إذا كان الزمان غير الزمان فالإنسان هو الإنسان وفريضة الدفاع عن
النفس والأرض والعرض لا تسقط عنه إلى يوم الدين. وسنة التدافع بين الناس
والحضارات والقيم تجعل دوام الحال من المحال ولو دامت للأولين لما دانت للآخرين!؟ وأن الكيل بمكيالين
في حقوق الإنسان من القائمين على مجلس الأمن المخيف هو سبب كل الخلل في المعايير
والموازين وهذا الدمار المبين..
وفي
تاريخ الحروب والثورات التحريرية العظمى دروس للمعتبرين وأن
الذكرى قد تنفع حتى البغاة والعصاة
والطغاة فضلا عن المؤمنين!!
وبمناسبة إحياء
الجزائر للذكرى التاسعة والستين لثورة القرن العشرين بدون منازع في الفاتح من تشرين الثاني (نوفمبر 1954) وربطا
بما تصادفه إحياء هذه الذكرى من أحداث جسام جارية في الساحة والساعة الدولية عرفنا
إرهاصات بدايتها ولا نعرف نهايتها بعد.. نود أن نذكر المعتبرين بدروس التاريخ الحي
الذي عشناه في هذه الثورة لحما ودما وجهادا و"استشهادا" لما يزيد عن
السبع سنين مماثلة لما يراه العالم على المباشر يوميا من أهوال الحرب غير المتكافئة بين الحق والباطل في معركة
الأحزاب الثانية في فلسطين الحالية والتاريخ بيننا يبقى دائما الشاهد الأمين على
المحسنين والمسيئين والظلمة والمجرمين وأصحاب الحق المغتصب الذي لا يسترجع إلا
غلابا وافتكاكا باليمين وتلك هي سنة الله في الأولين والآخرين.
تأتي ذكرى هذا العام مشحونة بكثير من الآلام المبرحة والآمال العريضة
في الوقت ذاته وهي تصادف قمة الثورة الجهادية الوريثة الشرعية لها في معركة الأقصى
بشقيقتها الصغرى فلسطين.
لقد عايشت تلك الثورة
الجهادية كابن شهيد ومجاهد في صفوف جيش تحريرها حتى توقيف القتال وتقرير المصير
والاستقلال وكنت شاهدا على كثير من مجرياتها المفرحة والمقرحة بورودها وأشواكها؛
بأفراحها بانتصاراتها وأقراحها بالإحباطات والتقلبات والخيانات التي اعترضت
مسيرتها الطولية إلى النصر المبين!
ومن مميزاتها أن يوم انتصارها وتحقيق الاستقلال سنة 1962 كان هو يوم
ذكرى الغزو والاحتلال سنة 1830 مما يعني أن كل استقلال قد يحمل بذور احتلال كما أن
كل احتلال يحمل بذور استقلال إذا بقي عزم الرجال كما كان واقع الحال.
وإدراكا مني بما للثورة الجزائية من أوجه شبه وتطابق أحيانإ مع ما
يجري في فلسطين هذه الأيام، إلى درجة التوأمة (السيام) بين الثورتين وخاصة من
جهة نوعية الاستيطان وفصيلة المستوطنين أنفسهم خلفا عن
سلف.. والدليل على ذلك هي آلاف القوافل من شهداء المغرب العربي الكبير المدفونين في القدس الشريف على مر
التاريخ الإسلامي للأمة عندما كانت أمة
حرة حتى تحت الاحتلال الأجنبي الخارجي
(الأرحم مع الأسف من الاستحلال الداخلي الراهن!!!!)، حيث ذهب أكثر من 4000 مجاهد سنة 1948 ودخلوا من أرض الكنانة سابقا لنجدة الأشقاء في الأرض المباركة التي لم تتغير
في وجدان كل مسلم من المحكومين لاحقا في أمة المليارين من أصحاب العين البصيرة
واليد القصيرة على امتداد سماع الآذان وتلاوة القرآن من جاكارتا إلى داكار ونواكشوط والرباط وتطوان مرورا بقسنطينة ووهران!؟!
