الكتاب: "تنوير المقدّس.. مقاربات في كلام الله"
الكاتب: د. الأسعد العيّاري
الناشر: الأمينة للنشر و التوزيع تونس، الطبعة الأولى ـ مارس 2022.
(207 صفحات من القطع الكبير)
مثل النص الديني مجالا خصبا للإبداع الفكري على مدار العصور، حيث لم
يخل عصر من العصور من اجتهادات فكرية وفلسفية تحوم في مجملها حول النص الديني،
وعلاقة المقدس منه بالدنيوي.
ولعله من اللافت للانتباه أن تشهد تونس حركة فكرية متراكمة جعلت من
النص الديني مدارا لها، وربما كان من اللافت أيضا أن جزءا من هذه الحركة الفكرية
ذهب بعيدا ليس في فهم النص الديني وتشريحه فحسب، فتلك كانت واحدة من أهم المعالم
الفكرية التي تأسست لها جامعة الزيتونة، التي كانت واحدة من أهم منارات العالم
الإسلامي في مجال التنوير، وإنما أيضا في محاولة المقارنة بين التراث والحداثة أو
قل بين الغيبي والمادي العيني..
الكاتب والإعلامي التونسي توفيق المديني، يقدم نموذجا عينيا لهذا
السجال الدائر في تونس حول النص الديني وعلاقته بالإنسان وبالحداثة.. من خلال
قراءته لكتاب "تنوير المقدّس.. مقاربات في كلام الله"، للكاتب والباحث
التونسي الأسعد العياري وهو متخصص في الدراسات المقارنة في الحضارة وعلم الأديان،
ثم في إجراء مقارنة بينه وبين الكاتب التونسي يوسف الصديق، وكلاهما له اجتهادات
مختلفة في قراءة النص الديني..
وهذا هو الجزء الثالث من هذه القراءة:
في الفصل الثاني من الكتاب الأسعد العياري ينتقل الكاتب إلى التطرق
للعلاقة بين الدين و الدولة، لا سيما أنَّ الدولة شكلت عبر التاريخ مجال سجال وبحث بين رجال السياسة ورجال الدين،
كل تناولها بطريقته وأسلوبه ومنطقاته الفكرية وأهدافه ومقاصدهزوبذلك يعتبر الحديث
عن سجال الدولة والدين من القضايا القديمة الجديدة المبتكرة في طبيعتها وأسسها وفي
جوانبها المنهجية والمعرفية لتأسيس وعي فكري لممارسة سياسية تنطلق من قاعدة شرعية
وتستجيب للتحديات والإصلاح في عالمنا المعاصر، وإن التماهي بين الديني والسياسي
ليس طرحاً حديثاً ولا فعلاً معاصراً بقدر ما هو جدال ضارب في عمق التاريخ البشري
الإسلامي وغير الإسلامي، وما تتضمنه هذه الثنائية من صراعات سياسية واجتماعية
وفكرية أسهمت في تعقيدها المباحث الفكرية والفلسفية في العصر الحديث، مثلما سعت
الحركات الإسلامية السياسية إلى مزيد تعقيد هذه المقاربات عندما أضفت قدسية على
الخلاف السياسي من خلال إدراج الاختلاف في الرؤى والمشروعات السياسية (خلافاً
دينياً عقائدياً لا مكان فيه للفكر المغاير ولا رأي فيه إلا لأولئك الموقعين عن رب
العالمين)، فإلى أي حد يعد سجال الدولة والدين حراكاً سياسياً مشروعاً؟ وهل يمكن
للدين أن يكون قوة دافعة للفعل السياسي أم هو انقلاب تاريخي عن الذهنية العربية
الإسلامية وانتصار لمبادئ العلمانية السياسية التي مثّلت خلاص الشعوب المسيحية في
الغرب؟
في هذا المحور قسم الكاتب دراسته إلى قسمين:
القسم الأول وعنوانه: الإيديولوجيا ولعبة تسييس المقدس وفيه عرض
الكاتب في مرحلة أولى مقاربة لمفهوم الدولة في سياقها التاريخي، والحضاري وما
أنتجه من أزمات في الفكر السياسي، وفي مرحلة ثانية حاول الوقوف عند مفهوم الدولة
الدينية وإذا يتنازعها من ملوكية إلهية ومن حكم إنساني، أما المحور الثاني
وعنوانه: المقدس بين محنة النص وأسئلة الواقع، وفيه اهتم الكاتب أولاً بإشكاليات الأنظمة السياسية
للدولة المدنية في إطار قصور الفكر البشري عن الوعي الكامل بجدلية التاريخ، القائم
على جدل النص والواقع، ثم نهتم ثانياً بسواقي اللاهوت والسياسة من خلال البحث في
علاقة الظاهرة الدينية عامة برهانات الشعوب المعاصرة وتحدياتها في مجال التنمية
والتطور والتقدم الاقتصادي والسياسي والثقافي.
