دفعت عملية "طوفان الأقصى" وما تبعتها من جرائم دموية ترتكبها الآلة العسكرية للاحتلال الإسرائيلي بحق الفلسطينيين في
غزة، سياسيين ومثقفين عرب لمراجعة مواقفهم ومواقف أحزابهم السابقة من دعم التطبيع مع الكيان المحتل.
حرب الإبادة الدموية الجارية منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي والمستمرة لنحو شهر ونصف، دفعت سياسيين
مصريين ومغربيين لتقديم الاعتذار عن مشاركاتهم السابقة وأحزابهم في عمليات التطبيع، الأمر الذي يدعو للتساؤل حول دور "طوفان الأقصى" وجرائم إسرائيل في تغيير قناعات سابقة لدى السياسيين والمثقفين المطبعين العرب.
"تأخر 50 عاما"
فوجئ المصريون، الأحد بمقال تحت عنوان "اعتذار"، بصحيفة "الأهرام" اليومية الحكومية القاهرية، للسياسي المصري الدكتور أسامة الغزالي حرب -وهو أحد أكبر رموز التطبيع ودعاته في مصر كما يصفه البعض- يقدم اعتذاره لفلسطين والأمة العربية عن دعمه للتطبيع.
وكتب حرب: "هذا اعتذار أعلنه –أنا أسامة الغزالي حرب- كاتب هذه الكلمات، عن موقفي الذي اتخذته، كواحد من مثقفي مصر والعالم العربي، إزاء الصراع العربي الإسرائيلي، بعد نصف قرن من المعايشة ومئات الدراسات والأبحاث العلمية والمقالات الصحفية، والمقابلات الصحفية، والزيارات الميدانية".
وذكًر السياسي المصري بجرائم إسرائيل التي عايشها في حروب "1956" و"1967" و"1973"، وباتفاقيات السلام المصرية والفلسطينية والأردنية مع إسرائيل، مشيرا لدعمه تلك الاتفاقيات وتحمله انتقادات معارضي "التطبيع"، مبينا أنه كان متفائلا بتحقيق السلام للفلسطينيين.
لكنه قال: "إنني اليوم- وقد تابعت بغضب وسخط وألم- ما حدث ولايزال يحدث من جرائم وفظائع في
غزة يندى لها جبين الإنسانية، تقتل فيها آلاف الأطفال والنساء، وتدمر فيها المنازل والمباني على رءوس البشر، وتصطف فيها جثث الأبرياء لا تجد من يدفنها .....، أقول إني أعتذر عن حسن ظني بالإسرائيليين، الذين كشفوا عن روح عنصرية إجرامية بغيضة".
وختم قوله بـ: "أعتذر لشهداء غزة، ولكل طفل وامرأة ورجل فلسطيني".
"تحول مفاجئ"
لعب حرب طيلة السنوات الماضية دورا هاما في الدعاية الإعلامية والترويج الثقافي للتطبيع في مصر مع الكيان الإسرائيلي، حيث أنه زار تل أبيب عام 1999، وهو الأمر الذي قابله بحملات شيطنة وتشويه للمقاومة الفلسطينية، حتى وقت قريب.
وفي 23 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، زعم حرب، في حوار مع الاعلامي عمرو أديب، عبر "إم بي سي مصر"، أن إسرائيل هي من خلقت حماس ودعمتها، إلى أن تحولت وانقلبت على إسرائيل، فيما ادعى أن "طوفان الأقصى" سبب العدوان الإسرائيلي على غزة.
وفي كانون الثاني/ يناير 2018، دافع عن حق مدير مركز ابن خلدون، الدكتور سعد الدين إبراهيم، في زيارة إسرائيل، فيما أعلن في آذار/ مارس 2018، لصحيفة "الأخبار" الحكومية رفضه الحجر على حق أي مصري في زيارة إسرائيل.
بل إن حرب، وفي 28 تشرين الثاني/ نوفمبر 2015، دافع عن زيارة بابا الإسكندرية البابا تواضروس الثاني لإسرائيل في ذلك الحين.
ضغوط على المغرب للتطبيع
وفي المغرب، وفي يوم الأحد أيضا، قال رئيس الوزراء المغربي الأسبق، الأمين العام لحزب "العدالة والتنمية" المغربي، عبد الإله بنكيران، إن حزبه أخطأ بتوقيعه اتفاق التطبيع مع إسرائيل.
وفي مهرجان خطابي لدعم فلسطين بمسرح محمد الخامس بالعاصمة المغربية الرباط، قال: "ارتكبنا خطأ التوقيع على التطبيع ولكن لا يعني أننا مع التطبيع ولا يمكن أن نكون مع التطبيع"، مضيفا أن "الدولة لها إكراهاتها ونساند بلدنا"، في إشارة إلى وجود ضغوط أدت لتوقيع اتفاق التطبيع.
