الكتاب : "غزة حجر الزاوية"
الكاتب: جوني منصور
الناشر: المؤسسة العربية للدراسات والنشر،
بيروت، 2024م
سنوات من التطبيع العربي الإسرائيلي أرادت
منها دولة
الاحتلال التغاضي كلياً عن
الفلسطينيين، وجعلهم في طي أروقة الأرفف
العربية والأممية، في الوقت الذي كانت فيه دولة الاحتلال تبحث عن بناء علاقات
وتحالفات عربية سياسية واقتصادية على قاعدة تطبيعية؛ ليتم شطب القضية الفلسطينية
من مركزية القرار العربي، وعدم اعتبارها قضية فلسطينية جوهرية في المنطقة العربية،
فما بين التخطيط لاحتواء الصراع، وإدارته، وتقليصه، واحتوائه هزّت عملية 7 أكتوبر
عام 2023م دولة الاحتلال إسرائيل في عمقها، فكانت الصدمة قويّة جدًّا لعقيدتها
الأمنية والعسكرية عمومًا، فالمسألة ليست متعلّقة فقط باجتياح الشريط الفاصل بين
قطاع غزّة، وما يُسمّى بـ "غلاف غزّة"، إنّما ما كسبته المقاومة في
الساعات الأولى من عملية "طوفان الأقصى"، من خلال كسب موادًا سرية من
مكاتب مخابرات الجيش، والشاباك ومن حواسيب (فرقة غزّة)، ومعلومات أخرى ستُشكِّل
موردًا مفيدًا تستثمره المقاومة الفلسطينية في قطاع غزّة، حتّى خارجها بما له
علاقة بالأسرار والمعلومات العسكرية والأمنية الإسرائيلية.
يؤكد الكاتب: "الصدمة القوية للمجتمع
الاسرائيلي، تكمن في أنّ الجيش الاحتلال وفق تعريفات حكومته واعتباراتها هو جيش
الدولة، والجيش الأقوى في الشرق الأوسط، الزعم بأنّه الجيش الأكثر أخلاقية في
العالم!، إنهّ حامي المشروع الصهيوني بما يمتلكه من قدرات، وأسلحة، وإمكانيات
الوصول إلى أيّ موقع في العالم تعده اسرائيل يُشكل خطرًا على وجودها، فمساحة
إسرائيل الجوية أكبر من مساحتها الجغرافية، فهي تعادل مساحة الدول العربية جوياً
باختراقها المجالات الجوية العربية، واستباحتها في كل فرصة تتيح لها استهداف كل ما
تعتبره يشكل خطر على أمنها القومي".
يضيف الكاتب: "يوم السابع من أكتوبر
تحول الجيش إلى لا شيء لساعات معدودة، فاقدًا قدرته على الاستجابة ورد الفعل
بطريقة تثير الاستغراب، لكل ما جرى في تلك الساعات من منظومة عسكرية تعد الأقوى في
الشرق الأوسط، فكانت التحرّكات الأمريكية والأوروبية لنجدة دولة الاحتلال، وكأن
الفرصة مواتية للإجهاز على المقاومة الفلسطينية، وتهجير الفلسطينيين من قطاع غزة
بالسماح للجيش بالتصرُّف الحرّ، والكامل، والشامل في تعاطيه مع قطاع غزّة، بعد
التصريح الذي حصول عليه من الإدارة الأمريكية بإبادة الشعب الفلسطيني.
لاحظ الكاتب الكم الكثيف والهائل من المواد
المعرفية والتحليلية والتحريضية الزائفة حول
الحرب على غزة، وعن غزّة ومستقبلها.
فغزّة ليست دولة ولا امبراطورية بالمفهوم السياسي والسيادي، يقول منصور:
"اختلطت أمور ومعلومات كثيرة على المتصفِّحين من خلال نشر معلومات وأخبار
ومداخلات مزورة وملفقة، لدرجة أنّ كثيرين لم يعودوا يميّزون الصحيح من الخطأ. إلى
جانب تولّـي وسائل الإعلام المختلطة لأنماط من التحليل والتفسير والتعليق، فإسرائيل
التي تدّعي امتلاكها تكنولوجيا متقدِّمة واجهت وستواجه مستقبلاً منصّات إعلامية
تمتلك تكنولوجيات حديثة، إلى جانب طواقم تعرف كيف تُدير المحتوى عبر وسائل التواصل
والإعلام".
