مع تقدم قوات الاحتلال الإسرائيلي في شمال مدينة
غزة، تصاعدت التساؤلات عن مآلات الحرب العدوانية التي يشنها الاحتلال ضد القطاع، كما تصاعدت النقاشات حول معايير الانتصار والهزيمة في هذه الحرب، خصوصا في ظل الثمن الباهظ الذي يدفعه المدنيون جراء العدوان.
ثمة ميل للتحليل الرغائبي أو الأيدولوجي في مثل هذه الأحداث التي تعيشها غزة والمنطقة هذه الأيام، أكثر بكثير من التحليل الاستراتيجي والسياسي. فالكثيرون من مؤيدي المقاومة
الفلسطينية يريدون لها أن تنتصر انتصارا حاسما في المعركة، لدرجة التفكير بأن "طوفان الأقصى" سيمثل "الربع ساعة الأخيرة" قبل تحرير فلسطين كاملة. ومن جهة أخرى، فإن خصوم حركات بل فكرة المقاومة ذاتها، رأوا في وصول دبابات جيش الاحتلال إلى مدينة غزة دليلا على انتصار فكرتهم، بعدم إمكانية مقاومة الاحتلال، واعتبار المقاومة عبثية وانتحارية في آن واحد.
لكن التحليل الاستراتيجي الهادئ لا يتفق مع كلا النظرتين الاختزاليتين، ويحاول الوصول إلى نتائج لا تعتمد على الرغبات المسبقة.
معركتان وليس معركة واحدة
إن التحليل العلمي للمعركة الدائرة في غزة يتطلب في البداية وضع الأحداث في سياقها. والسياق الأساسي هنا هو أن "طوفان الأقصى" هي ليست "حرب التحرير" النهائية لفلسطين، بل هي معركة في إطار صراع طويل مع الاحتلال. وإذا استعرنا لغة لعبة "الملاكمة"، فإن هذا الصراع لا ينتهي فقط "بالضربة القاضية"، بل هو أساسا صراع تحكمه "النقاط" المتراكمة، كما هو الحال مع كل حركات التحرر الوطني.
والحال هذه، فيجب أن ينظر للجولة التي بدأت في 7 أكتوبر الماضي على أنها "معركتان" وليس "معركة واحدة". انتهت المعركة الأولى يوم السابع أو الثامن من أكتوبر، فيما تستمر المعركة الثانية منذ انتهاء الأولى حتى الآن.
وسنناقش تاليا معايير النصر والهزيمة في المعركتين:
ماذا حققت معركة 7 أكتوبر؟
يمكن تلخيص ما حققته معركة 7 أكتوبر للفلسطينيين في الانتصارات الاستراتيجية التالية:
أولا: هدمت المعركة أسطورة الجيش الذي لا يهزم من جهة، ولكن الأهم أنها هزمت أسطورة القدرات الاستخبارية "لا نهائية القوة" لدى الاحتلال. فشل الاحتلال في كشف توقيت المعركة، وفشل في صدها في آن واحد.
ثانيا: انهيار معادلة الأمن والردع التي فرضها الاحتلال، وهو انهيار سيؤثر لسنوات طويلة على صورة الدولة لدى مواطنيها. صحيح أن من المتوقع فرض حالة ردع جديدة وربما طويلة بعد انتهاء الحرب، ولكنها ستكون مؤقتة، حتى وفق خبراء استخباريين أمريكيين.
ثالثا: نقلت المعركة، لأول مرة منذ عام 1948، القتال إلى داخل فلسطين التاريخية التي احتلت عند تأسيس دولة الاحتلال، بينما كانت كل الحروب تدور في مناطق فلسطينية احتلت عام 1967 أو في أراض عربية. هذا يعني أنها المرة الأولى التي تكون فيها حرب المقاومة هجومية أكثر منها دفاعية.
رابعا: أعادت المعركة الصراع إلى جذوره الأصلية، فهو صراع بين احتلال غاشم وبين شعب يعاني من ظلمه وبطشه، بعد أن تقزمت القضية الفلسطينية في أغلب الوقت منذ توقيع اتفاق أوسلو لتتركز على قضايا هامشية، مثل الاقتصاد والحصار وغيرها.
خامسا: أعادت المعركة قضية فلسطين لتصبح أهم قضية في العالم. وبدون مبالغة، فإن قضية فلسطين تحولت الآن لأيقونة لكل أحرار العالم، كما أنها كسبت تعاطفا غير مسبوق في الرأي العام العالمي. صحيح أن هذا الرأي لم يتبلور بعد للتأثير على سياسات الدول المؤثرة، ولكن لا يجب أن ننسى أن التأييد هو بأقصى درجاته في الأجيال الشابة، وهي الأجيال التي ستصنع سياسات الدول مستقبلا.
سادسا: أسقطت "طوفان الأقصى" سرديات صنعتها الأنظمة العربية ودولة الاحتلال وصرفت على ترويجها ملايين الدولارات عبر أكثر من عقد من الزمان. ستحتاج الأنظمة لمئات الملايين ولن تنجح بعد هذه المعركة في شيطنة الشعب الفلسطيني، واتهامه ببيع الأرض وغيرها من الاتهامات، وسيحكم على أي تطبيع حصل أو سيحصل بين الدول العربية والاحتلال بأن يبقى رسميا لا يصل للشعوب.