في الأيديولوجيا ولعبة تسييس المقدس: يقول الكاتب: "قامت الدولة
التيوقراطية أو الإلهية بمقتضى الواجب، ونهضت على أساس وحدة الشعب الذي فوّض حقّه
في مخاطبة الله إلى النبي في مرحلة أولى، فالصحابة أو الحواريين في مرحلة ثانية،
ثم إلى الكهنة والباباوات أو الحاخامات الذين كان دورهم مزدوجاً بين السياسة والدين،
والمشكلة المعضلة التي يواجهها الشعب المستجد في هذه المرحلة الانتقالية تمثلت في
وجود المحطة الأولى لإنشاء مشروع الدولة على مساحة ثقافية وسياسية ضيقة لذا وجب أن
يظهر المخلص من بينهم، إنه البطل القومي الكارزماتي الذي يفعل في التاريخ ويحوّره
ويحوّله لأنه بات من المحتم بعد إعلاء الدين على بقية الأفكار المناهضة له أن يكون
لهذا الجمهور العريض أبطاله.
إن من الشروط الجوهرية لعملية التحديث المتعلقة بالفكر الإنساني عامة أن لا تخضع لتكرار النموذج والمثال، وأن لا تكون محمولة على التقليد أو الاستجابة لأنظمة ثابتة ومستقرة في الزمن الماضي، وإنما هي محمولة على القطع مع الماضي ومع ثقافة تمجيد الموروث، وذلك عبر فعل استحضار هذا الموروث في موضع التساؤل والنقد وإعادة ترتيب مكوناته ومرتكزاته بما يتلاءم مع مكتسبات العصر الفكرية والمعرفية.
لقد شاء إله المسلمين ونبي الإسلام أن يكون الإسلام ديناً، وشاء
المسلمون غير ذلك، حيث أرادوا أن يكون سياسة، ليفهم الدين انطلاقاً من جملة
الوظائف العملية التي وضع فيها، أو التي يؤديها داخل المجتمع، ولم يكن المسلمون
ليستحضروا المؤسسة السياسية والدينية إلا بغية بناء الخطاب التمجيدي على أسس شرعية
بحتة، وكان الدعاة واعين تماماً بأن خطاباتهم التي تلوّنت تحت أضواء الإصلاح
والهداية لم تكن في حقيقة الأمر سوى غطاء يخفي تطلعاتهم السياسية ونظرتهم
التقييمية لمجتمع عصرهم، وقد خانهم التاريخ وخذلتهم الإرادة وأصابهم الوهن والإحباط،
وكان الحلّ الأمثل الذي ارتآه البعض من دعاة الدولة الدينية هو إعادة المنظومة
الثقافية والفكرية إلى صعيد الحياة المعاصرة، فسمحوا لأنفسهم بأن يتعدوا حدود
الزمن ويستحضروا لحظة الماضي أملاً في مقاربة علمية بين الزمنين، زمن للنبوة
الخالصة سمّي بمصر النقاء والشفافية وزمن يرزخ تحت وطأته المسلم اليوم، وهو زمن
الانحطاط والانكسار والضعف، فكان الشوق إلى معانقة الماضي واستحضار مظاهر قوة
الدولة التيوقراطية أو الخلافة لا مجرّد عملية نقلية تصويرية غرضها يقتصر على
استعادة التاريخ أو استجلاء معالم الإيمان من السلف الصالح أو مجرد الوقوف على
أعلام السيرة وتتبع آثار النبي والصحابة والتابعين وأتباع التابعين، ولكن الحقيقة
تختفي لتظهر في ظلّ المؤسسة السياسية، وليتضح بناء الفكر الإصلاحي والثوري لدى
المنادين بالخلافة أو بحكم ديني، فالغاية الحقيقية لا تقتصر على الهداية والإصلاح
والإيمان فحسب وإنما نفذت إلى أعماق روحانية المسلم وبواطنه الداخلية لتستشف قدرة
الفكر الديني على تقبل فكرة الإيمان بإمكانية قيام دولة إسلامية مشابهة لما كانت
عليه زمن الرسول وأيام الخلافة الراشدة، وأنصار هذا الرأي لا يخفون في منهجهم مبدأ
المقارنة ومقارعة الحجج، بل يعمدون إلى تقريب الفواصل الزمنية من بعضها البعض
وإحياء الموروث قصد إعادة صياغته وهيكلته في رؤية حديثة قادرة على تشرب مشاغل
العصر وحملها في طيات خطاب ديني سياسي، حيث يتخذ الفكر الديني منحى آخر، القصد منه
دفع عجلة التقدم واتخاذ موقف محدد من التراث لتبنيه مشروعاً إصلاحياً سياسياً يقطع
مع الوافد من الثقافة الغربية، وما ينبغ منها فكراً وسياسة(ص 106-107).