وم السابع من أكتوبر تحول الجيش إلى لا شيء لساعات معدودة، فاقدًا قدرته على الاستجابة ورد الفعل بطريقة تثير الاستغراب، لكل ما جرى في تلك الساعات من منظومة عسكرية تعد الأقوى في الشرق الأوسط، فكانت التحرّكات الأمريكية والأوروبية لنجدة دولة الاحتلال، وكأن الفرصة مواتية للإجهاز على المقاومة الفلسطينية، وتهجير الفلسطينيين من قطاع غزة بالسماح للجيش بالتصرُّف الحرّ، والكامل، والشامل في تعاطيه مع قطاع غزّة، بعد التصريح الذي حصول عليه من الإدارة الأمريكية بإبادة الشعب الفلسطيني.
كان على الولايات المتحدة والدول المتحالفة
معها وإسرائيل القيام بالتمهيد للحرب على غزّة بحملة شيطنة على المقاومة
الفلسطينية، واعتبارها داعشية ونازية، واستخدامه كغطاء لمحاربتها واجتثاثها. وكذلك
نزع الإنسانية عن الشعب الفلسطيني من خلال اعتباره كله جزءً من الإرهاب الذي تقوده
حركة المقاومة "حماس"، امتزجت صورة شيطنة حماس من طرف أمريكا وحليفاتها
مع صورة (الحيونة) التي صرّح بها وزير الامن الاسرائيلي غالانت" هاتان
الصورتان ليستا مجرد كلمات أو استهلاك إعلامي، إنّما كانت لتوفير الحقّ لإسرائيل
مدعومة من الانسان (الأبيض) الأكثر حضارة لقتل الانسان (المُنحط)، الذي لا يساوي
أيّ شيء مقابل الاسرائيلي الذي بالاعتبارات الغربية هو من شعوبها، أيّ أنّه
(أبيض)" هذا ما يؤكده منصور في ثنايا دراسته.
يستطرد الكاتب بالقول: "توجّهنا نظرية
المؤامرة أنّ هناك توافقات مُسبقة تتعلّق بالاستيلاء على قطاع غزّة لوفرة الغاز
الطبيعي في بحرها، وأنّ هناك مخططا مشتركا بين إسرائيل وأمريكا لحفر قناة باسم بن
غوريون تربط بين ايلات على خليج العقبة وبين منطقة عسقلان، بالتالي هناك ضرورة
ماسّة لتفريغ القطاع من سكانه والاستيلاء على أراضيه لصالح هذا المشروع"؛ مما
يعني أن هناك توجه عالمي لضرب قناة السويس، وإخراج مصر من دائرة التأثير على حركة
النقل البحري الدولي.
ما يحدث في غزّة هو إبادة جماعية بترخيص
أمريكي وغربي، حتّى من محكمة العدل الدولية التي أظهرت بعض التحرّك الإيجابي، ولكن
بصورة خجولة، ومدّدت رخصة الإبادة في غزّة لشهور دون أن تنتهي حتى اليوم، فلمّ
تمنُّع الإدارة الامريكية وقف النّار؛ لأنّ توقيته لم يحن موعده ما دامت اسرائيل
تعمل ضمن حقّ الدفاع عن نفسها. وإنْ كان الموقف الأمريكي قد مسّته الليونة، فإنّه
موقف التلاعب بالكلمات والمراوغة السياسية، واستمرار الحرب دون المسّ بالمدنيين،
وتوجيه ضربات على مواقع حركة المقاومة دون ضرب المواقع المدنية. كل ما تستطيع إسرائيل
فعله هو تدمير المزيد من المدنيين، والبنية التحتية المدنية بأسلحة أمريكية وغطاء
أمريكي "عالمكشوف". وفي هذه الحرب يشاهد كلّ العالم عمليات القتل،
والتدمير، والتشريد والإبادة الجماعية عبر البث المباشر لأشهر طويلة دون أنْ يتّخذ
قرارًا جريئًا لوقفها انتصارًا للحياة.
