كتاب عربي 21

الإخوان المسلمون والدولة الجمهورية: شراكة قصيرة وتدافع مرير

1300x600
أخذت الدولة الحديثة في التبلور على يد والي مصر العثماني، الطموح، محمد علي، منذ العقد الثاني للقرن التاسع عشر. لم تكن مصر هي هدف مشروع محمد علي وطموحه، ولكنها كانت قاعدة المشروع الأساسية. وجه السلطان والي مصر في 1811 للقضاء على الحركة السعودية الوهابية، بعد أن فشل والي بغداد في المهمة وعجز والي دمشق عن القيام بها. وليس ثمة شك أن تجربة القتال الطويلة في الجزيرة العربية، التي امتدت حتى 1818، كانت قاسية وباهظة التكاليف. لحل أزمة العسكرية العثمانية التقليدية، وكما عدد كبير من رجال الدولة العثمانية في النصف الأول من القرن التاسع عشر، عمل محمد على بناء جيش قوى، جيش على النمط البروسي والفرنسي، مستعيناً بضباط وإداريين فرنسيين كانوا اضطروا لهجرة بلادهم بعد هزيمة نابليون في ووترلو. 

وسرعان ما أدرك محمد علي أن بناء جيش حديث، وصناعة عسكرية توفر له الدعم الكافي، يتطلب إعادة هيكلة ولاية مصر بصورة شاملة. وهنا بدأت ‘مركزة’ الدولة وبروز الدولة المصرية الحديثة، بما في ذلك بسط سيطرة الدولة على الأرض الزراعية، التجارة، التعليم، القضاء، والتشريع. وبالرغم من أن هدف محمد علي في البداية كان المشاركة في الحكم في إسطنبول ذاتها، فقد اضطر في النهاية، مكسوراً، إلى القبول بالتراجع إلى حدود مصر الحالية. في كلا الحالتين، كان الجيش هو محور المشروع وأداته الرئيسية، وضمانته.

استمر تطور الدولة المصرية بصورة حثيثة خلال القرن التاسع عشر، وحتى بعد أن أجبر محمد علي على تقليص حجم جيشه وتفكيك قطاع ملموس من المنشآت الصناعية التي تخدمه، وبعد الاحتلال البريطاني في 1882، لم تتوقف عملية بناء الدولة. عمل البريطانيون على تعزيز سيطرة الدولة وحافظوا على مؤسسة الجيش. لم يكن للوجود البريطاني في مصر أية صفة قانونية، ولا حتى سنداً قانونياً إمبريالياً؛ وظلت مصر رسمياً ولاية عثمانية تتمتع بقدر واسع من الإدارة الذاتية إلى أن أعلنت بريطانيا مصر محمية بعد شهور قليلة من اندلاع الحرب الأولى في 1914. ما حاولته بريطانيا في العقود الثلاثة الأولى للاحتلال كان توظيف جهاز الدولة لخدمة إدارة الاحتلال، واستخدام الجيش لتحقيق أهداف التوسع البريطاني في إفريقيا، سيما السودان، كما في سنوات الحرب العالمية الأولى.

 المدهش، أن مؤسسة الجيش المصري ظلت حية إلى حد كبير، وتظهر النصوص التي استخدمت في تدريب الضباط تبلور ثقافة عسكرية مصرية خاصة، بالرغم من وجود المحتل البريطاني، حملت مؤشرات على وعي إقليمي استراتيجي ووعي بالدور والموقع في بنية الدولة. بعد توقيع معاهدة الاستقلال المشروط في 1936، استعادت الحكومة المصرية سيطرتها المباشرة على المؤسسة العسكرية، فتحت أبواب الكلية الحربية لأبناء الطبقات المصرية الوسطى (بعد أن كانت طبقة الضباط مقصورة على أبناء الارستقراطية الحاكمة)، وأخذت في تنمية مقدرات الجيش.

