أكثر الساعات شبهاً بساعات صباح السابع من أكتوبر، هي ساعات ليلة 13/14 إبريل/نيسان، رغم كل ما بينهما فروقات.
مقابل هذا التشابه في المعنى والمحتوى والبعد الاستراتيجي، ينتصب الاختلاف والتناقض في الشكل، وأكثر من ذلك: ردود الفعل الإسرائيلية على كل واحدة من الصفعتين.
نبدأ بملاحظة وتسجيل نقاط الاختلاف بين الصفعتين:
1ـ كانت الأولى «مبادرة» من القيادة الميدانية العسكرية لمقاتلي حركة حماس، ومن معها، ورسالة واضحة في الرفض والتّصدي لموبقات وجرائم الاحتلال والاستعمار والحصار الإسرائيلي؛ في حين كانت الثانية «رد فعل» من القيادة السياسية لإيران، على مبادرة إسرائيلية، استهدفت أرضاً سيادية
إيرانية، هي مبنى القنصلية الإيرانية في العاصمة السورية، دمشق.
2ـ بدأت الأولى بإعداد تحت غطاء بالغ الكثافة من السّرية، حيث لم يعلم بطبيعة المبادرة وأهدافها وتوقيتها إلا أربعة اشخاص على أرض قطاع غزة، وخامس خارجه، (كما تتناقل الروايات). في حين أن عملية رد الفعل الإيراني تم بشكل بالغ الوضوح والتوضيح والإبلاغ، حيث حرصت القيادة الإيرانية على تبليغ عدد من دول الخليج وتركيا والسفارة السويسرية في طهران، (الموكلة بالمصالح الأمريكية في إيران) ليتولى هؤلاء تبليغ الولايات المتحدة، (وإسرائيل بالنتيجة) بموعد «ضربة» رد الفعل الإيرانية، ونوعية الأسلحة المستخدمة، من طائرات مسيّرة، وعدد وأنواع الصواريخ، والقواعد العسكرية الإسرائيلية المستهدفة، في الجولان والنقب، تحديدا، وبعيداً عن الأهداف المدنية والاقتصادية، ومناطق الكثافة السّكانية، وذلك قبل 72 ساعة، (ثلاثة أيام) من بدء العملية.
3ـ استهدفت الصّفعة الأولى، (
الفلسطينية) إلحاق أكبر ضرر ممكن بإسرائيل والإسرائيليين: من قتل لعسكريين وأسْرِهم والاستيلاء على ما توفر من أجهزة كمبيوتر وما تحويه من معلومات وأسرار، وكذلك إلحاق أكبر قدر ممكن من تدمير ممتلكات وخطف اكبر عدد ممكن من المدنيين؛ في حين استهدفت الصّفعة الثانية، (الإيرانية) إلحاق أقل ضرر ممكن بالممتلكات والمدنيين الإسرائيليين، بل وكذلك في العسكريين والمعدات العسكرية في الثّكنات المستهدفة، استجابة لمناشدات دولية وإقليمية، لتمكين إسرائيل من تبرير امتصاص الصّفعة، وامتناعها عن رد عسكري كبير على الرد الإيراني، (ولو إلى حين).
4ـ كانت أدوات الصفعة الفلسطينية إرادة بالغة الصلابة، من جهة، لكنها في غاية التواضع من حيث الإمكانيات: أسلحة فردية، أسلحة محلية الصنع، سيارات عادية غير مصفحة، أجهزة طيران شراعي بدائية، دراجات نارية، دراجات هوائية، وبضع عربات تجرها حمير (!) أيضاً؛ في حين أن أدوات الصفعة الإيرانية كانت أسلحة حديثة: طائرات مسيّرة وصواريخ بعيدة المدى ومتعددة الأنواع.
هذا على صعيد الفروقات بين الصفعتين. أما على صعيد نقاط التشابه، فيمكن تلخيصها في:
1ـ كلا الصفعتين كانتا رسالتي إهانة تاريخية وإذلال لإسرائيل. أثبتت الصفعة الفلسطينية أن المقاتلين الفلسطينيين لم ييأسوا، لا ييأسوا، ولن ييأسوا من مواصلة النضال لاسترداد كل حقوقهم الطبيعية المشروعة في التحرر وتقرير المصير، وأنهم قادرون على إفشال كل المحاولات الإسرائيلية، الدموية وغير الدموية، لرفع راية الاستسلام، حتى بعد مرور أكثر من قرن وربع القرن من إطلاق الحركة الصهيونية العنصرية؛ وأثبتت الصفعة الإيرانية أن إيران قادرة على الرد المعلن على إسرائيل إن هي حاولت تغيير قواعد شروط ضبط الصراع عند حدود متعارف ومتوافق عليها، ضمناً.
ما زال الوضع السياسي في إسرائيل غير ناضج بعد للتوصل إلى حل سلمي يضمن حياة واستقرار الإسرائيليين، ودفع الاستحقاقات المترتبة على الاعتراف بوجود وحقوق الشعب الفلسطيني
2ـ أنهت الصفعتان نظرية «الردع» الإسرائيلية. واثبتتا أن المقاومة الفلسطينية، غير «مردوعة» وكذلك كل «أطراف الممانعة» والعودة إلى سلوك طريق الكرامة، التي تضمن تحقيق المصالح الوطنية والقومية العربية.
