جاء
اجتماع نتنياهو- بايدن في الأراضي المحتلة لتأكيد الدعم الأمريكي لدولة الاحتلال
بشتى الصور، كما أن الاجتماع قبيل دعوة مصرية لعقد مؤتمر دولي للقضية
الفلسطينية،
ما قد يجعل المؤتمر غير ذي جدوى، وما أسفر عنه اجتماع بايدن- نتنياهو سيحدد مسار
الأيام القادمة غالبا. وسيكون مستبعدا أن يعود بايدن إلى المنطقة مرة أخرى، لذا
سترمي الولايات المتحدة بثقلها الأساسي في تلك الزيارة لا في مؤتمر القاهرة، وهنا
يجب الانتباه إلى أن إفشال مؤتمر القاهرة يمثل درجة من درجات استبعاد دور مصري في
القضية الفلسطينية. وربما يجادل البعض بأن هذه ميزة في ظل حكم السيسي، وهذه حقيقة،
لكن الهدف استبعاد مصر تماما لا السيسي، بحيث يتم عزل الفلسطينيين عن محيطهم كليَّة
حتى إذا تغير نظام الحكم أو التوجهات السياسية المصرية.
وفي
السياق ذاته، لا يجب إغفال تعاظم دور المؤسسات المصرية في الحرب الأخيرة، حيث
اتخذت مصر خطوات سياسية غير معتادة في عقدها الأخير، وهو ما يرجع (بحسب مصادر
مطلعة) إلى اقتحام الجهاز البيروقراطي المصري لخط المواجهة، وأصبحت تقديرات
الخارجية المصرية والاستخبارات محل اعتبار، رغم ما لحق هذه الأجهزة من تشويه متعمد
لمسار حركتها الوطنية على يد قيادتها، إلا أن هذه المعركة وخطورة مآلاتها دفعت إلى
تحجيم انفراد السيسي بالقرار بدرجة ما، ونأمل أن يظل الخبراء أصحاب الحس الوطني
والقومي في الصورة إلى حين إيقاف العدوان بصورة تحفظ القضية الفلسطينية من جهة،
والأمن العربي في نطاق دول الطوق أو المواجهة من جهة أخرى.
العربدة الإسرائيلية كانت دون حساب في العقدين الأخيرين تحديدا، وتعامَلَ العالم مع القضية على أساس قدرة دولة الاحتلال على التحرك وفق ما تريد دون رادع فلسطيني أو عربي، فقرر الفلسطينيون تحريك المياه الراكدة وإنهاء العربدة بحق أرضهم ومقدساتهم ومواطنيهم ومشروعهم السياسي، فأخذوا المبادرة بخطوة مباغتة نسفت نظرية الأمن الإسرائيلي بالكامل
ما
ينبغي طرحه في هذه المرحلة الحرجة للقضية الفلسطينية، أن العربدة الإسرائيلية كانت
دون حساب في العقدين الأخيرين تحديدا، وتعامَلَ العالم مع القضية على أساس قدرة
دولة الاحتلال على التحرك وفق ما تريد دون رادع فلسطيني أو عربي، فقرر الفلسطينيون
تحريك المياه الراكدة وإنهاء العربدة بحق أرضهم ومقدساتهم ومواطنيهم ومشروعهم
السياسي، فأخذوا المبادرة بخطوة مباغتة نسفت نظرية الأمن الإسرائيلي بالكامل، والمعتمدة
على الضربات الاستباقية، والتفوق الكيفي على الدول المحيطة، والاستخبارات القوية،
فتبين في بضع ساعات أن النظرية مجرد وهم سقط على يد قوات غير نظامية بدون تدريب متقدم،
وبإمكانيات شديدة المحدودية.
لقد
كان قرار عام 1973 الاستفادة من نصر عسكري محسوب لاستعادة الأرض، وكذلك أراد
الفلسطينيون برسالتهم الملتهبة أن يُسمعوا العالم صوتهم، ويُعلموه أنهم لا يزالون
على الخارطة، وأن لديهم قضية وحقّا لا يمكن تجاهله مهما أراد عدوهم فرض الأمر
الواقع على الأرض، ومهما حاول تزييف التاريخ وطمس حقائقه، وبالتالي أشعروا العالم
أن بإمكانهم إشعال الأوضاع إلى ما لا نهاية بالقوة العسكرية إذا لم يحترم الاحتلال
حقوقهم الأوَّليَّة المتعلقة بعودة اللاجئين وقيام الدولة والسيادة الكاملة،
وبالطبع خصوصية وضع القدس وحرمها الشريف.