1 ـ
مفهوم الدولة بين الملوكية الإلهية والحكم الإنساني
ويرى الكاتب أنَّ الدارس المتمعن في المرحلة الزمنية التي مكث فيها
الرسول محمد في المدينة يلحظ قدرته على التحول من نبي يبشر بدعوة التوحيد وينشر
الرسالة الإسلامية ويقود الحروب والغزوات ضد الكفار والمشركين بدعوته إلى رئيس
لأحزاب مختلفة وغير متجانسة ولا متكافئة في النوع والعدد من الأوس والخزرج إلى
القرشيين إلى غيرهم من القبائل العربية التي كانت متناثرة في أرجاء الجزيرة
العربية، حيث كانت تدين بالحنفية الإبراهيمية، فاستطاع الرسول جمع هذا الشتات
المتناثر ولم شملهم ووحدهم برابطة الإيمان، فتحول المسجد الذي بناه بأرض يثرب من مجمع
ديني لأداء الصلاة وذكر اسم الله فيه إلى مركز سياسي تعقد فيه مجالس الشورى وفيه
تشرع الأحكام المنظمة لحياة المسلمين والمرتبة لأحوال المجتمع، وتعمل المؤسسة
الدينية على تقنين المعاملات وتقعيد العبادات لتبرز الصحيفة التي كتبها الرسول
محمد قبل أن ينصرم العام الأول من الهجرة والتي تجاهل فيها مفهوم القبيلة واستعاض
عنه بمفهوم مركزي جديد هو مفهوم الدولة الأمة، واستبدل مبدأ الأخذ بالثأر بقانون
القصاص الذي حرّم على المؤمن قتل المؤمن في كافر ولو كان أخاه، (وأصبحت المسألة في
هذه الحالة مجرد إجازة بقتل أعداء الدولة على النحو المعروف في الحروب والكافر
المقتول يصبح في هذه الحالة من ضحايا الحرب لا يجوز الثأر لدمه).
يقول الكاتب: "ولأن أسئلة التاريخ تُميت ولا تموت، عملت المؤسسة
الدينية زمن النبوة منهجاً سياسياً في التعامل مع الأعداء وكتابة مواثيق وعهود
تسترضي يهود المدينة وتمنحهم حرية الاعتقاد وحرية إقامة الشعائر والطقوس وإحياء
الأعياد الدينية وكذلك أيضاً تمنحهم حق المساواة مع المسلم في التمتع بنفس الحقوق،
فهم جزء من الدولة التي ما كانت لتستقيم دونهم، كما الشأن بالنسبة إلى نبي الله
موسى في الديانة اليهودية عندما أسس مؤسسة دينية تعمل على إخضاع بني إسرائيل ودفعه
إلى إقامة دولة محكومة بالعنف بداخلها ومحملة بتشريعات عقيدة الحرب التي سوف ترشح
بشكل أعمق مع (يشوع) المترئس للمؤسسة الكهنوتية والجامع للنفوذ الاقتصادي والسياسي
مفرداً الإله (يهوه)، حاصرا السلطة المركزية والإرادة الدينية في صورة هذا الإله
المسير لمصالح هذا على بصيرة وعقل في اعتقاده) والواضح أن ظاهرة النظر في مراجعة
التراث الديني بسبب من التحولات العنيف والهادئة التي يشهدها الفكر عبر التاريخ،
لا تقتصر فحسب على الموروث الإسلامي وإنما نجد هذه الصيحة في الديانة اليهودي، حيث
يصف المفكر أرنولد توينبي التراث الديني والحضاري لليهود بأنه متحجر نظراً
لاعتقادهم الزائف بأنهم شعب الله المختار، فتحولت بذلك هذه العقيدة الدينية من
شريعة كونية عالمية إلى فكرة معزولة قابعة في وعي فردي محكومة بصيغة الذاتية،
الأمر الذي جعلهم عرضة لاضطهاد العالم ونقمته المتواصلة عليهم"(ص 110).
إن من الشروط الجوهرية لعملية التحديث المتعلقة بالفكر الإنساني عامة
أن لا تخضع لتكرار النموذج والمثال، وأن لا تكون محمولة على التقليد أو الاستجابة
لأنظمة ثابتة ومستقرة في الزمن الماضي، وإنما هي محمولة على القطع مع الماضي ومع
ثقافة تمجيد الموروث، وذلك عبر فعل استحضار هذا الموروث في موضع التساؤل والنقد
وإعادة ترتيب مكوناته ومرتكزاته بما يتلاءم مع مكتسبات العصر الفكرية والمعرفية.
اقرأ أيضا: كيف تفاعلت الحداثة مع المقدس الإسلامي؟ قراءة في كتاب
اقرأ أيضا: من محورية الله إلى مركزية الإنسان.. كتاب في قراءة الفكر الديني