مع كلّ هذا الوضع الكارثي الذي يُشغل العالم
كله، كانت هناك تحرّكات لمتابعة الحرب، وتحرّكات أخرى للمطالبة بالـ "هُدن
الانسانية". يقول الكاتب:" هذا مصطلح غريب فما مفهوم "هدنة
إنسانية"، والحرب مستمرة؟ هو من مصطلحات تخفيف حجم الكارثة، يلجأ إلى
استعمالها من يريد استمرار الحرب، في الوقت ذاته يُظهر إنسانيته. أليس هذا نفاقًا
إنسانيًا؟ وانحطاط أخلاقي! يجب السعي إلى وقف النّار حالاً، ووقف الإبادة
الجماعية"، كذلك هناك مصطلح "الأماكن الآمنة في غزّة"، مع أن
الجميع يدرك تمامًا أنّه لا مكان آمن في غزّة. القطاع كلّه كثيف بشريًّا
وعمرانيًّا، ولا تتوفّر فيه أيّ مساحة ولو الصغيرة لجمع كلّ النازحين الذين
أُجبروا على هذا النزوح وتوفير الأمن لهم، بل هو من قاموس الكذب والنفاق الذي
تستعمله الولايات المتحدة ودولة الاحتلال.
نظر الكاتب إلى النظام العربي الذي استولى
عليه الصمت، ليس بفعل السابع من اكتوبر فقط، إنّما بفعل الرضوخ غير المعلن عنه
للإرادة الامريكية؛ فيوضح "عرّت هذه الحرب هذا النظام، وكشفت عن توجهاته
الرئيسة، يدفع هذا النظام ضريبة كلامية للدفاع عن الحقّ الفلسطيني، لكنه يعجز عن
دفع استحقاقاته تجاه الشعب الفلسطيني وفلسطين"، لقد كان تحرُّك النظام العربي
في منع أو وقف إطلاق النار غير ملحوظ، فهو باهت، لم يتعدى البيانات والخطابات،
التي لم تكفل الحرب الذي كتبت به؛ حتى أن جامعة الدول العربية لم تعقد اجتماع جدي
ورصين، ولم يعد لدول الطوق العربي دورها، وهي الدول التي قامت بدور مشهود في سنوات
النضال الفلسطيني، أما الدول صاحبة القرار، والعلاقة مع المحتل فلم يكن لها صوت
مسموع بداية الحرب، والبقية كانت غائبة عن الحدث، كأنها لم تسمع بما يجري من إبادة
جماعية، يتسأل الكاتب هنا: هل يئس النظام العربي من القضية الفلسطينية؟ أم أنّه
قرّر التخلّص منها؟، في تجاه أخر يتسأل منصور هل تحتاج غزّة إلى هذا الكمّ الهائل
من المقذوفات لتركيعها؟ ويطرح سؤال في تجاه أخر: هل تجري عمليات اختبار وتجارب
لأسلحة جديدة امريكيا واسرائيلية؟ ومختبر ـ موقع التجارب هو غزّة؟ من سيُحقِّق في
استعمال اسرائيل لأسلحة ممنوعة ومحرّمة وفقًا للقانون الدولي؟.