الأروع
في نصر أكتوبر قبل نصف قرن، أنه لم يكن ليحدث لولا التضامن العربي عسكريا وماديا،
وإظهار نية العرب التصعيد لأقصى درجة عبر سلاح النفط، ما أربك حسابات كثيرة، خاصة
الولايات المتحدة، وهيَّأ المناخ للانتقال من هزيمة كبرى إلى نصر مذل للعدو
ودعايته، واليوم تعود الولايات المتحدة لنفس الدور القميء والمنحاز إلى الاحتلال
دون حدود، وستدعم الكيان المحتل بالعتاد العسكري والأموال لإنقاذ طفلها البليد والمهزوم
دوما عند كل مواجهة جادة رغم تفاوت القوى.
في
مقابل دعم عام 1973 أصبح المطروح في الدوائر العربية المنحازة أو المنهزمة أمام
دولة الاحتلال عن سبب قيام حركة حماس بهذا الهجوم مع تفاوت القوى، وهل يجب أن
تنخرط الدول العربية في مواجهة لم تقرر أن تبدأها وإنما بدأها فصيل فلسطيني؟
هذه
المغالطة مذهلة في سذاجتها، كما في عمالتها أو انبطاحها، فمصر تحديدا عانت من
الاحتلال ثلاث مرات في القرنين الأخيرين؛ الاحتلال الفرنسي ثم الإنجليزي ثم
الصهيوني في سيناء، ولا يزال المصريون يتذكرون ما قام سليمان الحلبي مع كليبر
المحتل، ولم يقل أحد لماذا استفز الفرنسيين مع تفاوت القوى، كذلك لم تتوقف
العمليات ضد الاحتلال الإنجليزي طوال 70 عاما، وتباهى المصريون بالعمليات، بل
تباهوا بالاغتيال السياسي للمتواطئين مع الاحتلال، وأصبح السادات، أحد المتهمين في
إحدى عمليات الاغتيال تلك، رئيسا لمصر. أما الاحتلال الصهيوني، فقد كانت العمليات
المصرية طوال معركة الاستنزاف وقرار عام 1973 مبعث فخر للمصريين والعرب الذين
شاركوا بقوة في القتال أو الدعم المالي للجيش المصري، فإذا كانت مقاومة المحتل حقا
لمصر، لماذا لا تكون حقا لأي فلسطيني؟
كذلك
التساؤل عن الدعم العربي في معركة لم يبدأوها تساؤل ممجوج، فمَن مِن الدول العربية
لم تستنجد بجيرانها رغم الخلافات الواسعة! الكويت صرخت طالبة للعون، وهذا حقها، في
الغزو العراقي، وتدخلت دول عربية في الحرب، وكذلك فعلت مع مصر وسوريا عام 1973 رغم
أنهما اتخذتا قرارهما منفردين، وأي دولة عربية تكون مهددة تلجأ للدول العربية،
ومرة أخرى رغم الخلافات الواسعة بينها، فلماذا يكون طلب العون مسموحا به لهم
ومرفوضا للفلسطينيين؟
هناك
نقطة مهمة في تلك المسألة، ورغم أنها شكلية لكنها مستند رئيس للاحتلال والأنظمة
العربية وللأسف السلطة الفلسطينية أيضا، ومدار هذه النقطة أن الاحتلال يصر على عدم
منح الفلسطينيين دولة مكتملة السيادة، لأنه أدرك جيدا بعد سنوات العصابات
الصهيوينة وحتى إعلان دولة الاحتلال، أن التمثيل الدولي يجعل أمورا كثيرة مقبولة،
فمثلا قامت العصابات الصهيونية بقتل الكونت برنادوت عام 1948 وهو وسيط الأمم
المتحدة للنزاع في فلسطين، على يد عصابات ترأسها بيجن وشامير، لكن بعد تحول
العصابات إلى كيان دولي لم يعودا إرهابيين بل رأَسَا الوزارة في دولة الاحتلال،
وهذه الفكرة ترسخت في الذهنية المحتلة فعمدت إلى منع إعطاء الصبغة الدولية
والرسمية للفلسطينيين، بتواطؤ دولي وتخاذل عربي غالبا، وتواطؤ أحيانا.