وإني لهذا السبب وغيره أعيد نشر بعض فصول كتابي (جهاد الجزائر: حقائق
التاريخ ومغالطات الجغرافيا)، هنا في صحيفة "عربي21"، وهو صورة حية عن
جوانب مشرقة من ثورة القرن العشرين التي جسدت أمجاد الحرية والكرامة، تماما كما هو
حال غزة وفلسطين هذه الأيام.. لما بين الثورتين من تطابق وتشابه كما قلنا وعشنا في الثورة الاولى مقارنة
بما نراه على المباشر في الثورة
الفلسطينية العظيمة الثانية التي اختصرت أمة المليارين (من غثاء
السيل) في المليونين من أبناء الشعب الفلسطيني في غزة والقدس وجنين.
وإنني أدرك تمام الإدراك الصلة الوثيقة بينهما في حجم التضحيات
ومعارك التحرير التي يخوضها الأشقاء الفلسطينيون هناك (كما كان أشقاؤهم هنا لأكثر من سبع سنين دون
انقطاع.) في مواجهة أعتى احتلال وأشده شراسة، لا سيما وأنه احتلال
يلتف حوله قادة العالم الغربي
الاستعماري كله ويدعمونه انتقاما من عدوهم اللدود على هزائمهم السابقة وإحياء
لخلافات وأحقاد تاريخية دفينة..
كنا نعتقد، وأن بعض الظن ليس
إثما، أن ثورات الحرية والكرامة والسيادة والاستقلال التي عرفتها مختلف أنحاء
المعمورة قد تجاوزتها الوحوش البشرية المسلحة بالنووي والحقد الأعمى في معاداة
حقوق الإنسان الفلسطيني خارج حقوق الإنسان
التي يحميها حق الفيتو الظالم أمام كل أنظار العالم الأعور الأصم الواجم.
إن الإسلام والاستعمار ضدان لا يلتقيان في مبدأ ولا في غاية،
فالإسلام دين الحرية والتحرير، والاستعمار دين العبودية والاستعباد، والإسلام شرع
الرحمة والرفق، وأمر بالعدل والإحسان، والاستعمار قِوامه على الشدة والقسوة
والطغيان، والإسلام يدعو إلى السلام والاستقرار، والاستعمار يدعو إلى الحرب
والتقتيل والتدمير والاضطراب، والإسلام يثبت الأديان السماوية ويحميها ويقرّ ما
فيها من خير ويحترم أنبياءها وكتبها، بل يجعل الإيمان بتلك الكتب وأولئك الرسل
قاعدة من قواعده وأصلا من أصوله، والاستعمار يكفر بكل ذلك ويعمل على هدمه خصوصا
الإسلام ونبيه وقرآنه ومعتنقيه.وهذا المكيال العجيب الغريب بين إنسانين لا يثير
القلق فقط حول مصير البشرية في هذا العالم
(وحيد القرن) وإنما يعيد السؤال أيضا وبالحاح عما إذا كان للمعارك الحضارية الكبرى
التي سعت لتوحيد البشرية على أساس العدل والمساواة تتراجع إلى ما تحت الصفر كما
نراها في مجازر المغول الجدد بالصوت والصورة في غزة العزة والإنسانية التي تحتضر في مستشفياتها
المنكوبة كلها اليوم والمقطوعة عن الحياة أمام أعين دعاة حقوق
الإنسان (الحجري) وليس الإنسان البشري المتحضر المتعلم والمتقدم!!
وما يفيد في هذه الصفحات من ثورة الجزائر (فلسطين الأولى) الأشقاء في الجزائر الثانية ( فلسطين الحالية)، سأسرده ليس من باب تقديم الدروس، وإنما من باب قراءة التاريخ
والاتعاظ به وأخذ العبرة منه..
