كتب

هل تمثل ‏رفح عقدة نتنياهو وفصل الحرب الأخير ضد غزة؟ قراءة استراتيجية

‏يُنظر إلى التحدي الذي يتبعه نتنياهو إزاء رفح أنه محاولة لممارسة ضغوط على المفاوض الفلسطيني- الأناضول
أصدرت مؤسسة مدى للرؤية الاستراتيجية، تقدير موقف بشأن مآلات الحرب الإسرائيلية المستمرة على قطاع غزة للشهر السادس على التوالي، وتهديدات الاحتلال بالهجوم على مدينة رفح جنوب غزة، ورأت أن الحرب على غزة قد تطول إلى خريف العام الجاري وتتخذ سيناريوهات متعددة ومختلفة، بسبب تعقد دوافع الحرب وتحدياتها الإسرائيلية الداخلية.

وتلقي قراءة "مؤسسة مدى للرؤية الاستراتيجية" للحرب في غزة، التي تنشرها "عربي21"، أضواء على طبيعة مدينة رفح والأسباب المباشرة والبعيدة للهجوم المتوقع ضدها..   

للإشارة فإن "مؤسسة مدى للرؤية الاستراتيجية" تقدم نفسها أنها "مؤسسة مختصة بإجراء بحوث لقياس الاتجاهات الاستراتيجية في مناطق النزاع وبناء تصورات طويلة الأمد ورؤى استراتيجية لتحديد أولويات صناع القرار".

‏رفح.. لمحة تاريخية

‏تعتبر مدينة رفح كبرى مدن قطاع غزة، ويعود تاريخها إلى نحو ٥ آلاف عام، وتبلغ مساحة المحافظة ٥٥ كم٢، ولها حدود مباشرة مع مصر، ومعبر خاص بها (معبر رفح)، وهو الوحيد الذي يربط القطاع بطرف غير إسرائيل، وأُنشئ عقب اتفاقية كامب ديفيد عام ١٩٧٩، وبقي خاضعاً لسلطتها حتى تشرين ثاني ٢٠٠٥، وبلغ عدد سكان محافظة رفح قبل الحرب الأخيرة نحو ٣٠٠ ألف نسمة، لكنه ارتفع، وفق تقدير الأمم المتحدة، إلى ١,٥ مليون نسمة بفعل الحرب الإسرائيلية البرية على شمال القطاع ووسطه، منذ تشرين أول ٢٠٢٣.

‏تعاني رفح من ندرة المساعدات والمؤن الغذائية والطبية، وانقطاع الكهرباء ومياه الشرب، وتوقف غالبية المشافي باستثناء مشافي رفح المركزي والكويت التخصصي وأبو يوسف نجار، وتغطي مخيمات النازحين مساحة ٤ كم٢ من أراضي المحافظة، ما يجعل الحرب عليها بمثابة كارثة إنسانية، وفق تحذير الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش والمنظمات الدولية.

‏رفح.. عقدة وتحدٍّ

‏لرفح إرث عميق في مواجهة الغزوات عبر التاريخ، وقد تعرضت لغزو الفراعنة والآشوريين والإغريق والرومان، وأطلق عليها العرب اسم "رفح"، وفي عام ١٩١٧ احتلها البريطانيون، ثم وقعت تحت سيطرة مصر عام ١٩٤٨، واحتلها الإسرائيليون عام ١٩٥٦ وغادروها بعد عام، ثم احتلوها ثانية عام ١٩٦٧، إلى أن انسحبوا منها عام ٢٠٠٥، عقب جلائهم عن قطاع غزة.

‏يُطلق على رفح اسم "قلعة الجنوب"، وأيضاً "الصندوق الأسود" بسبب نوعية العمليات التي شهدتها ضد القوات الإسرائيلية، ومنها أسر الجندي جلعاد شاليط في ٢٥ حزيران ٢٠٠٦، وأسر الملازم هدار غولدن الضابط في لواء جيفعاتي في ١ آب ٢٠١٤، حيث اشتهرت رفح بهجمات مقاتليها القوية على الجيش الإسرائيلي.

‏وينظر الإسرائيليون إلى رفح على أنها عقدة أمام استكمال حربهم على غزة، حيث ما زالت تضم مجموعة من كتائب "عز الدين القسام" و"سرايا القدس" وفصائل المقاومة الأخرى، والتي يعتقد أنها ستقاتل بشراسة دفاعاً عن المنطقة، مما يجعل الحرب تمتد لأسابيع أو أشهر.