من
هنا أصبح هناك عنوان كبير قفز إلى المشهد، بأن "حماس لا تمثل
الفلسطينيين"، وهو ما يكرره السيد أبو مازن، مفاوض الاحتلال منذ أكثر من
ثلاثة عقود دون نتيجة، والحقيقة أنه لا يوجد من يمكنه أن يعلن أنه يمثل التوجه
الفلسطيني بالكامل أو جزئيا منذ عقدين تقريبا، فالانتخابات الفلسطينية عام 2006
رُفضت نتيجتها، رغم اعتراف المراقبين الدوليين بنزاهتها، كما أن ولاية عباس منتهية
منذ عقد ونصف تقريبا، فكيف يدَّعي أنه الممثل الشرعي والوحيد للفلسطينيين! هذه
المسألة لا حل لها سوى بإجراء انتخابات نزيهة دون استبعاد لأي مكون فلسطيني، وهو
ما يبدو مستبعدا تماما، في ظل ضعف حركة فتح، وخوفها وخوف القوى الإقليمية من سيطرة
حماس على السلطة الفلسطينية بالكامل، كما أن السيد أبا مازن ما كان له أن يكون
وجهة دولية هذه الأيام إلا بأفعال المقاومة التي أحيت وجوده ودوره.
ما يجب التركيز عليه في أثناء هذه المعركة العسكرية والتحركات السياسية، أن المنطقة لن تعود كسابق عهدها بعد المعركة، وإذا قررت الأنظمة العربية التغاضي عن العدوان الصهيوني والاكتفاء بالكلمات، أو إذا سمحت بجعل بلادنا جسورا للمدد الأمريكي، أو قواعدهم في أرضنا منطلقا للقصف والعدوان، فسيكون استقرار حكمها أمرا شديد الصعوبة
إن
ما يجب التركيز عليه في أثناء هذه المعركة العسكرية والتحركات السياسية، أن
المنطقة لن تعود كسابق عهدها بعد المعركة، وإذا قررت الأنظمة العربية التغاضي عن العدوان الصهيوني والاكتفاء بالكلمات، أو إذا سمحت بجعل
بلادنا جسورا للمدد الأمريكي، أو قواعدهم في أرضنا منطلقا للقصف والعدوان، فسيكون
استقرار حكمها أمرا شديد الصعوبة مع حالة الزهو الشعبي بما قدمته المقاومة، وهي
حالة بادية بجلاء مهما كانت درجة القمع لمظاهر الاحتفال.
إن
البيانات العربية الصادرة عقب عملية طوفان الأقصى يعطي بعضها نموذجا جيدا للخطاب
العربي في مستهل معركة ستؤثر قطعا على القضية الفلسطينية وحقوق أهلنا هناك، لكن
البيانات المفتقدة للضغوط العملية لن تجدي في كبح الغضب الشعبي أو التكاتف الشعبي
مع الفلسطينيين، وقد يكون السماح لشعوب المنطقة بإظهار تعاطفهم ودعمهم للفلسطينيين
عاملا داعما لقرارات الأنظمة إذا قررت الصمود أمام الضغط الأمريكي والدولي.
لذا
ينبغي أن تنتبه الأنظمة العربية ومؤسساتها الوطنية تحديدا أنها أمام واجب لا يمكن
تجاهله، حتى وإن كان بمنطق المصلحة الشخصية، فالتهديدات الأمريكية لن تكون ذات قيمة
أمام الغضب الشعبي، في حال قررت تجاهل الفلسطينيين والأخطر إذا قررت التعاون ضدهم،
كما هي فرصة لزيادة مساحة الحركة الفردية بعيدا عن الارتباط الشديد بالقرار
الأمريكي، وتحجيم قدرات دولة نووية في محيط متأخر عسكريا عنها، وأخيرا هي فرصة
لاكتساب مساحة من الشرعية داخل أوطان تعتز شعوبها بترابطها وإن وقع بين أبنائها وقيادتها
شَجَرٌ أو حتى عدوان.