بقدر ما كانت الثورة الجزائرية عظيمة في أهدافها، وواسعة في نطاقها
ومتنوعة في وسائلها، ومعقدة في عناصرها وأطرافها... اعترضتها مخططات وخيانات
ومؤامرات في مستوى عظمة أهدافها، وشراسة أعدائها، في الخارج والداخل، من الفاعلين
الحقيقيين المباشرين ومن نوابهم المساعدين؛ وهو ما نتناوله في هذه المقالات بما
يتطلبه من شمولية، وتفصيل، وشهادات وتوثيق من الأطراف المعنية حسب مختلف المراحل
والمنعرجات التي مرت بها الثورة من البداية إلى النهاية، وقد حصرنا أهم هذه
المناوآت والاعتراضات والخيانات والمؤامرات فيما يلي:
أولا ـ الحركة الميصالية
في الوقت الذي كان كلّ الجزائرين الوطنيين يترقبون اندلاع الثورة
الجزائرية بزعامة الحاج أحمد ميصالي، الذي كان أول من طالب بالاستقلال الوطني
التام والحقيقي عن
فرنسا.. فإذا بهذا الزعيم الكبير يؤسس الحركة الوطنية الجزائرية (MNA) ويشكل أفواجا مسلحة بدأت تتحرك في البداية ضد القوات الفرنسية، ثم
سرعان ما حولت هذه الحركة نشاطها السياسي والعسكري ضد جبهة وجيش التحرير الوطني؛
وهذا ما نلمسه في الرسالة التي أرسلتها الحركة الوطنية الجزائرية إلى المجلس
الوطني الفرنسي، تندد فيها بحالة الطوارئ، وبالقمع، وتتقدم الحركة بصفتها ممثلة
للشعب الجزائري.
ويعلق الدكتور بوعلام بن حمودة على هذه الرسالة بقوله: "والغريب
في الأمر أنّه أمضى البرقيّة كرئيس لحزب الشّعب الجزائريّ (PPA) متجاهلاً جبهة التّحرير الوطنيّ، ووجّه
في خريف سنة 1955 مذكّرة إلى الأمم المتّحدة لِلَفت نظرها إلى "الأحداث"
الّتي أدّت إلى تصارع بين القوّات الفرنسيّة المسلّحة والشّعب الجزائريّ.
وبمناسبة أول نوفمبر 1955 وجّه مصّالي الحاجّ برقيّة إلى الشّعب
الجزائريّ يندّد فيها بالحرب وبالقمع ويتهجّم فيها على "المركزيّين"
وعلى "الجبهويّين" المنعوتين "بالمغامرين". ولتغليط الشّعب
الجزائريّ، كان أحيانا ينتهي تصريحه بذكر تصميم الشّعب الجزائريّ على مواصلة
الكفاح حتىّ النّصر "وراء جيش التّحرير الوطنيّ ووراء الحركة الوطنيّة
الجزائريّة ووراء قائد الحركة الوطنيّة مصّالي الحاجّ".
بقدر ما كانت الثورة الجزائرية عظيمة في أهدافها، وواسعة في نطاقها ومتنوعة في وسائلها، ومعقدة في عناصرها وأطرافها... اعترضتها مخططات وخيانات ومؤامرات في مستوى عظمة أهدافها، وشراسة أعدائها، في الخارج والداخل، من الفاعلين الحقيقيين المباشرين ومن نوابهم المساعدين؛
ثم يضيف الدكتور بن حمودة قوله: "وفي هذا الإطار المناوئ للثورة
تكوّنت أفواج مصّاليّة في فرنسا وفي الجزائر غدَاة انطلاق الثّورة التّحريريّة مما
جعل بعض المناضلين الوطنيّين المخلصين في حزب الشعب يظنون خطَأً أنّ الثّورة
التّحريريّة قامت بأمر من مصّالي الحاج. ولقد أبقى مصّالي الحاجّ على هذا
الالتباس وواصل اتّصالاته الرّسميّة بالمحافل الدّوليّة".
وما يؤكد هذا اللبس المتعمد من مصالي الحاج في البداية، والذي جعل من
الثورة كيانًا ذا رأسين، واحد لجبهة التحرير والثاني للحركة الوطنية، هو ما يورده
عبان رمضان في رسالته حيث يقول: "إنّ المصّاليّين في العاصمة ماتوا
نظاميًّا.. مصّالي قادر على كلّ شيء؛ إنّه أصبح العدوّ رقم 1 في الجزائر؛ إنّ
أصدقاءه بالجزائر أصبحوا عُمَلاء مصالح الأمن الفرنسيّة وأصبحوا يصطادون
عَناصرَنا؛ إنّ مسؤوليهم يعلنون أنّ مصّالي الحاجّ هو الّذي يقود الثّورة".
