لا يمكن تقييم الموقف الإقليمي من حرب الإبادة في غزة دون الوقوف عند
الموقفين التركي والإيراني، تحديدا باعتبار انخراطهما بشكل أو بآخر في كل ملفات
المنطقة العربية تقريبا.
إيران ومليشياتها المسلحة وأذرعها الناعمة حاضرة في كل
الجبهات المشتعلة مشرقيا من لبنان إلى اليمن مرورا بسوريا والعراق خاصة. أما
تركيا
فقد تمكنت مع حزب العدالة والتنمية من أن تفرض نفسها لاعبا أساسيا في سوريا بحكم
الجوار وفي منطقة المتوسط عامة وصولا إلى القرن الأفريقي.
لكنّ الملف
الفلسطيني يمثل خصوصية فارقة مقارنة بكل الملفات العربية
الأخرى لبعده التاريخي والحضاري والعقائدي ولما اختزلته فلسطين في الوجدان العربي
والإسلامي والعالمي من رمزية نضالية لا مثيل لها. هذه الخاصية هي التي فرضت على
اللاعبين الإقليميين التعامل بحذر شديد مع هذا الملف لتحقيق أكبر المنافع الممكنة
لهما دون التورط في الصدام المباشر مع الكيان المحتل وأذرعه العالمية الباطشة التي
قد تهدد مصالحهما.
موقف طهران
لا يختلف عاقلان في أنّ النظام الإقليمي العربي شريك في جريمة غزة
سواء بالصمت أو بدعم الاحتلال دعما ماديا مباشرا. ولا يتجادل إثنان في وهن الشعوب
العربية وعجزها عن نصرة الفلسطينيين وعن إيقاف المذبحة المتواصلة هناك رغم مرور
قرابة نصف سنة من المجازر والإبادة.
هذا الموقف العربي يفسَّر في جزء كبير منه برغبة الأنظمة العربية في
المحافظة على السلطة بضمان حماية الاحتلال الذي هو أحد شروط بقائها في الحكم. لكن
لدول الإقليم وخاصة تركيا وإيران أجندات أكبر من الأجندة العربية وهي ترى في حرب
الإبادة في غزة فرصة نادرة لتحقيق مكاسب جديدة داخل المنطقة العربية مستفيدة من
وهن الجبهة العربية الرسمية ومن تفككها.
لا يمكن إلقاء اللوم على تركيا أو على إيران في سعيهم الدؤوب إلى الاستثمار في المصائب العربية فهذا منطق التاريخ وقانون مسارات الدول والحضارات. لكن المعضلة والخلل إنما تكمنان في الجانب العربي بأوجه الثلاثة: الرسمي والشعبي والنخبوي.
أما بالنسبة للنظام الإيراني فإن شعار المقاومة الذي ترفعه الجمهورية
الخمينية منذ نشأتها يشكل حجر الزاوية في السردية السياسية والعقائدية للنظام وهو
ما يفرض عليها فرضا دعم حركات المقاومة بشكل عام. هذا نظريا أما على المستوى
العملي فقد شكل التظاهر بدعم حركات المقاومة في الإقليم وخاصة في فلسطين جزءا من
برنامج اختراقها وتوظيفها لصالح المشروع الإيراني التوسعي.
أي أن البرنامج السياسي الإيراني وذراعه العقائدية تعمل منذ نشأتها
على اختراق حركات المقاومة العربية الإسلامية لإلحاقها بالرصيد الحركي السياسي أو
المسلح لتدعيم المشروع الأم. في العراق وفي سوريا وفي لبنان وفي اليمن نجحت طهران
في تكوين مجموعات مسلحة دامية تحولت بمرور الزمن إلى القوة الأكبر داخل هذه
البلدان من الحوثي إلى حزب الله إلى ميليشياتها المختلفة في سوريا والعراق.
تبقى فلسطين أهم المعاقل التي تراهن جمهورية الخميني على اختراقها
وضمها إلى بقية البؤر التي تسيطرعليها في بلاد العرب. تتأتى هذه الأهمية من رمزية
المكان وفيه مسرى رسول الله والمسجد الأقصى والقدس الشريف وتاريخ من المقاومة
والنضال سابق لنشأة الجمهورية الخمينية نفسها.
إن سيطرة طهران عبر المليشيات المسلحة على هذه العواصم التاريخية
يقوّي قدراتها التفاوضية مع الغرب حول مصالحها في الإقليم وخاصة حول برنامجها
النووي. كما يساعدها هذا الاختراق في فرض أجنداتها على الأنظمة العربية من جهة وفي
تلميع صورتها أمام الجماهير العربية باعتبارها مناصرة للحق الفلسطيني.