سابعا: أيقظت معركة "طوفان الأقصى" الدول الغربية والإقليمية والاحتلال من وهم "انتهاء القضية الفلسطينية" وتراجع أهميتها. ستدفع المعركة العالم بدون شك للبحث في حلول سياسية أكثر استمرارا ونجاعة مما كان الوضع عليه قبل 7 أكتوبر. ليس من المتوقع بالطبع أن نصل لحل سياسي نهائي، ولكن الوضع الذي سيتبع الحرب يجب أن يقدم للفلسطينيين أكثر مما كانوا يحصلون عليه، لضمان استمرار الهدوء وعدم تكرار الحرب. هذان الهدفان لا يمكن تحقيقهما بالحرب فقط، وهذا ما يجعل الحل السياسي القابل للحياة شبه حتمي.
مآلات الحرب الثانية
كما ذكرنا، فإن معركة "طوفان الأقصى" انتهت عمليا في اليوم الأول أو الثاني لانطلاقها، وقد حللنا نتائجها أعلاه. أما الحرب الثانية التي انطلقت بعد انتهاء الأولى فهي لا تزال مفتوحة على الخيارات:
أولا: تسببت الحرب بإيقاع الكثير من الألم في صفوف الفلسطينيين. قتلت حتى الآن أكثر من 10 آلاف شهيد غالبيتهم العظمى من المدنيين الآمنين، وهدمت آلاف البيوت، وجوعت ملايين الغزيين. هذه الخسائر مؤلمة للشعب وللمقاومة، ولا بد أن معالجة آثارها ستكون محورا للنضال الفلسطيني في السنوات القادمة.
ثانيا: تقدمت قوات الاحتلال بريا في مناطق محدودة داخل قطاع غزة صغير المساحة. حتى الآن لم تصل للمناطق المأهولة التي يقول بعض الخبراء العسكريين الإسرائيليين إنها ستكون أصعب، بحسب وول ستريت جورنال.
ثالثا: قد تتمكن قوات الاحتلال من السيطرة على مناطق أوسع وتغيير الوضع جذريا في القطاع إذا ظلت حكومة نتنياهو قادرة على الاستمرار بالحرب لوقت طويل. هذا الاحتمال يجب أن يظل حاضرا أثناء تحليل السيناريوهات في ظل اختلال ميزان القوة الهائل بين الطرفين. لكن هذا السيناريو لا يعني أن الاحتلال سينهي ظاهرة المقاومة، بل إن مثل هذا التطور قد يؤدي إلى أن تتحلل حماس من "إكراهات السلطة"، ويتحول الصراع بينها وبين قوات الاحتلال إلى حرب استنزاف طويلة الأمد.
هجوم تيت الفيتنامي.. درس من التاريخ
لا مثيل للتاريخ كمعلم في قراءة الحاضر. قد لا يكون التاريخ يعيد نفسه كما يقال، ولكنه يمثل نسقا يمكن استخدامه لتحليل الحاضر. لقد شبه محللون غربيون وعرب هجوم 7 أكتوبر بما يعرف بـ"هجوم تيت" الفيتنامي، وهو أحد أكبر الأحداث التي شهدتها حرب فيتنام.
بدأ "هجوم تيت" بشكل جزئي يوم 30 كانون الثاني/ يناير عام 1968، واستكمل بكامل قوته في اليوم التالي. نفذ الهجوم قوات "فيت كونج" و"جيش شمال فيتنام الشعبية" ضد جيش جمهورية جنوب فيتنام وحلفائها، وعلى رأسهم القوات المسلحة الأمريكية. كان الهجوم مفاجئا للأمريكيين وحلفائهم الجنوبيين، واستهدف أكثر من 100 مدينة وبلدة، بما فيها مناطق من العاصمة سايجون. كانت القوات الشمالية تسعى من الهجوم إلى تحريك انتفاضة شعبية ضد الحكومة الجنوبية. بعد امتصاص الصدمة، استطاعت القوات الأمريكية وحلفاؤها الجنوبيون هزيمة الـ"فيت كونج" والجيش الشمالي، ولم يتحقق هدف الهجوم الرئيسي وهو قيام انتفاضة شعبية ضد سايجون وإسقاط حكومتها.
رغم الهزيمة، تمكن الهجوم من هز الحكومة والشعب الأمريكيين، إذ احتاج الجيش الأمريكي لحشد 200 ألف جندي من بينهم جنود احتياط، وأدى إلى انقلاب الرأي العام الأمريكي ضد الحرب، وهو ما نتج عنه انسحاب الولايات المتحدة من فيتنام بعد 7 سنوات من الهجوم.
لا يهدف استعراض تاريخ "هجوم تيت" للقول إن هجوم 7 أكتوبر سيؤدي بعد سنوات لهزيمة الاحتلال الإسرائيلي، إذ أن تشابه أحداث التاريخ لا يعني بالضرورة تكرار نتائجها، ولكن أهم ما يدل عليه هذا التاريخ هو أن الصراع بين الشعوب المحتلة والاحتلال لا ينتهي بهزيمة واحدة أو انتصار واحد، وإنما هو عملية تراكمية، ولا شك أن هجوم 7 أكتوبر يمثل حادثة تاريخية جذرية، سيكون لها ما بعدها في تراكم الصراع بين الشعب الفلسطيني والاحتلال.