ويضيف عبان في رسالته أيضا قوله: "إنّ عناصرهم القاعديّة نزيهة
ومتّصفة بحسن النيّة؛ بمجرّد أن يعلموا الحقيقة، يلتحقون بصفوفنا".. والدليل
على ذلك نجده في شهادة المجاهد رزقي باسطا الذي كان ميصاليا ثم انضم إلى جبهة
التحرير الوطني حيث يقول: "مصالي طلب أن ننتقل إلى العمل قبل الجبهة، ثمّ إنّ
الجبهة جاءت فيما بعد، عندما أطلقوها، ماذا حدث؟ شيء يجهله الكثيرون، أو
يتجاهلونه، وهو أنّ رمضان عبان، رحمه الله، دعا الجميع للالتحاق بالجبهة، وحتى
الشيوعيين، ومن كان ضدّ الثورة، وغيرهم، إلاّ المصاليين كانوا منبوذين".
ويضيف أيضا: "بالنسبة لي ذهبت إلى القاهرة في 17 ديسمبر 1954،
خاصّة وأنني لا أستطيع العودة إلى الجزائر، المُناضلين الذين كانوا تابعين لجماعتي
كانوا قد بدؤوا في إنجاز عمليات، وأتحدى أيّ شخص من الجبهة قام بعملية منذ 6
نوفمبر 1954 في العاصمة، كلّهم مصاليين، لم تكن هناك هيكلة للجبهة داخل العاصمة،
أنا أذكر الأسماء، هناك من الجزائريين من قام بعمليات تحت اسمهم الشخصي، لا جبهة،
ولا مصالي، ولا شيء، مثل تفروين من ازفون، الذي قتل دركيا، ثم أُعدم سنة 1956،
ولكن المصاليين المُناضلين الذين كانوا تحت مسؤوليتي، ماتوا والأسلحة بين أياديهم
في الجزائر، وأوّل شهيد يُقتل وهو يحمل السلاح في يديه كان مصاليا، وكان ذلك في
القصبة، وهناك حمدي باداش من بوسعادة الذي قام بعملية ضدّ رئيس المجالس البلدية
على مستوى العاصمة أمادي ايفروجي في 28 ديسمبر 1956 في شارع مراد ديدوش (ميشلي
سابقا)، وكان ذلك مُبرمجا قبل الفاتح نوفمبر، ولكن لم يحدث إلاّ بعد سنتين. وهناك
عملية أخرى قضينا فيها على مفتش الشرطة المدعو سي حميدي في أفريل 1955، وكان ذلك
في مقهى البهجة بالتحديد. إن العمليات الثلاث كانت مُنجزة من طرف مناضلين مصاليين،
حرفوشي محمد هو من قام بها وتمّ إعدامه في سركاجي" .
وفي هذا الامتداد الأفقي للحركة المصالية ضد جبهة وجيش التحرير
الوطني في مختلف جهات الوطن ظهرت أفواج مصّاليّة في المنطقة الثّانية (في الشّمال
القسنطينيّ) ولكن جبهة التّحرير الوطنيّ سرعان ما جعلت حدا لنشاطها أو إلى إدماجها!.
وكذلك في الغرب الجزائريّ ظهرت أفواج ميصالية إلا أن حياتها لم تطل
لأنّ المسؤولين المحلّيّين لجبهة التّحرير الوطنيّ لجأوا إلى الإقناع ثم في حالة
عدم النجاح بادروا إلى استعمال القوة لإستئصال شأفة الميصّاليّين من كل أنحاء
المنطقة.