3ـ أثبتت الصفعة الفلسطينية لإسرائيل قبل مئتي يوم، وأكدت الصفعة الإيرانية قبل عشرة أيام، أن إسرائيل ليست قادرة على حماية من «يستجير بها» ويطبّع علاقاته بها، ولا هي حتى قادرة، بقواها الذاتية، على حماية نفسها، بل هي في حاجة لمن يحميها.
4ـ كشفت الصفعتان انتهاء مفعول «عقيدة الأمن الإسرائيلية» التي تقوم، منذ إعلان إقامة إسرائيل سنة 1948، على أربعة أسس: أ: الردع. ب: خوض المعركة على أرض العدو. ج: الحسم والانتصار على العدو بسرعة. د: ترجمة الانتصار إلى مكاسب سياسية ومادية ومعنوية. كل هذه القواعد تمت زعزعتها: لا مفعول للردع؛ بدأت الصفعة الفلسطينية على أرض تخضع لاحتلال إسرائيل وانتقلت الى أرض قطاع غزة، ولكنها مازالت تتعرض لقذائف وصواريخ (صناعة محلية)؛ مضى مئتا يوم ولم تحسم المعركة، وما زالت صفارات الإنذار تدوّي بشكل شبه يومي في محيط قطاع غزة وفي الجليل؛ ويحقق الشعب الفلسطيني، في ظل الحرب الإسرائيلية الإجرامية على قطاع غزة والضفة الغربية، مكاسب سياسية من خلال تضامن ومظاهرات ملايين في العالم مع الحقوق الفلسطينية المشروعة. وهذا ما ينطبق على الصفعة الإيرانية ايضاً. [على أن ما تقدم لا يكتمل دون تسجيل ملاحظة: لو كان في قطاع غزة والضفة الغربية ولبنان وبقية «دول الطوق» صفارات إنذار، لكانت تدوي بشكل متواصل طوال نهارات وليالي الأيام منذ سنة 1948 حتى ايامنا هذه].
وماذا عن الوضع في إسرائيل واحتمالات تطوراته في المستقبل المنظور؟
ما زال الوضع السياسي في إسرائيل غير ناضج بعد للتوصل الى حل سلمي يضمن حياة واستقرار الإسرائيليين، ودفع الاستحقاقات المترتبة على الاعتراف بوجود وحقوق الشعب الفلسطيني الوطنية المشروعة، وخطوتها الأولى: إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، كاملة السيادة، وعاصمتها القدس الشرقية. وأكرر: باعتبار ذلك الخطوة الأولى فقط، وتليها خطوات التسويات العادلة المقبولة والمنطقية، دون أن نتحدث عن «العدل المطلق» وضرورة أن نكتفي بـ«العدل الممكن والمقبول» تحت شعار «لا يموت الذيب، ولا يفنى الغنم».
المرشحون العمليون، في السياسة الإسرائيلية، حالياً، لوراثة نتنياهو وحكومته العنصرية، الآيلة الى السقوط، لا يختلفون، في الجوهر والمضمون، عن نتنياهو وأعضاء حكومته: من الجنرال غانتس الى الصحافي لبيد، وإن كانوا يختلفون عنه في الشكل.
لكن، تتزايد في الشارع اليهودي في إسرائيل هذه الأيام، أصوات فيها من المنطق المقبول شيء كثير، ويمكن البناء عليها اعتباراً، ربما، من الانتخابات العامة بعد المقبلة.
أمثلة ذلك كثيرة. أكتفي هنا، (بسبب ضيق المساحة المتاحة) في عرض مثل واحد:
ما سأورده فقرة من مقال كتبته ستاف شبير، في «هآرتس» 21.4.2024، تحت عنوان: «ماذا كان سيقول مئير شَليف عن السابع من أكتوبر؟». شبير ناشطة سياسية إسرائيلية، كانت عضوة كنيست، عن «حزب العمل» لمدة ست سنوات ونصف السنة، ابتداء من 2013. وشليف، كاتب وصحافي وروائي تُرجمت بعض كتبه الى أكثر من عشرين لغة، وكان له مقال أسبوعي بالغ الحدّة والوضوح والعمق، وبلغة سليمة أدبية محترمة، في عدد يوم الجمعة في «يديعوت أحرونوت» وأذكر أن أريئيل شارون قال، وهو رئيس للحكومة الإسرائيلية، ويتعرض لهجوم وانتقادات شليف: «أنتظر يوم الجمعة كل أسبوع لأقرأ ما يكتبه مئير شليف، لأستمتع وأتعلم من انتقاداته التي أوافقه على الكثير منها». تقول ستاف شبير: «عندما سألته (مئير شليف) إن كان يفتقد الماضي ويشتاق إليه أكثر، أو أنه مفتون أكثر بالمستقبل، أجابني أنه لو كان لديه آلة للزمن فسوف يسافر إلى المستقبل.
وتابع: هناك شيء واحد فقط يودّ تصحيحه في الماضي (لو تمكن): العودة الى الوراء، وتغيير أسس الدولة (إسرائيل) من أجل كتابة دستور، وتعويض العرب (الفلسطينيين) الذين غادروا أو طُردوا في حرب التحرير (!!) وفصل الدين عن السياسة، فالدين والديمقراطية لا يجتمعان».
تتابع شبير: « منذ السابع من أكتوبر أسمع الناس أحياناً يقولون عن أحبّائهم الذين ماتوا قبل السابع من أكتوبر، أن العزاء الوحيد لهم هو أنهم لم يضطروا إلى مشاهدة الحالة الرهيبة التي تعيشها إسرائيل».
(القدس العربي)