‏التحدي الإنساني

‏يقول عدنان أبو حسنة المستشار الإعلامي لوكالة الأونروا في غزة إن أهالي رفح "يعيشون أسوأ لحظات حياتهم"، ويضيف "هناك عشرات آلاف الخيام العشوائية نصبت في الشوارع والأماكن الفارغة وحول مراكز الإيواء. الأوضاع على كافة المستويات، الإغاثية، الصحية، أوضاع المياه الصالحة للشرب أو المياه الصالحة للاستخدام الآدمي، كلها سيئة للغاية، واستمرارها بهذا الشكل، حيث يتم تجميع معظم سكان قطاع غزة في مدينة رفح، له أخطار غير مسبوقة على كافة المستويات النفسية والحياتية والمجتمعية والإغاثية بصفة عامة"، ويوجز أبو حسنة الوضع بالقول "لو ألقيتَ حجراً في غزة ستقتل وتجرح (في ظل كثافة السكان)، فما بالُك بدبابات وطائرات وصواريخ!". (أخبار الأمم المتحدة، ٥ شباط ٢٠٢٤).

‏وقال جيريمي لورانس المتحدث باسم المفوضية السامية لحقوق الإنسان في مؤتمر صحفي "ندخل الشهر السادس من الصراع الوحشي الذي دمَّر حياة ومنازل عدد لا يحصى من الفلسطينيين، فضلا عن الإسرائيليين"، وأضاف: "في رفح ١,٥ مليون نازح يعيشون في ظروف مزرية وغير إنسانية"، مشيراً إلى أن أي هجوم بري على رفح من شأنه أن يؤدي إلى خسائر فادحة في الأرواح، ويزيد من خطر وقوع مزيد من الجرائم الوحشية، مضيفاً "يجب أن لا يُسمح لهذا بأن يحدث".

‏وأشار إلى أنه منذ ٧ تشرين أول، لم تكترث أطراف النزاع بالقانون الدولي الذي يحمي حقوق الإنسان ويحكم سير الأعمال العدائية، مؤكدا أنَّ ذلك "وصمة عار على الضمير الجماعي للإنسانية". ونبَّه إلى أنَّ قوانين الحرب واضحة ويجب احترامها في جميع الأوقات والظروف، ويجب محاسبة من يخالفها". (أخبار الأمم المتحدة، ٨ آذار ٢٠٢٤)

‏دوافع نتنياهو وحكومته

‏رغم الضغوط الدولية التي يتعرض لها، يُصر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على مواصلة التهديد باجتياح رفح، مؤكداً أن لا شيء سيقف حائلاً دون مواصلة حربه لاستئصال حركة "حماس"، والقضاء على سلطتها وقوتها العسكرية، وقال إن عدم اجتياح رفح هو بمثابة "خسارة للحرب" (الأناضول، ٨ آذار ٢٠١٤)، وأكد أن القرار "لا رجعة فيه"، والسيطرة الأمنية على غزة والأراضي الفلسطينية يجب أن تكون لإسرائيل. (سكاي نيوز عربية، ١١ آذار ٢٠٢٤)

‏يُنظر إلى التحدي الذي يتبعه نتنياهو إزاء رفح، ومعه عدد من وزرائه المتشددين، على أنه محاولة لممارسة ضغوط على المفاوض الفلسطيني بشأن صفقة تبادل الأسرى، خاصة بعد رفض الأخير تقديم أي تنازلات، والإصرار على مطالبه بالانسحاب الإسرائيلي الكامل من قطاع غزة، ودخول المساعدات دون شروط، وإعادة الإعمار, وتبادل الأسرى، وهي مطالب يرى فيها نتنياهو إعلان هزيمة لحكومته وحملته العسكرية المتواصلة منذ ستة أشهر.

‏وسبق لرئيس الحكومة الإسرائيلية أن أعلن في ٢٥ شباط ٢٠٢٤ موافقته على تأجيل اجتياح رفح في حال قدمت "حماس" ما وصفه بـ"مطالب معقولة"، وهو ما يبدو أنه لم يحصل، مما دفعه للعودة إلى التشدد، وفي مساحة من الوسط تقف إدارة بايدن التي قال المتحدث باسم وزارة خارجيتها ماثيو ميلر "لقد أوضحنا في المحادثات الخاصة والعلنية (مع الإسرائيليين) أن موقفنا هو أنهم لا يستطيعون، أو لا ينبغي لهم الذهاب إلى رفح دون خطة إنسانية ذات مصداقية".