وفي 12 تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري، دعا حزب العدالة والتنمية، برئاسة بنكيران، إلى "قطع جميع علاقات الاتصال والتواصل والتطبيع مع الكيان الصهيوني الغاصب، وإغلاق ما سمي بمكتب الاتصال الإسرائيلي بالرباط، وطرد جميع ممثليه بشكل رسمي".
تطبيع عربي
وخلال الأعوام الثلاثة الأخيرة تصاعدت بشكل مخيف خطوات التطبيع العربي الرسمي والشعبي والاقتصادي مع الكيان الإسرائيلي المحتل، والذي بدأته الإمارات، ثم البحرين، والسودان، والمغرب.
لتنضم الدول العربية الأربعة إلى مصر والأردن اللتين عقدتا وبرعاية أمريكية اتفاقيتي تطبيع مع إسرائيل مقابل الاعتراف بالكيان المحتل عامي 1978 و1994، فيما عُرف باتفاقيتي "كامب ديفيد"، و"وادي عربة".
وفي 15 أيلول/ سبتمبر 2020، عقدت الإمارات والبحرين برعاية الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، اتفاقيتي تطبيع وعلاقات دبلوماسية كاملة مع إسرائيل، لتلحق بهما السودان في 23 تشرين الأول/ أكتوبر 2020، والمغرب في 10 كانون الأول/ ديسمبر 2020.
وهي الاتفاقيات التي تبعها موجة من الاتفاقيات التجارية والاقتصادية والأمنية وحتى الدينية والثقافية، مع ظهور مثير لبعض الوجوه العربية المدافعة عن التطبيع مع الكيان الإسرائيلي، ما اعتبره مراقبون حينها خسارة كبيرة للقضية العربية الأولى وهي فلسطين.
تحولات الطوفان
ولكن، يرى متحدثون لـ"عربي21"، أن الشارع العربي يشهد تحولا مثيرا نحو رفض التطبيع منذ انطلاق عملية "طوفان الأقصى"، التي قادتها حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، 7 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، والتي كشفت عن ضعف الكيان الإسرائيلي، بكل ما يملك من آلة عسكرية وأمنية ومخابراتية أمام سلاح بدائي للمقاومة، وفق مراقبين.
وأكد المتحدثون والمراقبون أن جرائم إسرائيل الدموية وعمليات القصف اليومي والتي وصفتها منظمات حقوقية ودول وشعوب بالإبادة الجماعية بحق أهالي غزة مثلت نقطة تحول كبيرة في مواقف بعض المؤيدين للتطبيع مع الكيان المحتل.
والأحد، أعلن المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، ارتفاع حصيلة شهداء الحرب الإسرائيلية على غزة إلى أكثر من 13 ألفا، بينهم أكثر من 5500 طفل، و3500 امرأة، وأكثر من 6 آلاف مفقود، خلال أكثر من 1330 مجزرة ارتكبها الجيش الإسرائيلي.
هل يكفي الاعتذار
وعن دور "طوفان الأقصى"، وما ترتكبه إسرائيل من جرائم دموية وعمليات إبادة جماعية في غزة في وقف طوفان التطبيع العربي، قال المحامي والسياسي المصري عاطف عواد، إن "طوفان الأقصي كانت ولازالت الحرب الكاشفة لمن ينحاز للإنسانية، وحقوق الإنسان، ومن ينحاز للقتلة ومجرمي الحرب".
البرلماني السابق، أضاف في حديثه لـ"عربي21": "صحيح أن ما يقوم به الكيان المحتل من جرائم ليس بجديد، ولكن ضرب المشافي، وقتل المدنيين ومعظمهم من الأطفال والنساء والجرحى، في الوقت الذي لم يحقق الكيان ثمة نصر عسكري قد أخجل المطبعين".
وفي رؤيته لما قاله المعتذرون عن التطبيع، وهل يعد ندما عن جرمهم السابق، أم غسل لأياديهم من جرائم إسرائيل، أم محاولة لتحسين صورتهم الملوثة بدم الفلسطينيين، لفت عواد، إلى أن خجل المطبعين هذا جاء "بعد تحول الرأي العام الغربي والهجوم الذي شنه بعض السياسين الغربيين دعما لفلسطين".
ويرى أنه ووفقا لهذا التغير "سارع البعض من المطبعين العرب لغسل أياديهم من تلك الجرائم البشعة، والتي تستأهل محاكمة مرتكبيها ومؤيديها أمام المحكمة الجنائية الدولية، ولو أفلت المطبعون من المحاكمة الدولية فلن يفلتوا من المحاسبة القانونية والشعبية".