هناك حالة هستيريا سلوكية غير مسبوقة
بالمرّة داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948م، تمّ فيها فرض قيود على حرية التعبير عن الرأي،
لاحقت الحكومة الإسرائيلية كلّ من يُعبّر نطقًا أو تحريرًا أو تصويرًا أو فنيًّا
عن موقف، صنفته بأنه مخالف لقوانينها وأنظمتها وحالتها الطارئة؛ لذلك جرت ملاحقة
أعداد كبيرة من فلسطينيي الداخل (عرب 48) من أكاديميين وطلاب جامعات ومعاهد عٌليا،
وأطباء وممرضات وصحافيين وفنانين وعُمّال وموظفين لأصغر شبهة أو لوشاية من زملاء
في العمل، وجرى تحقيق بوليسي وقُدِّمت لوائح اتهام بحقّ مئات منهم" تحوّلت
علاقة دولة اسرائيل مع فلسطينيي الداخل إلى شكل من أشكال محاكم التفتيش، ما خلق
حالة من الرعب والتوتر... من ردّات فعل عنصرية تجاههم، والعنصرية مستشرية في
المجتمع الاسرائيلي بصورة لم تعرفها اسرائيل من قبل"، المشهد المثير
للاشمئزاز تمثل في إتاحة المجال للإسرائيليين بحمل السلاح علنًا لحماية لأنفسهم،
وهذه حالة لم يرها العالم من قبل، اسرائيليون واسرائيليات يسيرون في الشوارع
والمحال التجارية والمؤسسات التعليمية والشركات مدجّجين بالسلاح؛ لديهم الرخصة
لقتل أي فلسطيني قد يشتبه فيه.
يشير إيلان بابيه في تقديمه للكتاب:
"إنّ معرفة الدكتور منصور باللغتين العربية والعبرية تمنحه منظورًا فريدًا
للمصادر على جانبي الانقسام، ولا يقلّ أهمية عن ذلك أنّه يعرض بشكل جيد للغاية ما
يقال في لغة ما ولا يجوز أن يتكرّر في لغة أخرى. ما يقوله المتحدّثون الرسميون
الإسرائيليون باللغة الإنجليزية ليس ما يقولونه بالعبرية، ويحتاج المرء إلى اللغة
العربية لسماع الأصوات الأصيلة القادمة من قطاع غزّة.”
يؤكد بابيه في تقديمه على ما صرح به الأمين
العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيرش بعد ادانته لعملية السابع من أكتوبر
بالقول:" إنه يرغب في تذكير العالم بأنّ تلك المذبحة لم تحدث في فراغ. وأوضح
أنّه لا يمكن فصل 56 عاماً من الاحتلال (إشارة إلى احتلال العام 1967) عن تعاطينا
مع المأساة التي وقعت في ذلك اليوم"، ويضيف بابيه " إنّ نزع الطابع
التاريخي عن هذه الأحداث يساعد إسرائيل والحكومات في الغرب في ملاحقة السياسات
التي تجنّبتها في الماضي إمّا لاعتبارات أخلاقية أو تكتيكية أو استراتيجي"؛
لذلك استخدمت اسرائيل هجوم 7 أكتوبر كذريعة لمواصلة سياسات الإبادة الجماعية في
قطاع غزّة. وهي أيضًا ذريعة للولايات المتحدة لمحاولة إعادة تأكيد وجودها في الشرق
الأوسط. وذريعة لبعض الدول الأوروبية لانتهاك الحريات الديمقراطية، والحد منها
باسم "الحرب على الإرهاب".
توجّهنا نظرية المؤامرة أنّ هناك توافقات مُسبقة تتعلّق بالاستيلاء على قطاع غزّة لوفرة الغاز الطبيعي في بحرها، وأنّ هناك مخططا مشتركا بين إسرائيل وأمريكا لحفر قناة باسم بن غوريون تربط بين ايلات على خليج العقبة وبين منطقة عسقلان، بالتالي هناك ضرورة ماسّة لتفريغ القطاع من سكانه والاستيلاء على أراضيه لصالح هذا المشروع"؛ مما يعني أن هناك توجه عالمي لضرب قناة السويس، وإخراج مصر من دائرة التأثير على حركة النقل البحري الدولي.
يضيف بابيه: بأن معظم الناس الذين يعيشون في
غزّة هم لاجئون من التطهير العرقي الذي حدث عام 1948: الجيل الأول، والثاني، والآن
الجيل الثالث من اللاجئين. خلال التطهير العرقي عام 1948 أنشأت إسرائيل "قطاع
غزّة". لم يكن هناك قطاع غزّة قبل عام 1948. كانت غزّة مدينة كوزموبوليتية
عالمية تقع على طريق البحر (Via Maris) الواصل بين مصر وتركيا.
