لم أتعرض لأي نوع من أنواع
التعذيب في السجن، ولم أشاهد أحدا يتعرض له، لكنني شاهدت المعذبين في مقار الأمن
الوطني، هذا لا يعني أن
السجون خالية من التعذيب التقليدي وغير التقليدي..
لم أنسَ قط حكاية
"آيات" التي حكاها لي الشريف محمد، كانت سجينة من محافظة الفيوم تنتمي
إلى التيار الإسلامي، طالبة جامعية متفوقة وطموحة وضاحكة ومبشرة بالأمل والنصر طول
الوقت، تعرف عليها الشريف محمد قبل الاعتقال ضمن فعاليات الاحتجاج والتظاهر ضد
نظام السيسي، وتم اعتقالهما في نفس الأسبوع تقريبا، وتقابلا عدة مرات بالصدفة
أثناء التحقيقات وجلسات التجديد.
ظلت آيات محتفظة بالأمل لفترة
من الوقت بعد أن فقدت الضحكة وفرصة إثبات التفوق والنجاح في الجامعة، وبعد فترة من
الانقطاع عادت الصدفة لتجمع بين آيات ومحمد الشريف في أروقة النيابة، نادى عليها،
لم تلتفت ولم ترد، كانت شاردة وتنظر في الفراغ من وراء الحاجز الزجاجي الذي يفصل
السجينات عن السجناء، وبرغم أن عينيها في مواجهة وجهه إلا أن تعبيرات وجهها كانت
جامدة وتؤكد أنها لا تراه ولا تعرفه، ولا تهتم بما حولها..
تدافع الشريف وسط زحام
السجناء واقترب من الحاجز، محاولا الاطمئنان على آيات، لكنها لم تتجاوب مع
محاولاته للتواصل. سأل زميلة تقف بجوارها:
- مش دي آيات؟
* قالت: آه هي، وأضافت بدعابة
سوداء والمرارة تنضح في تعبيراتها وكلماتها: هيّ ومش هيّ يا محمد.
- خير.. إيه اللي حصل؟
* تعرضت لأهوال في السجن،
بسبب اعتراضها على المعاملة والمعيشة السيئة، حبسوها انفراديا وضغطوا عليها بكل
الطرق، وظلت متماسكة وصامدة. والمصيبة أن الحراس كان بينهم رجال بلا ضمير، واحد
منهم حاول أكتر من مرة يتودد لها بقصد التحرش الجنسي، ولما فهمت قصده وبخته وهددته
إنها هتصرخ وتفضحه في السجن كله، قرر ينتقم منها بالتهديد والإزعاج في المناوبات
الليلية اللي بيكون موجود فيها، وبسبب التوتر وقلة النوم بدأت أعصابها تتعب، وفي
إحدى الليالي وقف على نضارة الزنزانة الانفرادي وقال لها: هتعقلي يا آيات ونبقى
كويسين مع بعض وللا مستغنية عن عمرك؟
وردت عليه بعنف فقال لها: أنا
صبرت عليكي كتير، والليلة آخرك معايا، استني عليا لما الكل ينام، هرجع لك وآخد
اللي أنا عاوزه بمزاجك أو غصب عنك.. مش فارقة معايا.
بلغها تهديداته بلهجة واثقة
ومحسومة وتركها ومشي.
شعرت آيات بالعجز وكلام
الحارس الندل ظل يتردد صداه جواها: استنيني.. راجع لك لما الكل ينام، وهاخذ اللي أنا
عاوزه.
جلست القرفصاء في ظهر باب
الزنزانة وجسمها يرتجف، ومشاعرها تغلي من الغضب والخوف معا، ولم تستطع النوم طول
الليل، برغم أن الحارس لم يعد، وتكرر الأمر في الليالي التالية، لأن قلق الخوف من
الاغتصاب كان قد سيطر على مشاعرها ومنعها من النوم، متخيلة أن الحارس قد يفاجئها
في أي ليلة عندما تتوفر له الفرصة المناسبة، ومع انهيارها النفسي بدأت ترفض الطعام
وتصرخ صرخات هيستيرية ونقلوها إلى العيادة وأعطوها مهدئات كثيرة، ولم تعد آيات كما
كانت، لقد جُنت آيات وصارت كما تراها.