وفي إجابته عن السؤال: هل يكفي اعتذار المعتذرون وهل يمنع عنهم المحاسبة القانونية يوما ما؟، قال السياسي المصري بنهاية حديثه: "كان التطبيع دائما قمة يصعب تسلقها في العالم العربي، والآن أصبح الأمر أكثر صعوبة وهو عار لا يمحوه مجرد اعتذار".
"غسل أياد"
وفي حديثه لـ"عربي21"، قال الناشط المصري المعارض، سعيد عباسي: "منذ أن زُرع الكيان الصهيوني في أرض فلسطين الحبيبة وجرائمه لم تتوقف؛ لكن هذه المرة وهذه الحرب البربرية الشرسة النازية لم يسبق لها مثيل".
وأضاف: "بل فاقت المجازر السابقة في الإجرام اللامتناهي؛ خاصة بعد الدعم اللامحدود من الإدارة الأمريكية، وحكومات الغرب، وصمت وخرس وتواطؤ الحكام العرب".
وأكد أن "الجرائم الإسرائيلية الحالية، وقتل الأطفال، وحرق الجثث، وجرائم الإبادة الجماعية التي ترتكبها الآلة العسكرية الإسرائيلية أجبرت بعض الدول على وقف التطبيع، ولو مؤقتا".
وأوضح أن ذلك الموقف من تلك الدول يأتي "لضمان عدم إثارة الشعوب ضدها في ظل الغضب العربي، وشعوب العالم الحر أيضا".
وأشار إلى أن "هذه الجرائم والفظائع التي ارتكبها ولازال
الاحتلال الصهيوني يرتكبها أجبر بعض السياسيين والكتاب المنادون بالتطبيع للتراجع والاعتذار ليتجنبوا الغضب الشعبي أيضا".
ويرى عباسي، أن "هؤلاء يجب محاسبتهم، ومحاسبة الحكومات المطبعة المتواطئة مع هذا الكيان المغتصب المحتل".
وأضاف: "وقد اقتربت بشكل كبير محاسبة قادة الحرب خصوصا بعد الغضب العالمي المتزايد من شعوب العالم الحر، والذي يطارد كل من يساند إسرائيل في هذه الحرب البربرية".
وعن موقف بعض الدول العربية وخاصة الإمارات من مساندة إسرائيل في الوقت الذي يغسل فيه كثيرون أيديهم من جرائم إسرائيل، أكد أن "موقف الامارات واضح للعيان، فهو موقف صهيوني بحت، لا أعتبره موقفا يمت للعروبة بصلة".
"صفعة للمطبعين"
وأثار اعتذار حرب، عاصفة من التفاؤل عبر مواقع التواصل الاجتماعي، حيث ثمن متابعون خطوته، واعتبروا اعتذاره: "عودة وعي وصحوة ضمير وشجاعة أدبية في مواجهة الذات والجماهير".
وقالوا إنها "صفعة سوف يبقى أثرها على وجه رموز التطبيع وأدواته في العالم العربي"، فيما قال البعض إنها "إحدى ثمرات عملية طوفان الأقصى".
وعبر موقع "إكس"، كتب السياسي المصري أيمن نور: "تتفق وتختلف معه -أحيانا- في السياسة الداخلية أو الخارجية لكنك لا تملك دوما إلا احترام صدقه مع نفسه وشجاعته في المراجعة".
وقالت الشاعرة الكويتية سعدية مفرح، عبر صفحتها بذات الموقع: "أن تأتي متأخرا خير من ألا تأتي أبدا، وبانتظار بقية المثقفين المؤيدين للتطبيع".
وفي مقال له الاثنين، بموقع المصري اليوم، بعنوان: "لعلهم يفقهون.. فيعتذرون"، ثمن الكاتب حمدي رزق، اعتذار حرب معتبرا أنه "تحول عميق"، داعيا المطبعين العرب لمراجعة مواقفهم والاعتذار عنها.
وقال: "ليت جماعة (المطبعون الجدد) ومن هم في طريق التطبيع السريع، ويرددون السردية الإسرائيلية غيبا، كالببغاء عقله في أذنيه، يقرأون كلمات أب من آباء التطبيع، ومفكريه، ويتعظون من خيبة أمل المطبعين الأوَّلين".
واعتبر زرق، أن "شخصية الغزالي وعقليته المرتبة، ومنهجه البحثي، وأفكاره الليبرالية تجعل من اعتذاره حدثا مهما يؤشر على تحول عميق في بنية الفكرة المؤسسة للنظرية التطبيعية العربية القائمة على إمكانية العيش المشترك... ".