قسم الكاتب دراسته إلى ثلاثة فصول: حمل
الفصل الأول عنوان"7 أكتوبر الحدث وما بعده"، رصد فيه الكاتب عملية
طوفان الأقصى: ما قبلها وخلالها، فيوم السابع من أكتوبر 2023 م، سيظل منقوشًا
بحروف عميقة في جدارية تاريخ الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، كونه يومٌ مفصلي بكلّ
ما تحمل الكلمة من معانٍ ضمنية، وليست شكلية فقط، السبب الرئيسي المُعلن عن أسباب
القيام بهذه العملية الرد على الانتهاكات الاسرائيلية التي يتعرّض لها المسجد
الأقصى المبارك، واستمرار اعتداءات المستوطنين على الفلسطينيين في القدس والضفة
الغربية والداخل الفلسطيني المحتل، يضيف الكاتب" سارت هذه العملية في
انطلاقتها بمسارين الأوّل: تنفيذ هجوم
صاروخي مُكثّف، أعني بذلك آلاف الصواريخ في رشقات متواصلة على المستوطنات والمدن
الاسرائيلية في غلاف غزّة وحتى مركز إسرائيل، الثاني: الاقتحام البرّي الذي نفّذه
المقاومون بقرابة ثلاثة آلاف فلسطيني مستخدمين سيارات الدفع الرباعي من نوع
"طويوطا" والدرّاجات النارية على أنواعها، والطائرات الشراعية وسيارات
عادية، هاجم أولئك بأسلحتهم الخفيفة، والقنابل اليدوية، وراجمات كتف عددًا من القواعد
العسكرية الإسرائيلية، والمستوطنات، وثكنات مراقبة منتشرة على طول الشريط الحدودي
الذي أحدثت فيه جرّافة فلسطينية ثغرة ساهمت في تسهيل عملية الاقتحام.
يتساءل الكاتب كيف حصل كلّ هذا خلال ساعتين؟
والجنود الاسرائيليون والمجنّدات الّلاتي يعملن في أبراج المراقبة، وأجهزة
الاستشعار المبكر والجدار العازل والكاميرات وغيرها من وسائل المراقبة والمتابعة
لم يتحرّكوا؟ يقول الكاتب:" في بعض الإجابات عن هذه التساؤلات يبرز على السطح
توجّه نحو تبنّي نظرية المؤامرة. لكننا لن نكون في هذه الزاوية؛ لأنّنا نهدف إلى
فهم خلفية العملية، ثمّ نعود إلى بحث الخلفيات التاريخية بمُكوّناتها السياسية
والعسكرية-الأمنية والاقتصادية وسواها، وتداعياتها على قطاع غزّة وعلى اسرائيل
والاقليم والعالم".
أما الفصل الثاني: فتناول فيه الكاتب
مشاهدات وشهادات تمّ تسجيلها أو كتابتها على مدى الحرب سواء من أهل غزّة على مختلف
أعمارهم، أو من خارج قطاع غزّة. ونوه الكاتب إلى أنّ تلك الشهادات قد جمعها واطلع
عليها من شبكات التواصل، ومواقع الانترنت، التي أصبحت مصدرًا جيّدًا للمواد الخام
التي ترفد المؤرخ، والباحثين لمادة خام كونها مصدرًا سريعًا لتلقي المطلوب. لكن
توخي الحذر الشديد مطلوب في كيفية استعمال هذه الشبكات والمواقع. فبعضها يروّج
الأكاذيب والأخبار الملفقة والمعلومات غير الصحيحة، بالإضافة إلى التحريض والتلفيق.