وفي العاصمة كما يقول الدكتور بوعلام بن حمودة فقد ظهرت أيضا أفواج
من المصّاليّين قامت بعمليّات ضدّ العدوّ الفرنسيّ (وهو ما ذكره رزقي باسطا آنفا)
ثمّ تميّزت بمقاطعة شِراء التّبغ والخمر لضرب الاقتصاد الفرنسيّ كما تميّزت
بمطالبة السُّكّان بمقاطعة التّجارة مع الإباضيّين بحجّة فتورهم في التعامل
والتعاون مع الثّورة كما زعموا؛ ولكن سرعان ما توقّف نشاط الأفواج المصّاليّة بعد
انتشار نظام جبهة التّحرير الوطنيّ.
وفي المنطقة الأولى (الأوراس) قام مصطفى بن بولعيد بعمليّة ناجحة
لإقناع المصّاليّين بأن يلتحقوا بجبهة التّحرير الوطنيّ؛ كما يذكر المجاهد الرائد
مصطفى بنوي في مذكراته بأن سي الحوّاس (الّذي أصبح قائد الولاية السّادسة فيما
بعد) قد لعب دورًا كبيرًا في إقناع المصّاليّين بالاندماج في صفوف الثّورة .
وفي بلاد القبائل يذكر الدّكتور يحيا بوعزيز في كتابه "الثّورة
في الولاية الثّالثة" المعلومات التّالية حيث يقول: "في سنة 1955 حاولت
جبهة التّحرير الوطنيّ إقناع الأفواج المصّاليّة بالانضمام إلى صفوف الثّورة؛
فالبعض منهم رجعوا إلى منازلهم، والبعض الآخر التحق بجيش التّحرير الوطنيّ؛ أمّا
الباقي فقد هوجموا بأمر من جبهة التّحرير الوطنيّ، وذلك في نيسان / أبريل 1956 بين بوڤاعة
وسطيف. وقد قاد الهجوم على المصّاليّين كلّ من سي حميميّ (أحمد فضال) وسي قاسي
(محمّد حمّاي)" .
أمّا بالنّسبة إلى المنطقة الرّابعة (الولاية الرّابعة فيما بعد)
فيقول الدكتور بوعلام بن حمودة: "وُجِد فوج مصّالي قرب بوسعادة في بداية سنة
1956 وآخر بالقرب من بويرة وثالث بالقرب من سور الغزلان. وفي الونشريس نجَح القائد
العسكريّ جيلاليّ بونعامة في إقناع المصّاليّين بالالتحاق بصفوف الثّورة".
"في سنة 1955 حاولت جبهة التّحرير الوطنيّ إقناع الأفواج المصّاليّة بالانضمام إلى صفوف الثّورة؛ فالبعض منهم رجعوا إلى منازلهم، والبعض الآخر التحق بجيش التّحرير الوطنيّ؛ أمّا الباقي فقد هوجموا بأمر من جبهة التّحرير الوطنيّ، وذلك في نيسان / أبريل 1956 بين بوڤاعة وسطيف. وقد قاد الهجوم على المصّاليّين كلّ من سي حميميّ (أحمد فضال) وسي قاسي (محمّد حمّاي)" .
ويذكر الضابط محمّد صايكي: "أنّ فوجًا من المجاهدين حاول يوم 20
أوت 1957 أن يُقنع فوجًا من المصّاليّين (بالقرب من سور الغزلان) بضرورة توحيد
الصّفوف لمقاتلة القوّات الفرنسيّة؛ فرفض الفوج المصّاليّ هذا الاقتراح ثمّ أخبر
العدوّ بمكان تواجد المجاهدين فنظّم الجيش الفرنسيّ عمليّة عسكريّة أسفرت عن
استشهاد 15 مجاهدًا (منهم 6 مدنيّين) وعن أسر 13 آخرين. كما يشير المؤلّف إلى ظهور
أفواج ميصالية سنة 1959 بين المسيلة وشَلاّلة العذاورة" .