منذ ولادته، زرعت في الجيش عقيدة الارتباط بصاحب الأمر في البلاد. كان هذا جيش محمد علي باشا وجيش إبراهيم باشا، وهذه هي العقيدة التي حاول فاروق، آخر ملوك الأسرة العلية، تكريسها. ولكن شيئاً ما في هذه العقيدة آخذ في التحلل منذ التحاق أبناء عموم المصريين بسلك الضباط. فبالإضافة إلى أن عدداً من هؤلاء كان مسيساً أصلاً، فإن خلفيتهم الاجتماعية اختلفت إلى حد كبير عن ضباط الطبقة الارستقراطية، أبناء القصور ذات الصلات المختلفة والمتعددة بالأسرة المالكة. من جهة أخرى، ومنذ حادثة 4 شباط/ فبراير 1942 المهينة، أخذت سلطة وصورة القصر في الانحدار. ولم يكن غريباً أن المجموعة الصغيرة من الضباط، التي ستصبح نواة حركة الضباط الأحرار فيما بعد، التحقت بجهاز جماعة الإخوان المسلمين الخاص بعد حادثة 4 شباط/ فبراير بقليل. وبالرغم من أن بعض الضباط الأحرار سيترك الجماعة بعد ذلك إلى تنظيمات سياسية أخرى، والبعض الآخر سيجمد عضويته بعد الصدام الكبير بين النظام الملكي والإخوان في 1949، فإن العلاقة لم تنقطع. عشية انقلاب 23 يوليو، كان الإخوان هم الجهة السياسية الوحيدة التي لجأ إليها الضباط لمساندة حركتهم ضد النظام؛ وبعد نجاح الانقلاب، أصبح الإخوان شريكاً رئيسياً في خطوات حكومة نظام يوليو الأولى. حتى كتاب عبد الناصر الشهير ‘فلسفة الثورة’، الذي أريد به وضع الإطار الإيديولوجي للجمهورية، كاد أن يكون صدى لكتابات حسن البنا وتصوره لمصر والعالم من حولها.

بيد أن سمتين رئيسيتين ستحددان علاقة الإخوان بجمهورية الضباط منذ لحظات ولادتها الأولى: الأولى، أن شعور الإخوان بشراكتهم في النظام الجديد قد بولغ فيه، إلى حد ما، ليصطدم في النهاية بسعي رجل مجلس الثورة القوي، الكولونيل جمال عبد الناصر، للسيطرة على مقاليد الحكم، وإقامة نظام تحكم مركزي، يقود البلاد إلى النهضة، يؤسس لعدالة اجتماعية، ويعزز دور مصر الإقليمي التقليدي. الثانية، أن ضرورات قيام نظام سياسي تحكمي تطلبت حل الأحزاب السياسية الموروثة من النظام الملكي، ووضع نهاية قاطعة للتعددية السياسية بكل صورها. ولأن أغلب أحزاب ما يسمى بالحقبة الليبرالية لم تكن عميقة الجذور، لم يستطع حزب واحد منها الصمود أمام مطرقة الدولة. وحدها الأحزاب الأيديولوجية استطاعت الصمود، ممثلة بالإخوان المسلمين والحزب الشيوعي المصري، والتنظيمات الشيوعية الصغيرة الأخرى المنشقة عنه. أقام النظام تنظيماته السياسية، بالطبع، من التحرير إلى الاتحاد القومي إلى الاتحاد الاشتراكي، ولكن هذه التنظيمات لم تستطع مطلقاً التحرر من حبل الحياة السري الذي ربطها بالسلطة الحاكمة. في الواقع، انحصرت الأسس التي استندت إليها الدولة الجمهورية في عقودها الأولى إلى الجيش، الذي أصبح جيش الثورة والجمهورية بعد كان جيش الباشا والملك، وكاريزما الرئيس عبد الناصر، الذي خاض بمصر سلسلة من المعارك المناهضة للسيطرة الإمبريالية على المجال العربي، والمناهضة للأنظمة العربية الملكية المتحالفة مع القوى الغربية؛ إضافة إلى أجهزة مؤسسات الدولة البيروقراطية والأمنية، التي ستأخذ في التماهي التدريجي مع نظام الحكم.