يشير الكاتب هنا "أنّ النصّ التاريخي
في أحداث متدحرجة لا يمكنه أنْ ينتظر طويلاً حتّى ينتهي الحدث، ومن ثمّ يُمكن
الكتابة عنه، والحدث المتدحرج فيه من القوة ما يدفع المؤرخ إلى التفاعل لكتابة نصّ
قوي أيضًا. وهذا يعني الكاتب يرغب في تحرير النصّ التاريخي من قيوده التقليدية؛
لينطلق ويتحوّل إلى نصّ متفاعل مع ما يجري من أحداث".
ما حدث بشكل عام غير محصور في ما وقع في 7
أكتوبر 2023، إنما مرتبط إلى حدًّ قريب جدًّا بما حصل في 1948 و1967 والانتفاضات
الفلسطينية والاعتداءات على غزّة. بمعنى آخر، لا يمكننا أنْ ننظر إلى تاريخ القضية
الفلسطينية من خلال أحداث متقطّعة، ومنفصلة عن سياقها التاريخي. فكلّ ما يجري
وسيجري مرتبط بكلّ محطّات تاريخ القضية الفلسطينية.
منذ اللحظة الأولى التي أعلنت فيها حكومة
إسرائيل الحرب على غزّة؛ تبيّن أنّ أدوات الحرب ليست عسكرية فقط، بل هي ملامسة
الاحتياجات الحياتية الضرورية. حيث قررت الحكومة توقيف دخول المواد الغذائية،
ومكونات الحياة، وقطع الماء، والكهرباء، والوقود. وهذا يعني حرب تجويع ضد
المدنيين، وليست حربًا ضد عسكريين من المقاومة الفلسطينية.
كتبت فداء زياد شهادتها تحت عنوان
"محاولات البقاء" مبيّنة أنّ الحرب تزداد ضراوة في الليل، بتصعيد عمليات
القصف الجوي ليلاً. تبعها عملية برية، ووثقت زياد في شهادتها المراحل الدقيقة
لعمليات الإخلاء التي فرضها جيش الاحتلال، على أنّ دخول الليل في أثناء الحرب
الخوف متجسّداً بكامل صورته؛ بيديه الثقيلتين يغلق الأبواب على الناس، فلا يمكنك
استحداث صور عن ليل الحرب، ولا الاستعانة بالخيال. بعد حرب طويلة مع الماء والخبز
خلال النهار، جاءنا أمر إخلاء البيت الذي نحن فيه لأمر خطر قد يحدث. لا يمكن رصد
موقع الخطر أو حتى مكانه، مربع سكني كامل أُثير فيه خبر الإخلاء، وبدأ الناس
يحملون أغراضهم ويخلون أماكنهم، بينما نحن نراقب من النافذة...النزوح أو الإجبار
على النزوح لتتمكّن آلة الحرب والدمار الإسرائيلية من مسح غزّة عن الوجود وتصفية
المقاومة على حدّ تعبير قيادات إسرائيل السياسية والعسكرية، النزوح الفلسطيني
مختلف عن أي نزوح بشري، فهو نزوح يحمل في طياته حقّ العودة، هو نزوح فيه حلم فردي،
وآخر جماعي، أو بالتوازي للعودة وكيفية تحقيقها".
في رحلة النزوح وصل بعض أهالي مدينة غزة إلى
مواقع إيواء، ومخازن تابعة لوكالة الغوث ـ الأونروا. في أقلّ من يوم تحوّلت عائلات
إلى طالبي لجوء وحماية داخل مناطقهم، وأصبح يطلق عليهم لفظ
"نازحون"، تحرّكت بعض الهيئات
الإغاثية الدولية مثل الصليب الأحمر الدولي، ومؤسّسات مسيحية مساعدة ومساندة لتوفير
المؤن والطبابة للاجئين والنازحين سواء أولئك الذين بقوا في فلسطين التاريخية بعد
طردهم من قراهم فيما بات يُعرف لاحقًا بـ "إسرائيل"، أو الذين وصلوا إلى
لبنان وسوريا والأردن، وأقيمت لهم مخيمات لاجئين.