موقف أنقرة
شكّلت حرب الإبادة في غزة ضربة قوية لشعبية تركيا وخاصة شعبية أردوغان
بين الجماهير العربية التي رأت في تركيا أردوغان حبل نجاة للعالم الإسلامي من
خذلان أنظمته وحكامه. فقد شكلت الحملة الإعلامية التي رافقت حكم الطيب أردوغان
والتي كانت في أغلبها موجهة نحو العالم الإسلامي ومكونه العربي غطاء سميكا من
الزعامة وصولا إلى اعتباره خليفة جديدا للمسلمين.
استفادت تركيا بقوة من المأساة السورية ومن المأساة الليبية ومن
تقاتل الإخوة في الخليج ونجحت في فرض نفسها قوة إقليمية في البحر المتوسط وفي
المشرق العربي. فقد ساهم الصعود الاقتصادي والتسليحي العسكري للأتراك في معاضدة
جهودهم التوسعية الناعمة في المنطقة التي يعتبرونها مجال نفوذهم التاريخي أي نفوذ
السلطة العثمانية.
لن يكون الخروج من هذه المصيدة ممكنا قبل الخروج من مصيدة الاستبداد القاتلة وقبل أن تستعيد الشعوب سيادتها وحقها في التعبير والتنظّم والفعل بعيدا عن دورة القمع القاتلة التي تفتك بالمنطقة.
انتظرت الشعوب العربية والإسلامية موقفا قويا من تركيا في مواجهة
العدوان على غزة لكن النظام التركي اكتفى بالتصريحات والخطب والإدانات حاله كحال
الأنظمة العربية. بل إن تقارير جدية كثيرة كشفت عن حجم التعاون والتبادل التجاري
القوي بين أنقرة وتل أبيب بما في ذلك الأسلحة والمتفجرات في قلب المذبحة الجارية
في القطاع.
فضلّت تركيا المحافظة على مصالحها الاقتصادية مع الكيان المحتل كما
التزمت من خلال موقفها السلبي باتفقيات انضمامها إلى حلف شمال الأطلسي الذي موّل
عسكريا حرب الإبادة في فلسطين من خلال الأسلحة والمعلومات والمرتزقة. في الحقيقة
لم تضحّي تركيا بموقفها هذا برصيدها العربي والإسلامي لأنها في العمق لا تراعي إلا
ما يتسق ويتماشى مع مشروع إحيائها الامبراطوري في القرن الجديد.
الفاجعة العربية
لا يمكن إلقاء اللوم على تركيا أو على إيران في سعيهم الدؤوب إلى
الاستثمار في المصائب العربية فهذا منطق التاريخ وقانون مسارات الدول والحضارات.
لكن المعضلة والخلل إنما تكمنان في الجانب العربي بأوجهه الثلاثة: الرسمي والشعبي
والنخبوي.
فما كان يمكن للتغلغل التركي والإيراني أن يكونا ممكنين دون توفر
شروط ذلك خاصة من خلال تأبد حالة القمع والاستبداد السياسي وانسداد أفق الحريات
الأساسية في البلاد العربية. إضافة إلى تناحر الأنظمة العربية الذي وفر الأرضية
المناسبة لكل مشاريع الاختراق الدولية والإقليمية فالمزايدة الإيرانية على ملف
فلسطين مثلا إنما تستفيد أساسا من حصار الدول العربية لحركات المقاومة في الأرض
المحتلة.
أما شعبيا فمن الطبيعي أن تُستدرَج مجموعات عربية كبيرة إلى داخل
المربع التركي والإيراني بسبب خذلان الأنظمة من جهة وبريق الشعارات الإقليمية من
جهة ثانية. لا نلوم الجماهير العربية على التعاطف حدّ التماهي أحيانا مع الموقف
التركي أو الإيراني على اختلاف أجندتهما لأنها بحال الغريق الذي يتشبث بكل قطعة قش.
أما النخب العربية فإنها تتحمل الجزء الأكبر من المسؤولية التاريخية
في توضيح خلفيات الموقف التركي والإيراني من ملفات الصراع العربية. لكنها نخب في
الجزء الأكبر منها مشبعة بالاصطفاف الأيديولوجي أو المذهبي ومرتهنة لمصالحها
الشخصية الضيقة أو لمصلحة كفيلها الإقليمي.
صحيح أننا لا نعيش وحدنا في المنطقة وصحيح كذلك أن تقاطع الأهداف
والمصالح والأجندات سنّة كونية جارية لكنها لا يمكن أن تكون على حساب القضايا
المركزية بعد أن أثبت التاريخ وأثبتت التجربة أن أنقرة وطهران لا تراعيان إلا
مصالحهما على حساب مصائب المنطقة وكوارثها وإن بنسب مختلفة.
لن يكون الخروج من هذه المصيدة ممكنا قبل الخروج من مصيدة الاستبداد
القاتلة وقبل أن تستعيد الشعوب سيادتها وحقها في التعبير والتنظّم والفعل بعيدا عن
دورة القمع القاتلة التي تفتك بالمنطقة.