ما العنف؟
العنف في مفهومه البسيط هو سلسلة من الأفعال
التي تحدث ضررا ماديا أو جسديا أو نفسيا أو غيرها من أشكال الإيذاء بدءا بالتهديد
والمساومة والابتزاز مرورا بالتجريح والتجويع والكسر والإسكات والتكذيب والسبّ ثم
القتل. وبلا شكّ فالعنف ظاهرة فرديّة ومن ثمّة تمتدّ إلى المجتمع أفرادا وفئات
وطبقات وترتبط بتاريخ الإنسان ولا تزال. ولئن وجدنا في مدارس علم الاجتماع اختلافا
بيّنا بين من يرى العنف من "أخلاق البشر فيهم الظلم والعدوان، بعضٌ على بعضٍ،
فمن امتدت عينه إلى متاع أخيه امتدّت يده إلى أخذه إلى أن يصدّه وازع" (ابن
خلدون) وعلى نفس النّهج يرى هوبز أنّ الطبيعة الإنسانية مشبعة بالعنف ساعية دائما
إلى إشباع هذا الميل، يرى غيرهما أنّ الطبيعة البشرية أصيلة وخيّرة (ج.ج. روسو
وماركس) وإنّما العنف مأتاه ما قررته الحضارة الإنسانية من استئثار بوسائل الإنتاج
والملكيّة الفرديّة.
تقرير ما سبق هو فقط لمقاربة مسألة العنف
وإقرار بوجود طرفين في المسألة: من يمارس العنف وضحيّته. بمعنى أنّه يمكن في كثير
من الأحيان أن يكون الضحية أعنف من جلاّده لمجرّد أنه كان ضحية لعنف سابق أشدّ.
وبمعنى آخر إنّ عنف السلطة ـ وهو الغالب في مسألتنا ـ هو الأشدّ عنفا بما يدفع
ضحاياه نحو تجذير العنف فيهم. وهذا طبعا ليس تبريرا إنّما هو محاولة فهم لما نحن
بصدده من تفكيك "مشكليّة" العنف الذي ارتبط كثيرا بالحركات الإسلاميّة
ممارسة واتهاما ووصمًا.
إنّ ظهور الحركات الاجتماعية ذات المنزع الأصولي والمرجعيّة الدينيّة في
محيط محافظ ليس غريبا عليها، يفترض أن تكون في منأى عن أي عنف تسلّطه أو يُسلّط
عليها. فقد نشأ أغلبها على تعاليم "أدعُ إلى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة
الحسنة" و"لا إكراه في الدين" و"لئن بسطت إليّ يدك لتقتلني
ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك".. وكثير من آيات السّلم الاجتماعي والسماحة
النبويّة في التعامل مع الخصوم. غير أنّ هذه الحركات بمجرّد ظهورها في تشكّلات
حزبيّة حيث يصبح السياسي غالبًا على الدعوي حتّى ينفجر العنف وتدخل هذه التشكيلات
مع السلطة ـ مالكة العنف الشرعي ـ في مواجهات مفتوحة.
جذور المسألة
سيكون من البداهة القول إنّ ما تعرّضت له
حركة الاتجاه الإسلامي من عنف مادّي في بداية نشاطها في الجامعة من طرف سياسي
محسوب على اليسار
التونسي ("الوطد": الوطنيون الديمقراطيون) وما عُرف
بمجزرة منّوبة سنة 1982 (في الليلة الفاصلة بين 29 و30 مارس)، قد كان بمثابة
"إعلان حرب" على "الظلامية". كان ردّ فعل الإسلاميين بالجامعة
ساعتها هو إطلاق مبادرة "الحرية في الجامعة كما في البلاد" لتقطع الطريق
عمّن يريد جرّها إلى مربّع العنف خاصّة أنّ هامش الحرية المتاح قد ساعدها في امتدادها
الأفقي اجتماعيا واتسعت قاعدتها ورأت أنّ العدد والعديد قد يفرض معادلة أخرى
وتوازنا جديدا.
إنّ ظهور الحركات الاجتماعية ذات المنزع الأصولي والمرجعيّة الدينيّة في محيط محافظ ليس غريبا عليها، يفترض أن تكون في منأى عن أي عنف تسلّطه أو يُسلّط عليها. فقد نشأ أغلبها على تعاليم "أدعُ إلى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة" و"لا إكراه في الدين" و"لئن بسطت إليّ يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك"..