قرأت واستمعت لكثير من الأشعار والكتابات في السجن، وكان المقربون من السجناء يبادرون بإطلاعي على بعض الرسائل المميزة التي يرسلونها للأهل والأصدقاء، وكذلك التي تأتي إليهم من الخارج، وكانوا يحتفظون بالكتابات والرسائل بعناية بعيدا عن حملات التفتيش في السجون، لكنني فوجئت بعد الإفراج أن معظمهم تخلصوا من هذه الكتابات، كأنهم يرغبون في التخلص من الذكريات السيئة التي عبرت عنها القصائد
كانت دموع الشريف محمد تقطر
على وجهه كلما جاءت سيرة آيات، وبرغم التعذيب الذي تعرض له هو وابنه الذي اعتقل
معه في نفس السجن، إلا أنه كان يقول إن ما حدث معه يعتبر معاملة حسنة إذا قيس بما
تعرضت له آيات من تعذيب نفسي، فقد تحملت التعذيب البدني من خشونة وقلة الطعام
والنوم على الأرض في الحبس الانفرادي، لكنها لم تتحمل عجزها عن صد التهديد
بالاعتداء على شرفها، في سجن بلا مرجعية قانونية ولا أخلاقية..
كتب الشريف محمد عن مأساة
آيات قصيدة ملحمية طويلة نادرا ما كان يلقيها، بسبب عدم قدرته على الانتهاء منها
دون بكاء ونحيب يفسد مزاج العنبر كله، ولما طلبتُ نص القصيدة تباطأ في نسخها
لأيام، وعندما سألته: انت مش عاوز تديني القصيدة وللا إيه؟
قال: ما اقدرش امنع عنك حاجة،
بس اوعدني بعدم نشرها.
قلت له: القصيدة معبرة وقوية
ومن أحسن أشعارك.. ليه مش عاوز تنشرها؟
قال: مش هسامح نفسي لو الناس
ربطوا القصيدة بصاحبتها الحقيقية والكلام يزيد عن حده ويجرح آيات وأهلها وأصحابها،
ممكن أكون غلطان بس أنا هكون مرتاح لعدم نشر القصيدة، ووعدته بعدم النشر، وتغيير
اسم السجينة في حالة الكتابة عن مأساتها.
من هذه القصة ينفجر سؤال عن
إبداعات السجناء: ننشر أو لا ننشر؟
قرأت واستمعت لكثير من
الأشعار والكتابات في السجن، وكان المقربون من السجناء يبادرون بإطلاعي على بعض
الرسائل المميزة التي يرسلونها للأهل والأصدقاء، وكذلك التي تأتي إليهم من الخارج،
وكانوا يحتفظون بالكتابات والرسائل بعناية بعيدا عن حملات التفتيش في السجون،
لكنني فوجئت بعد الإفراج أن معظمهم تخلصوا من هذه الكتابات، كأنهم يرغبون في
التخلص من
الذكريات السيئة التي عبرت عنها القصائد. وقد حيّرني هذا التصرف، حتى
قرأت قصة "لطيف" في كتاب المحامي الدولي "مارك فالكوف".
يقول فالكوف: كان لطيف سجينا
في جوانتانامو، يمني نحيف ذو لحية خفيفة، عندما زرته في السجن كان يائسا من استعادة
حريته، وكان يسمي السجن "خليج الجحيم"، حيث لا نجاة لمن يدخل، ولكنه كان
يكتب
الشعر ويعبر بمعان أخرى أكثر أملا من لغته اليائسة، وقد طلب مني ومن محامين
آخرين السعي في الإفراج عن قصائده، طالما لا أمل في الإفراح عنه شخصيا، وقد سعينا
في ذلك كثيرا، لكن إدارة البنتاجون رفضت بشكل حاسم، مع استمراري في المحاولات
وافقوا على نشر قصيدة بعنوان "الإضراب عن الطعام"، يقول فيها:
"إنهم فنانو التعذيب/ فنانو
الإيلام والإرهاق/ فنانو الإهانات والإذلال
أين العالم لينقذنا من
التعذيب
أين العالم لينقذنا من النار
والحزن؟
أين العالم؟"
عندما حصلت على السماح بنشر
القصيدة أبلغت لطيف بسعادة في الزيارة التالية، لكنه فاجأني بأنه لم يعد يهتم،
وأنه أحرق ما لديه من أشعار!
لقد كتب هو وزملاؤه القصائد
وهم يعرفون أنها لن تصل في أيسر الأحوال إلا لزملائهم السجناء! كان لديهم شعور بأن
الكتابة في السجن مسألة داخلية للمشاركة والتخفف من الألم، لكن الأمر كان مختلفا
في نظر البنتاجون، فقد كانوا يعتبرون قصائد السجناء تهديدا للأمن القومي الأمريكي
وحربا تفضح زيف الديمقراطية الغربية، كما صرح بذلك في صحيفة "وول ستريت
جورنال" المتحدث باسم البنتاجون الكوماندر جيه دي جوردون، وتصريحه بالترجمة
الدقيقة: "عدد من
المعتقلين في خليج جوانتانامو بذلوا جهودا لتأليف ما يزعمون
أنه شعر، ولم يفعلوا ذلك من أجل الفن، لكنهم حاولوا استخدام هذه الوسيلة كأداة
أخرى في معركتهم الفكرية ضد الديمقراطيات الغربية".