كانت علاقة الشراكة بين الإخوان والضباط قصيرة بالفعل، ولم تستمر سوى عامين فقط. وحتى خلال هذين العامين، لم تخل الشراكة من تدافع وصدامات قصيرة، إلى أن وقع الافتراق النهائي والمؤلم في ربيع وصيف 1954. حسم عبد الناصر الصراع بعد أن كان قد نجح في إحكام قبضته على مقاليد الدولة والحكم خلال العامين من 1952 1954، وأصبحت الدولة، وليس مجموعة الضباط الأحرار، هي أداة الصراع. ولم يكن في ذلك ما هو غريب أو مفاجئ؛ ففي حين نظر جهاز الدولة إلى الإخوان باعتبارهم كياناً غريباً، جاء حكام الجمهورية الوليدة من قلب الدولة، من جيشها، أولى مؤسساتها على الإطلاق. خلال الأعوام القليلة التالية، وبعد أن أخرج الإخوان كلية من الفضاء العام، سيحاول عبد الناصر حل إشكالية علاقة الجيش بنظام الحكم الجديد والدولة. كان المدرس السابق في الكلية العسكرية يدرك أن الانقلاب خلق مناخاً من الفوضى والتسيب داخل الجيش، وأوقع حالة من الخلل في العلاقة بين طبقة ضباط الجيش ومؤسسة الدولة، وأن الانقلاب الأول قد يجر البلاد إلى سلسلة من الانقلابات، ما لم يعاد الجيش إلى ثكناته. ولكن المهمة لم تكن سهلة؛ فعلى نحو ما كان الانقلاب قد كسر براءة جيش الباشا/ الملك. وضع عبد الناصر صديقه، الضابط الشاب، عبد الحكيم عامر، على رأس الجيش، وحاول استيعاب العدد الأكبر من الضباط الأحرار في جسم الحكم الجمهوري. ولأن ولاء الجيش للجمهورية كان ضرورة حيوية لبقائها واستمرارها، غض عبد الناصر النظر عن تحول الجيش إلى مركز قوة لعامر، وفتح أبواب مؤسسات الدولة والحكم لضباط الجيش، طالما قبل هؤلاء بالتخلي عن بزاتهم العسكرية. ولدت الجمهورية على يد الجيش، بقوته وإرادته، وسرعان ما أصبح الجيش صانع الجمهورية وحارسها. 

في منتصف السبعينات، وبعد الشرعية التي حققها من خوضه حرب أكتوبر 1973، بدأ السادات خطوات خجولة ومتواضعة نحو بناء تعددية سياسية محدودة ومتحكم بها. وسرعان ما اتضح أن لا أحزاب ما قبل تموز/ يوليو 1952 ولا تعددية الحقبة الليبرالية يمكن أن يعاد انتاجها من جديد. واصل النظام الحكم من خلال حزبه الخاص، الحزب الوطني، الذي لم يكن سوى تجل جديد لسلفه في مرحلة الحزب الواحد، الاتحاد الاشتراكي. وبالرغم من وجود عدة أحزاب أخرى، بما في ذلك إطار سياسي قانوني للحزب الشيوعي المصري، لم تستطع قوة سياسية واحدة أن تنمو بالصورة التي اتسعت فيها فعالية الإخوان المسلمين، الذين لم يفرج عن قياداتهم الرئيسية إلا في 1971. ومع نهاية حكم السادات في 1981، وبالرغم من أن الإخوان لم يستعيدوا حقهم في العمل القانوني، ولا سمح لهم بتشكيل حزب سياسي، كان الإخوان قد أصبحوا القوة السياسية الرئيسية في البلاد، بفارق واسع عن أي حزب سياسي آخر. ليس ثمة شك أن السادات، الذي عرفت مصر في عهده القصير عدداً كبيراً من وزراء الدفاع (احتلوا أيضاً موقع قيادة الجيش)، حرص على توكيد الطابع المدني للحكم. ولكن انتقال الرئاسة في ظل ظروف بالغة الاضطراب من السادات إلى مبارك، كانت مناسبة لإظهار حقيقة خارطة القوى السياسية في البلاد: أن حزب النظام وأحزاب المعارضة الأخرى معدومة التأثير، وأن القوتين الرئيسبتين في البلاد هما الدولة، ممثلة بالجيش، ذراعها الأقوى، والإخوان المسلمون. 

يوم الأربعاء، 25 كانون أول/ ديسمبر ، أصدرت الحكومة المصرية المؤقتة قراراً بإعلان الإخوان المسلمين منظمة إرهابية، أي الذهاب إلى ما هو أبعد من حل الجماعة ومنعها من العمل، لأنه يستبطن الملاحقة الأمنية بكل صورها. بغض النظر عن المسوغات القانونية لهذا القرار، فإن دلالته الوحيدة أن مصر أصبحت دولة بقوة سياسية واحدة: الجيش.