من جهة أخرى بدأت السلطة السياسيّة تتحرّش
بالحركة النّاشئة والتضييق عليها في مجالها الحيوي وهو العمل المسجدي فكان لا بدّ
لزعيمها أن يوضّح رؤية حركته للتغيير الاجتماعي وموقفها من العنف السياسي الذي
تعتبر نفسها ضحيّة له. ورد هذا في حوار نشرته دوريّة "المستقبل" في 23
/3/1981 أهمّ ما ورد فيه أنّ حركته تعتمد مرحلتين في رؤيتها التغييرية هما: بناء
المجتمع المسلم وإصلاحه من خلال "البلاغ المبين والصبر الجميل" بأسلوب
سلمي حتى إذا تحقّق هذا الإصلاح وذلك بـ"تحقق المجتمع المسلم الذي يرضى بتحكيم
الإسلام"، كانت المرحلة الثانية وهي قيام "الدولة التي تحكّم شرع الله
وتمارس مهامّها في نشر العدل والمساواة".
وقبل مواصلة بسط رؤية الغنّوشي هذه في
علاقتها بالعنف قيمة وممارسة، يمكن أن تتجلّى لنا هذه "الشخصية
المتديّنة" التي تتمثّل الدين في السلوك السياسي وهو مرتكز الشبهة التي تلاحق
ظاهرة الإسلام السياسي القائلة بـ"خلط الدّين بالسياسة واستخدامه للوصول إلى
الحكم". وقد قامت هذه الشبهة من جهتين: من جهة السعي إلى تطبيق تشريع متخلّف
عن العصر ومن جهة وسائل الوصول إلى ذلك ولعلّ "أحرجها" هو اعتبار
الجهاد ركنا ركينا من ذاك السّعي. وبالاستتباع فإنّ استخدام العنف هو أحد هذه
الوسائل.
ولسنا في معرض مجادلة لنقول إنّ كلّ
الأيديولوجيات الشموليّة تعتبر العنف "مشروعا" بشكل أو بآخر غير أنّ ما
صدر أو ما نُسب لحركة النّهضة ـ الاتجاه الإسلامي سابقا ـ من ممارسات عنيفة تحتاج
توقّفا ونظرا وتقييما.
تفجيرات سوسة والمنستير (2 آب / أغسطس 1986)
هي أوّل الحوادث العنيفة المنسوبة لحركة
النهضة وعليها ترتّب استهدافها وملاحقتها أمنيا بعد فترة هدنة في عهد الوزير محمّد
مزالي. وصورة الحادث هي وضع عبوّات متفجّرة في أربعة نزل بمحافظتي سوسة والمنستير
الواقعتين على الساحل الشرقي أدّت إلى قتل ثلاثة عشر سائحا أجنبيا. وقد اتّجهت
أصابع الاتّهام مباشرة إلى حركة النّهضة ونزلت بحقّ المنسوب إليهم العمليّة أحكام بالسجن (حمادي الجبالي: 16 سنة والهادي غالي: 15 سنة) وبالإعدام (بولبابة دخيل
ومحرز بودقة وفتحي معتوق ومحمد الشملي وعبد المجيد الميلي) وقد وقع تنفيذه في حقّ
اثنين منهم فيما فرّ البقية. وحسب تصريح لحمّادي الجبالي فقد اعترف فقط بتهريب أحد
المتّهمين وهو فتحي معتوق وأنكر صلة الحركة بالعمليّة. وقد اتهم في السياق نفسه "عمر
الشاذلي" ـ طبيب بورقيبة ـ بن عليّ بتدبير العمليّة لغاية توريط حركة النّهضة
واتّخاذها ذريعة للتخلّص منها بإلصاق تهمة "الإرهاب" بها.
وممّا يثير الانتباه ويسمح برؤية أكثر
شمولية لما حدث هو أنّه في فترة تصاعد العمليات الإرهابية سنة 2015 يقع
"استنساخ" نفس العمليّة في نفس الأمكنة وتتجه من جديد أصابع الاتهام
لنفس الطّرف. وبقطع النّظر عن علاقته بالعمليتين وهي تبدو واهية، فإنّ "عقل
الدولة" هو نفسه الذي يدير البلد ويكرّر نفسه دائما. فكلّما أراد ضرب ذاك
الطرف تدبّر عملية إرهابيّة.
