته الفكرة المحورية في المقال: "قبل سنتين راجت قصة راعي أغنام هندي وصل مركز شرطة في قرية في شمال السعودية، وقال إنه كان محتجزا في حظيرة طوال 18 عاما... الراعي المسكين جاء متعاقدا مع صاحب الحظيرة، الذي لم يدفع له من مرتباته (طوال تلك السنوات) سوى نحو 300 دولار فقط، ومنعه من السفر ومن الاتصال هاتفيا بأهله، ولم يتمكن من الهرب لأن الحظيرة في وسط صحراء النفود، وخاف أن يموت تائها فيها.. هذه القصة التي شغلت الناس -وما زلت أنقل ما كتبه الراشد حرفيا- انتهت بشكل ما.. تسلّم العامل بقية مرتباته والتي بلغت نحو 50 ألف دولار فقط.. ولكن هل تم تعويضه عن احتجازه لنحو عشرين عاما واستعباده قسرا؟ لا ندري" ثم يشير الراشد إلى قرار صدر عن مجلس الوزراء السعودي قبل ست سنوات، يعاقب مثل تلك الجرائم بالسجن المشدد، والغرامة التي قد تصل إلى مليون ريال أو العقوبتين معا.
وما استوقفني في مقال الراشد ليس فقط الحكاية المأساوية تلك، ولكن قوله إن صدور
القانون لا يكفي في حد ذاته، لأن ضحايا سوء المعاملة والظلم في ظل نظام "الكفالة" المعمول به في الخليج، بسطاء وسذج وجهلة في معظمهم، والقانون لا يحمي "المغفل" كما تقول العبارة الدارجة، ومناداته بتفعيل آليات رصد المتاجرين بالبشر ومستغلي
العمالة الوافدة من الخارج على نحو مهين، ثم يورد الراشد حكاية سيدة سعودية اصطحبت معها خادمتها الى مخفر الشرطة لتقديم شكوى ضد زوجها، الذي لم يمنح الخادمة "هللة" واحدة طوال عامين، ثم يضيف إن مثل هذا السلوك من هذه السيدة لا يمكن التعويل عليه لمنع ظلم الكفيل لمكفوله، لأنه لا جدوى من التعويل على الحس الإنساني والأخلاق لوقف الاستعباد.
وكشخص عاش في ثلاث دول خليجية أكثر من نصف سنوات عمره، فإنني أعرف أن ظلم واستعباد العمالة الوافدة من الخارج في منطقة الخليج نتيجة طبيعية لنظام "الكفالة"، الذي يعطي رب العمل حق استجلاب العمالة، ويضع "العصمة" في يده ليقرر أين وكيف تعيش تلك العمالة، وقد لا يكون هناك بأس في ذلك إذا التزم رب العمل بالشروط الواردة في عقد الاستقدام والاستخدام، ولكن تلك "العصمة" تجعل الكفيل صاحب الكلمة الأولى والأخيرة حتى في أمور محكومة بشروط عقد العمل، مثل الإجازات السنوية والمرضية، لأن العامل لا يستطيع مغادرة الدولة التي يعمل بها عبر أي منفذ رسمي إلا بتأشيرة خروج تحمل التوقيع المعتمد لدى إدارة الجوازات والهجرة لـ"الكفيل"، ولا يعاني من مشكلات الكفالة في الخليج الذين يعملون في دوائر حكومية أو شركات ومؤسسات كبيرة ومحترمة، فهذه الجهات تلتزم بالشروط الواردة في عقود العمل الخاصة بالأجانب، وبالتالي فإن ضحايا الاستبداد والاستعباد هم -في غالب الأحوال- من يعملون مع كفلاء "شخصيين"، وهم في غالبتيهم آسيويون يمارسون المهن اليدوية، فقد يذهب راج كومار -مثلا- إلى الكفيل متوسلا: بابا مال أنا وايد مريز.. أن لازم روح بلاد .. يمكن هو موت بعد يومين/ 3 يوم (الترجمة: والدي مريض جدا ومن الضروري أن أسافر إلى بلدي، لأنه قد يموت بعد يومين أو ثلاثة)، وقد يأتي رد الكفيل: هذا مو وقته يا راج.. أنا يعطيك 30 دولار طرِّش (أرسل) حق بابا يشتري دواء.. أما إذا أراد عامل أو موظف أجنبي الانتقال إلى وظيفة أخرى مغرية في نفس البلد الخليجي الذي يعمل به، فإن عليه الاستنجاد بـ"يس" و"آية الكرسي"، كي ينال الموافقة المنشودة، لأن طلب التنازل عن الكفالة لتغيير مكان ورب العمل قد يؤدي في بعض الأحيان إلى تسفير مقدم الطلب: مو عاجبك الشغل عندنا.. زين، روح بلدك واشتغل بكيفك. (أدرك أن التعميم هنا فيه ظلم لكفلاء كثيرين يحترمون آدمية مكفوليهم)
والبشارة التي طال انتظارها هي أن يتم إلغاء نظام الكفيل نهائيا حسب الوعود التي صدرت عن جميع دول الخليج خلال السنوات الأخيرة، بضغوط من هيئات حقوق الإنسان، فتصبح وزارات العمل هي التي تصدر تصاريح استقدام العمالة وضمان حقوق تلك العمالة، ولن أنسى يوم ذهبت إلى مدرسة مجاورة لمكان سكني في لندن في تسعينات القرن الماضي للسؤال عن إمكان تسجيل اثنين من عيالي، مزودا بترسانة من الشهادات الموثقة، وجوازي السفر الخاصين بهما، وخلال دقائق كان مدير المدرسة قد أبلغني بتسجيلهما الفوري في المدرسة فمددت له رزمة المستندات فلم يلق نظرة سوى على شهادتي الميلاد، وقال: من حقهما أن ينالا التعليم حتى لو كان والداهما مهاجرين غير قانونيين، وتذكرت مقولة الشيخ محمد عبده عقب زيارته لدولة أوروبية: وجدت فيها إسلاما بلا مسلمين، وعدت إلى بلاد الإسلام فوجدت مسلمين بلا إسلام.