وعندما سئل جوردون: هل قرأت
القصائد أو بعضها؟ أجاب بكل غباء: لا.
وتحدث فالكوف عن خوف الإدارة
الشديد من قصائد السجناء، حتى أن القصائد التي سمحوا بنشرها كانت مترجمة إلى الإنجليزية
ولم تُنشر بلغتها الأصلية، خوفا من أن تكون تحمل شيفرات ورموزا سرية تهدد الأمن
القومي. وربما لهذا السبب أحرق السجناء آلاف الأبيات التي كتبوها، لأن الرسالة لن
تصل إلى الخارج بنفس الروح والظروف وطريقة الفهم والإحساس التي كتبت بها، وربما
تؤدي إلى عكس ما قصد بها السجين.
وقد لاحظت أن هذا السبب يكاد
يتطابق عند السجناء في مختلف السجون سواء كانوا سياسيين أو جنائيين، لكن وبرغم
الترجمة والأسماء المستعارة والتخفي ونشر القليل من كثير، فإن مفردات التعبير
الشعري داخل السجون تظل تحمل بصدق مسؤولية التعبير عن معيشة السجناء وطلباتهم
وأوجاعهم وإحساسهم بالعالم. فقد قرأت مثلا قصيدة لسجين بريطاني عن "النضارة"،
شعرت أنني من كتبها، ولا يمكن لأي شاعر آخر خارج السجن أن يكتبها مهما بلغت مهارته
في التعبير والبلاغة، وقد ترجمت منها هذه الأبيات:
السجين يكتب في ظروف ضعف ويبوح بكثير من الشكوى، وعندما يتحرر من كل هذه النواقص، فقد يخجل من الكشف عنها، أو نقلها للآخرين
"أنظر من نضارة زنزانتي
إلى الأسلاك الشائكة وقضبان الحديد
كيف يمكنهم القول إن هذا
الجحيم "إعادة تأهيل"؟
لا أكتفي بالتحديق
أتأمل..
كي أتعمق أكثر في الحقائق
لدينا سياسيون يكذبون بينما
يتناقشون في الحرية والعدالة والقوانين
يبقوننا محاصرين في مساحات
محصورة من الخرسانة
نعيش دون البشر
كائنات غريبة تلتقي قسرا في
مكان لا تحبه
خليط بشري في وجوه مختلفة
دائما
محامون يكسبون عيشهم من قضايا
لا تنتهي أبدا
يلقون بنا في المحاكم ليستمتع
قضاة فاسدون بتوبيخنا وتقييدنا
نظرات فارغة شامتة تخترقنا
مباشرة
فتسبب التوتر والقلق في
النفوس
حان الوقت الآن كي يعرف الناس
في الخارج أن هذه المأساة يجب أن تتوقف
حان الوقت الآن كي يطالبوا
بإغلاق هذه المهالك
لا يمكننا إغلاق أعيننا على
كل الأهوال التي تطاردنا
ننام الليل بين أحلام وكوابيس
وفي الصباح نستيقظ على صرير
مفاتيح الحراس في الأبواب الحديدية
فنعود بعنف إلى الدائرة
الجحيمية:
بداية تسلم إلى نهاية..
ونهاية تعيدنا إلى البداية
هذا هو الحال من خلال نضارة
الزنزانة".
وأختتم المقال بقصيدة كتبتها سجينة
باسم مستعار "فيرونيكا"، وأهمية هذه القصيدة أنها توضح لماذا طلب مني
الشريف محمد عدم نشر قصيدته عن مأساة آيات، لأن السجين يكتب في ظروف ضعف ويبوح
بكثير من الشكوى، وعندما يتحرر من كل هذه النواقص، فقد يخجل من الكشف عنها، أو
نقلها للآخرين.
تقول قصيدة فيرونيكا:
"أمام الغرباء الذين
يديرون وجوهم محرجين
تتساقط دموعي في حافلة
الترحيلات
يتظاهر العابرون بعدم ملاحظة
الدموع التي تلمع على وجهي في ضوء الشمس
وتختلط مع المطر المتدفق من
السماء في يوم غائم
لحظات تعيسة لن يتم تدوينها
للعموم
لأنها تجلب لنا الحرج والخجل
فنبقى غير قادرين على التعبير
عن ألمنا".
في المقال المقبل أتحدث عن
الصباح الذي استيقظت فيه فوجدت "فيرجينيا وولف" في حضني.
maher21arabi@gmail.com