الانقلابيون المفوّتون (المجموعة الأمنية
1987)
يبدو أنّ حركة النّهضة مثلما كان شأن أختها
الكبرى "الإخوان المسلمون" وفي ظلّ التهديد بالتّصفية الواقع عليها منذ
ظهورها قد فكّرت في "جهاز" أمني يخترق النّظام ويكون مصدرا للمعلومة
الاستخباراتية التي تساعدها في تحرّكها واتخاذ القرار.
وبلا شكّ كانت عمليّة
الاختراق هذه تتمّ بسريّة مطلقة وتتهيّأ للحظة الصفر فيما إذا وقع تهديد الحركة
بالتصفية. هذا الجهاز تسرّب إلى كلّ الأسلاك الأمنيّة تقريبا بل إلى أقرب جهاز
للرئيس بورقيبة وهو الأمن الرئاسي. وقد تأكّد أنّ محمّد بن سالم ـ دكتور الرياضيات
ـ كان هو نقطة الوصل بين هذا الجهاز وقيادة الحركة.
لئن كانت حركة النهضة "ضحيّة" لعنف الدولة فإنّ هذا لا يعفيها من سوء إدارة الصراع مع السلطة في خصوص التحكّم في منسوب العنف الموجّه إليها ـ نقصد السلطة ـ . ولئن كانت أدبياتها وخصوصا ما يكتبه رئيسها ومؤسسها تؤكّد على السلمية وتعلن قبولها بالصراع الديمقراطي فإنّه ما لم تقرأ له حسابا هو الانفلات والعشوائية واضطرارها دائما للتبرّؤ من بعض أفرادها وتحمّل جريرتهم بعد ذلك.
ولمّا بلغت الأزمة بين حركة النّهضة والرئيس
بورقيبة أوجها خاصّة بعد إصدار أحكام الإعدام على قيادات الصفّ الأوّل من الحركة
في محاكمات خريف 1987 بعد أن أمر بورقيبة وزيره المقرّب محمّد الصياح بإعادة
محاكمتهم ليشمل الإعدام ثلاثين من القيادة و"طمع" هذا الأخير في التخلّص
من الوزير الأوّل بن عليّ والنّهضة معا، كان على ذاك الجهاز أن يتحرّك لـ "إنقاذ"
البلاد من الهستيريا البورقيبية.
يقول محمّد بن سالم في رسالة أرسلها إلى
الدكتور أحمد المنّاعي، رئيس "المعهد التونسي للعلاقات الدوليّة" وظهرت
في كتابه "سنوات الجمر: شهادات حية
من الاضطهاد الفكري واستهداف الإسلام في تونس": "بعد صدور حكم محكمة
أمن الدولة وبعد الممارسات الوحشية للبوليس وصدور آلاف الأحكام الأخرى من المحاكم
الجهوية وكانت كلها مجحفة ولا تستند إلى أيّ قانون أو أخلاق قضائية علمنا أنّ
بورقيبة استدعى وزيره الصيّاح وطلب منه تحضير محاكمة أخرى يتمّ بموجبها حصد 30
رأسا من كبار الإسلاميين. عندها جاءت فكرة التصدي بالقوة للجنون البورقيبي
وزبانيته فكانت المجموعة الأمنية التي سميناها مجموعة الإنقاذ الوطني". ويضيف
في موضع آخر: "وضعت المجموعة لنفسها هدفا واحدا هو إزاحة بورقيبة ومن سار في
دربه عن الحكم أمّا وسائلها فهي سلميّة إلى أبعد حدّ ممكن". وحسب بعض من
اتصلت بهم من المجموعة كان الاتّفاق الحاصل تقريبا أنّه كان يُراد استنساخ سيناريو
انقلاب المشير "عبد الرحمان سوار الذّهب" بالسودان (1985) وتسليم السلطة
للمدنيين.
كان ساعتها "بن علي" يعلم الساعة
الصفر فانقضّ على الفرصة وسبق المجموعة بيوم واحد ليُعلن صباح السابع من نوفمبر
1987 عن إزاحة بورقيبة وتولّي الرئاسة ليفتك بعد ذلك بـ"مجموعة الإنقاذ الوطني".