يوضح الكاتب هنا أنّ المجتمع الفلسطيني في
أعقاب النكبة التي حلّت عليه عام 1948م، اهتمت المؤسسات الأجنبية بمساندة
اللاجئين. قبل ظهور الاونروا، لكان خدماتها كانت محدود للغاية. مما يعني أنّه حتى
عام 1950 م كان اللاجئون يعتمدون على المساندة الأهلية من أبناء شعبهم. وهو ما
أطلق عليه الكاتب "التضامن في أوقات وأزمنة الأزمات والشدّة"، ظهر ذلك
جليا طيلة فترات النضال الفلسطيني، ومع تشكل وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين عام
1950 م، تولّت مسألة الإغاثة، بالرغم من كثير من التساؤلات المحيّرة أحيانًا حول
دورها وكيفية تأديته، هل هي إغاثية تموينية أم دورها إدامة مشكلة اللاجئين وفق
رؤية سياسية للإبقاء على قضيتهم بأنها قضية إنسانية لا قضية سياسة لإصحاب وطن
طردوا من بلادهم عنوة.
أما الفصل الثالث فحمل عنوان أصوات، الممتد
بمساحة حازت جزء كبيرة من الكتاب، حيث ناقش فيه مقالات وآراء وتصريحات باحثين
وسياسيين ومسؤولين ومواقف حكومات، وذلك بنيّة فهم كيفية رؤيتهم وفهمهم وإدراكهم
لحجم الحدث، وتداعياته فلسطينيا وعربيا واسرائيليا واقليميا ودولياً، عبر فيه
الكاتب عن آراء ووجهات نظر أصحابها من خلال نصوص مكتوبة أو بيانات صوتية عبر وسائل
الإعلام المختلفة، فالحدث المتدحرج والمتراكم في غزّة أماط اللثام عن أسرار
ومكنونات فلسطينية وعربية وإسلامية ودولية. وأعاد هذا الحدث القضية الفلسطينية إلى
الواجهة. واستنادًا إلى آراء كثير من المفكرين والباحثين، وخصوصًا ذوي الاستشعارات
الاستراتيجية وواضعي السيناريوهات المستقبلية أنّ الحدث في غزّة سيُزعزع أركان
حكومات وأنظمة حكم. وسيُطيح بعشرات من السياسيين والعسكريين في عدد من الدول، حال
وصوله إلى نقطة النهاية، أو باقترابه منها.
كشفت حرب طوفان الأقصى عن نقطة مركزية في
الجدل والحوار بين الغرب والشرق" يبدو أنّ الفكر الأبيض لم يتغير كثيرًا،
إزاء نظرته إلى الشرق وخصوصًا إلى العرب، بما فيه الحديث عن فلسطين، والقضية
الفلسطينية، النظرة الفوقية والمتعالية والمتغطرسة التي تميز بها الأبيض في فترات
سابقة، أبرزها فترة انتشار السباق الاستعماري، تطفو من جديد على السطح، وتثير
جدالات ونقاشات، والقليل من الحوارات. نحن نقف منذ 7 أكتوبر أمام هجمة استعمارية
شرسة، ومستوحشة متمثِّلة بما تقوم به إسرائيل ومن خلفها "عالمكشوف"
الدول الاستعمارية بقيادة الولايات المتحدة".
في خاتمة دراسته أوصى الكاتب: "يتحتم
على الشعب الفلسطيني أينما كان متواجدًا أنْ يُعيد النظر في المشروع الوطني،
والظروف والتداعيات تحتّم على الفلسطينيين بناء قيادة فلسطينية جديدة جامعة للكلّ
الفلسطيني، بما فيه فلسطينيو في الشتات، بما فيها أوروبا والامريكيتين وأوستراليا،
والشرق الأقصى، الفلسطينيون موجودون في كلّ مكان تقريبًا في العالم، ويرغبون في
تولّـي دور للدفاع عن قضيتهم، ويودّون أيضًا القيام بما يدعم ويُعَزّز المشروع
الوطني الذي تعرّض إلى تآكل وتكلّس منذ خروج م.ت.ف من لبنان".