‏يمكن تلخيص دوافع نتنياهو لاستمرار التهديد باجتياح رفح بالآتي:

‏1 ـ إبقاء حالة الحرب، لأنَّ وقفها سيدفع نحو انفراط عقد الحكومة، وبالتي الذهاب إلى انتخابات يُرجح أن يخسرها وفق أحدث استطلاعات الرأي العام (٥٣ في المائة من الإسرائيليين يعتقدون أن البقاء السياسي هو الذي يدفع نتنياهو لإطالة أمد الحرب، القناة ١٣ العبرية)

‏2 ـ البحث عن صورة نصر، تتمثل في الوصول إلى شخصيات من الصف الأول في "حماس" وكتائب "عز الدين القسام" بعد تزايد الانتقادات الموجهة إليه من الطبقة السياسية والعسكرية الإسرائيلية حول مراوحة الحرب في مكانها وغياب أي إنجاز استراتيجي، (عضو مجلس الحرب غادي آيزنكوت أرسل لأعضاء المجلس رسالة قال فيها إن المخطط الاستراتيجي للحرب تعثر، وهو يهدد تحقيق الأهداف والوضع الاستراتيجي لدولة إسرائيل، وأضاف أنه "منذ ٣ أشهر لم يتم اتخاذ أي قرارات حاسمة، فالحرب تجري وفق إنجازات تكتيكية، دون تحركات كبيرة لتحقيق إنجازات استراتيجية"، القناة ١٢ العبرية).

سيواصل نتنياهو ممارسة ضغط عسكري في قطاع غزة والضفة الغربية والجبهة الشمالية، ومحاولة دفع الولايات المتحدة وأطراف غربية للدخول في مواجهات إقليمية (المواجهة في البحر الأحمر)، والانتقال من الحرب الشاملة "المباشرة" إلى "حالة الحرب" التي يستخدم فيها الطيران
‏3 ـ استمرار وتكثيف الضغوط على المفاوضين الفلسطينيين، بالتوازي مع محاولة إيجاد سلطة محلية بديلة بالعودة إلى ما يشبه نظام روابط القرى (تشكيلات إدارية أنشأتها سلطة الاحتلال الإسرائيلية في الضفة الغربية عام ١٩٧٨، لكنها أخفقت بسبب رفض الفلسطينيين لها)، والهدف هو محاولة خفض سقف المطالب الفلسطينية من ناحية، وتأليب الحاضن الشعبي ضد فصائل المقاومة نتيجة طول الأزمة وتزايد المعاناة.

‏4 ـ إطالة أمد الحرب، ويرغب نتنياهو بالاستمرار في هذه العملية إلى حين انتهاء انتخابات الرئاسة الأمريكية (تشرين ثاني ٢٠٢٤)، حيث تسود التوقعات باحتمال عودة الرئيس الأسبق دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، والذي تربطه علاقات مع نتنياهو واليمين الإسرائيلي، ويتوقع أن يكون دعمه واسعاً له، مما يعزز احتمال بقائه في السلطة.

‏5 ـ محاولة القضاء على "لواء رفح" في كتائب "القسام" والذي يضم ٤ كتائب عسكرية قوامها ١٠ آلاف مقاتل، إضافة للبنية التحتية للفصائل العسكرية التي يعتقد أنها اجتمعت في المنطقة عقب اجتياح المحافظات الأربع في قطاع غزة.

‏6 ـ السيطرة على محور صلاح الدين (مع مصر)، حيث يعتقد أن عمليات إدخال السلاح تتم عبر أنفاق بين غزة والأراضي المصرية، وبالتالي إكمال حصار قطاع غزة بشكل كامل، إضافة إلى فصل القطاع إلى عدة أجزاء من خلال إنشاء طرق رئيسة تخضع لسيطرة الجيش الإسرائيلي.

‏سيناريوهات التعامل مع رفح

‏ثمة ثلاثة سيناريوهات بشأن مستقبل رفح، وذلك وفقاً لتداخل العوامل المتعلقة بالحرب، ومنها مستوى الضغوط الدولية، ومدى الضرر الذي يمكن أن يلحق بإدارة بايدن في حال تسبب الاجتياح بخسائر مدنية كبيرة، وتماسك حكومة نتنياهو، وتزايد النزاعات داخل مجلس الحرب، وضغوط الرأي العام الداخلي وأهالي الأسرى، واحتمال التصعيد في الجبهة الشمالية مع لبنان.