ويذكر الرائد لخضر بورقعة في كتابه (شاهد على اغتيال الثورة): "أن
بعض الميصاليين الذين التحقوا بجيش التحرير الوطني أكد مساعدة الجيش الفرنسيّ لجيش
بلّونيس (المصّاليّ) وأشاروا إلى الاتّصال المستمرّ بين الحكومة الفرنسيّة ومصّالي
الحاجّ لتسهيل مهمّة الحركة الوطنيّة الجزائريّة (MNA) ضدّ جبهة التّحرير الوطنيّ". وقد
وصل تعداد جيش بلونيس سنة 1957 حوالي 300 عنصرا مسلحين من القوات الفرنسية لضرب
الثورة حسب اتفاق بين الطرفين، وبالرّغم من التحاق الميصّاليّين إمّا بفرنسا وإمّا
بجيش التّحرير الوطنيّ، فقد بقيت بعض الوحدات منهم تنشط حتىّ الاستقلال.
فهكذا أرسلت الولاية الرّابعة "كوماندو" إلى الولاية
السّادسة (بالجنوب) لمساعدتها على جعل حدّ للمصّاليّين (في بداية سنة 1959)؛ من
جهتها، تلقّت الولاية الثّانية (في الشّمال القسنطينيّ) أمرًا من الحكومة
الجزائريّة المؤقّتة لتتابع المصّاليّين؛ فطاردتهم حتىّ فَرّوا نحو غرب الولاية
الثّانية.
وبالنسبة للولاية الرابعة فقد كان الميصاليون متواجدين بالأربعاء،
رويبة، دوار الريش (بالقرب من البويرة)، بوقاري (جهة قصر البخاري)، الأخضرية
(باليسترو)، الونشريس (جهة الشلف)، واد بن عيّاد (في أولاد دريس)، ديرة، سيدي
عيسى، ولا أكاد أنسى أن أول شيء قمنا به في منطقة حد الصحاري هو إقناع العناصر
الميصالية بالانضمام إلى صفوف الجبهة والجيش الوطنيين، إذ كانوا في حقيقة الأمر
يجهلون جوهر التنظيم الذي كنا نتبعه وخاصة الجنود، فلم تزل تلك طريقتنا معهم حتى
آب لنا أمرهم، فأقنعنا الكثير منهم، كالذين فرّوا من فوج "مصمودي" (وهو
قائد في صفوف الميصاليين)، والتحقوا بنا في الونشريس، ولقد نجح السي بونعامة (الذي
كان آنذاك عسكريا ثم صار رائدا بالولاية الرابعة)، من كسب ثقة هؤلاء الجنود (عبارة
عن أفواج ميصالية صغيرة أقامت في دوار الشباشب بالرويبة، وفي ضواحي موزاية
والعفرون، وفي دوار الريش قرب البويرة).
وأما أتباع بلونيس فكانوا متواجدين أولا ما بين الولايتين، الثالثة
والرابعة، ثم ما بين حدود الولايتين، الرابعة والسادسة، كان همّهم الوحيد هو زرع
الشكوك بين الناس، وبث الدسائس، وتغليط الرأي العام بأنهم هم الجنود الحقيقيون لا
غير، لكسب ثقة المواطنين لجمع الأموال والأسلحة الموجودة لديهم (بنادق صيد
ومسدسات) حتى لا تسلم لجهات أخرى (كجيش التحرير)، وصمموا على استخدام أمخاخهم في
تدبير المناورات، والخديعة الخسيسة، ولقد وقف جيش التحرير الوطني إزاء مكرهم، وضيق
عليهم الخناق وتمت مطاردتهم من ناحية سيدي عيسى إلى حد الصحاري.
ويضيف الرائد سي لخضر قوله: "في غمرة تسارع الأحداث عاد أحد
المجاهدين ممن كلفوا بالاتصال بالمصاليين، عاد وحيدا مذعورًا وطلب الاتصال فورا
بالقائد العام للولاية وأخبره بأنه فر بأعجوبة من الموت بعد أن اكتشف أن المصاليين
غدروا بالفصيلة وقائدها وذبحوهم جميعا كما تذبح النعاج ومثلوابهم... وذلك بعد أن
أوهموهم أنهم في مأمن، وقد ارتكب المصاليون هذه الجريمة النكراء على إثر شيوع خبر
تحويل الطائرة المقلة للزعماء الخمسة ظنا منهم أن الثورة في طريق الفشل بعد القبض
على قيادتها في الخارج وبذلك قدموا للعدو هدية ثمينة تعدادها ستة وثلاثون مجاهدا.