ملاحظتان تستحقّان التوقّف أمام هذا الحدث
متّصلتان بقضيّة شبهة ممارسة العنف وهما: حرص هذه المجموعة على "سلميّة"
الانقلاب وهذا أمر غير مضمون في مثل هذه الحالات خاصّة إذا نظرنا إلى موجة
الانقلابات السابقة في عموم البلاد العربية. وثانيا هو هذا النوع من
"السذاجة" في تعامل الإسلاميين مع جهاز الدّولة مما أوقعهم في نفس
المحاذير المرّة بعد المرّة. ولن يكون آخرها ما كان من أمر تجربتهم مع
"الباجي قايد السبسي".
حادثة باب سويقة (17 فبراير / شباط 1991)
فيما عُرف بـ "تحرير المبادرة" ـ
وهي قريبة الفكرة من "الذئاب المنفردة" ـ كانت عمليّة "باب
سويقة". وصورة الحادث هجوم قام به شباب من حركة النّهضة فجرا على مقرّ الحزب
الحاكم بمنطقة باب سويقة الواقع قريبا من مقرّ الحكومة بالقصبة، وقد خلّف قتيلا
ومعوّقا وخمسة أحكام بالإعدام شنقا تمّ تنفيذ ثلاثة منها. رواية النّهضة غير
الرسمية تقول إنّ الغاية كانت فقط الاستيلاء على تقارير استخباراتية حول حركتهم
ولكنّ تماسا كهربائيا قد أدّى إلى حريق المقرّ. رواية "عقل الدولة" تقول
إنّها محاولة لإثارة الفوضى بغاية قلب نظام الحكم.
كانت هذه الحادثة بالذّات "فرصة"
النّظام الجديد آنذاك بقيادة بن عليّ لضرب حركة النّهضة الضربة الموجعة فكانت
حصيلتها 25 ألف سجين سياسي إسلامي و5 آلاف مهجّر و125 ألفا آخرين بين مشرّد ومحروم
من العمل. هذا فضلا عن استقالات من الحركة لعلّ أهمّها استقالة عبد الفتّاح مورو
أحد المؤسّسين الأُول للحركة.
ولأنّ
السياسة لا تُقاد بـ "النوايا
الحسنة" فإنّ الدولة العميقة التي أزاحت بورقيبة هي التي أزاحت حركة النّهضة
من المشهد السياسي آنذاك مهما كانت الذريعة التي تركبها. ونعتقد أنّها لا تزال
فاعلة حتّى يومنا هذا.
بعد هذا الاستعراض لأهمّ حوادث العنف
المنسوبة لحركة النهضة وقد اقتصرنا على فترة المحنة وهو ما جنّبنا حوادث
الاغتيالات السياسية في عهد حكمها بعد الثورة نظرا لتعقّد هذه المسألة، يمكن أن
نتوقّف عند ثلاث ملاحظات مهمّة في اعتقادي:
ـ لئن كانت حركة النهضة "ضحيّة"
لعنف الدولة فإنّ هذا لا يعفيها من سوء إدارة الصراع مع السلطة في خصوص التحكّم في
منسوب العنف الموجّه إليها ـ نقصد السلطة ـ . ولئن كانت أدبياتها وخصوصا ما يكتبه
رئيسها ومؤسسها تؤكّد على السلمية وتعلن قبولها بالصراع الديمقراطي فإنّه ما لم
تقرأ له حسابا هو الانفلات والعشوائية واضطرارها دائما للتبرّؤ من بعض أفرادها
وتحمّل جريرتهم بعد ذلك.
ـ هواجس الحفاظ على جسم الحركة بدا ثابتا من
صميم العقل النهضاوي ولهذا كانت إحدى ثوابته هي فتح قنوات حوار مع السلطة أكثر
بكثير من محاولة قلبها أو محاربتها. وما يفسد هذه الإستراتيجيا هو حوادث العنف
التي تعيدها دائما إلى مربّع الملاحقة.
ـ سيظلّ هناك سؤال يحتاج مقاربة أعمق ربما
يلقي الضوء على خصوصية تجربة الحركة الإسلامية بتونس وهو: لماذا لم تنتج هذه
الحركة مثلما حدث في مصر والجزائر مثلا مجموعات تتبنّى العنف المسلّح لمواجهة عنف
الدولة بنفس أدواتها؟