‏سيناريو (١) التهديد بالاجتياح للحصول على صفقة

‏في هذه الحالة سيواصل نتنياهو التهديد باجتياح رفح بغض النظر عن الضغوط الدولية، لغرض الحصول على صفقة تشمل استعادة الأسرى والاحتفاظ بسيطرة أمنية على غزة والمعابر، والتحكم بإعادة الإعمار، ومواصلة الحفاظ على تماسك ائتلافه الحكومي، وبالتالي الحصول على صورة إنجاز تعوض عن عدم تحقيق الأهداف الاستراتيجية للحرب.

‏فرص هذا السيناريو لا تبدو مرجحة بالنظر إلى صعوبة الوصول إلى الأهداف، في ظل استمرار المقاومة الفلسطينية في التصدي لجيش الاحتلال، والتمسك بالمطالب المعلنة.

‏سيناريو (٢) اجتياح رفح دون رضوخ للضغوط

‏في هذه الحالة سيدفع نتنياهو نحو اجتياح رفح، دون اعتبار للضغوط أو للآثار الإنسانية والخسائر المتوقعة، وذلك لاستكمال ضرب "حماس" وبنيتها العسكرية وسلطتها المحلية، ويستند في ذلك لتأييد الرأي العام، وموافقة الجيش ودعم مجلس الحرب، في مقابل ضغوط أهالي الأسرى ومخاوف دولية "غير فاعلة" في وقف عملية الاجتياح، ويعتقد نتنياهو أن هذا السيناريو هو الأفضل لخدمة أهداف الحرب ويساعده في البقاء على رأس السلطة، واستعادة تأييد الرأي العام له، وظهوره بمظهر الزعيم القوي القادر على التصدي للضغوط بما فيها الأمريكية، وهو سيناريو مرجح في حال لم يتطور موقف واشنطن إلى مستوى يرفض الاجتياح ولا يكتفي بوضع شروط تخفف من آثاره الإنسانية، كما أن الشروع في إقامة ممر بحري لإيصال المساعدات يظهر أن نتنياهو، الذي عزا الفكرة إليه، يهدف إلى التعويض عن توقف معبر رفح كلياً في حال الاجتياح العسكري.

‏سيناريو (٣) التراجع عن اجتياح رفح وعقد صفقة وفق الممكن

‏في هذه الحالة قد يمتنع نتنياهو عن الذهاب إلى حدِّ الاجتياح، ويعمل على عقد صفقة بضمانات أمريكية، تبقي دعم واشنطن له ولحكومته، وتبقي حالة الحرب (الهدنة لفترة محددة)، وبالتالي إبقاء ورقة الاجتياح خياراً ممكناً يمكن العودة إليه في وقت لاحق، وفق الظروف الداخلية والخارجية، وهذا السيناريو غير مرجح، لأنه لا يخدم أهداف نتنياهو الشخصية والحزبية، وقد يتسبب في تفكيك حكومته، وتراجع الزخم القائم لدى الجيش والرأي العام، واندلاع خلافات ونزاعات بين القوى الدينية والعلمانية، في ظل مطالب متكررة بالذهاب إلى فتح تحقيقات في الإخفاقات العسكرية والأمنية في أحداث ٧ تشرين أول ٢٠٢٤.

الخلاصة

‏سيواصل نتنياهو ممارسة ضغط عسكري في قطاع غزة والضفة الغربية والجبهة الشمالية، ومحاولة دفع الولايات المتحدة وأطراف غربية للدخول في مواجهات إقليمية (المواجهة في البحر الأحمر)، والانتقال من الحرب الشاملة "المباشرة" إلى "حالة الحرب" التي يستخدم فيها الطيران، وتنفيذ محاولات اجتياح محددة في غزة (عمليات خاصة)، وتوسيع دائرة الاستهداف لتشمل العمليات الأمنية، وتصفية قيادات من الصف الأول للقوى الفلسطينية في دول عدة، وسيعمل على بقاء هذه الحالة حتى خريف ٢٠٢٤، بحيث يضمن قلب المعادلة السياسية الداخلية، واستعادة حظوظه للفوز بولاية جديدة في رئاسة الحكومة الإسرائيلية في حال جرت انتخابات جديدة.