وأذكر أنه في إحدى المعارك التي واجهناهم فيها في مارس 1959 جنوب غرب
قصر البخاري، قد شاء القدر أن يقع في قبضتهم أحد عشر أسيرا من خيرة شبابنا
المجاهدين فلم يعاملوهم طبقا لأعراف الحروب، ولا بما يقره ديننا الحنيف، بل ذبحوهم
من خلف رقابهم! وتجاوزوا بذلك كل حدود الإجرام. ومن ضحايا هذه الحادثة البشعة
الشهداء عمر النقيس وعبد الرحمن بن عفو" .
وعن تصفية المصاليين بمنطقة بني يعلى يقول الدكتور يحي بوعزيز: "وابتداء
من أواخر 1955 بدأ الميصاليون يتجمعون في قرى بني يعلى وبالذات في غابة ثيله
الحصينة والكثيفة وحصنوا أنفسهم، وعملوا على تجنيد الكثير من الناس بالإقناع
والقهر معا، وبذلت قيادات جبهة التحرير جهودا كبيرة وطويلة على مدى تسعة أشهر
تقريبا من أجل إصلاح ذات البين وإقناعهم بالانضمام إليها دون إراقة الدماء، فرفضوا
وتعصبوا، وعندئذ قررت الجبهة مواجهتهم بالقوة وذلك خلال شهر أبريل 1956 بأمر من
القائد آعميروش، وأشرف على عملية الهجوم كل من الضابط حميمي فضال، والضابط قاسي،
وتم تجنيد وحشد كل المسبلين في قرى المنطقة، ودامت المعركة الأولى نصف يوم كامل،
تلتها معارك أخرى دامت ثمانية وأربعين ساعة، تدخل فيها الطيران الفرنسي ليضرب
الجميع بعد أن أدرك عجز المصاليين عن تحقيق النصر، ولكن التدخل جاء متأخرا وتم
تصفية أغلب المتعصبين والتحق آخرون بالجبهة والجيش، واعتقل البعض منهم. وفرَّ
الباقي مع زعيمهم المدعو "إبراهيم السطايفي" إلى الهضاب العليا بالمسيلة
حيث تم تصفيتهم في معركة ملوزة المشهورة عام 1957" .
وعن نهاية بلونيس يضيف يحي بوعزيز قوله: "وعندما تمركز بلونيس
في منطقة ملوزة، عملت المخابرات الفرنسية على الاتصال به، بواسطة ضابط الصاص،
لحمله على الاستسلام والتعاون معها ضد جيش وجبهة التحرير، وكان معه حوالي 300 رجل،
وكان المدعو علي دخلول، هو الواسطة بينه، وبين الضابط الفرنسي كومبيت وعلي دخلول
هذا كان مناضلًا في جبهة التحرير، حكم عليه بالإعدام لجرم اقترفه، ففر والتحق
ببلونيس في أولاد ثامر، ومن ثم مد يده للضابط كومبيت، الذي استعمله في هذه
الاتصالات المريبة".
وقد وضع بلونيس ورجاله تحت مراقبة القوات الخاصة الحادية عشرة Le 11è choc التي أخذت تزودهم بالأسلحة والذخائر، والأموال، وتغض الطرف عنهم وعن
أعمالهم، وخلعت عليه هو لقب الجنيرال، وأطلق على قواته اسم "الجيش الوطني
الشعبي الجزائري" ورفع على معسكره علم الجزائر الوطني، والعلم الفرنسي.
وفي خلال حوالي عام تضاعفت قواته من حيث العدد، وارتكب عدة أعمال،
وحماقات ضد السكان الذين رفضوا طاعته، والامتثال لأوامره، وركبه الغرور، فطلب من
الولاية العامة أن تعترف به كقوة وحيدة بالمنظمة، وتسند إليه المسؤولية الكاملة
على كل الوحدات المدنية والعسكرية، على أمل أن تمتد تجربته لتشمل كل الجزائر،
ويصبح هو القائد الوحيد، والرجل الآول الذي يمكن أن تتفاوض معه فرنسا، على مستقبل
الجزائر" .