(ينظر القائد في المنظار ويحركه نحو أعلام السفن المهاجمة ويعدد.. ريتشارد
قلب الأسد، فيليب أغسطس ملك فرنسا، بهموند أمير أنطاكيا.. فيرد عليه أحد قادة
الجيش: مولاي القائد بدأوا النزول في القوارب، نهجم الآن، فيرد عليه القائد
الكبير: "مولانا السلطان علّمنا كيف نكسب المعارك بالصبر")..
مشهد من فيلم الناصر صلاح الدين.
في حوار أشبه بالبيان، أو إرسال الرسائل
خرج حلمي الجزار، مسؤول المكتب
السياسي في جماعة
الإخوان المسلمين- جبهة صلاح عبد الحق، على قناة الشرق ليقول
كلمة واحدة هي ملخص خمسين دقيقة لم يأت فيها بجديد، حتى الرسالة التي هيأ
"المحاور" عدة فرص لكي يحرز منها الضيف الهدف من المقابلة لم تكن جديدة،
ولم تكن لتحتاج لكي يظهر مسئول المكتب السياسي ليعلنها، فعلى مدار السنوات الأربع الماضية
تكررت كثيراً، وهي استجابة لدعوة "القصير قدام والطويل ورا" كرر قادة
الإخوان أنهم لن يترشحوا أو يمارسوا سياسة.
فقبل أن تنشطر الجماعة انشطارها الأخير إلى جبهة الأستاذ إبراهيم منير،
رحمة الله عليه، والدكتور محمود حسين، عقدت الجماعة مؤتمراً في إسطنبول حضره
الرجلان، وكان خلاصته ما أكد عليه الدكتور حلمي الجزار خلال ستين دقيقة، تم
التشويق لها قبل يومين، فانتظر الجميع الجديد، فإذ به نفس الطرح وتأكيد المؤكد،
أضيف له فقط "العمل السياسي أوسع بكثير من الصراع على السلطة الذي يؤدي
أحياناً إلى اضطراب مجتمعي".. مقتطف من كلام الجزار.
لا بد من وقفة مع أداء من تم اختياره لإيصال الرسالة، والمنبر الذي أرسلت منه، فالدكتور حلمي وهو رجل قمة في الأدب والأخلاق والذوق، لم يكن ليصلح لإيصال هذه الرسالة، إذ أن خروجه في حد ذاته رسالة بأن الاخوان لم يتغيروا، وأن الأداء البطيء الرتيب ما زال يسيطر على المشهد ومن ثم التفكير
حاول حلمي الجزار من خلال المحاور، وحتى من خلال كلامه عن نفسه، أن يؤكد
أنه توافقي، وأن الجميع أصدقاؤه لا سيما من شاركوا في جريمتي الثلاثين من حزيران/
يونيو والرابع عشر من آب/ أغسطس، في أداء غير مستساغ. وهنا لا بد من وقفة مع أداء
من تم اختياره لإيصال الرسالة، والمنبر الذي أرسلت منه، فالدكتور حلمي وهو رجل قمة
في الأدب والأخلاق والذوق، لم يكن ليصلح لإيصال هذه الرسالة، إذ أن خروجه في حد
ذاته رسالة بأن الاخوان لم يتغيروا، وأن الأداء البطيء الرتيب ما زال يسيطر على
المشهد ومن ثم التفكير.
فلقد راعني حديث الجزار عن المراجعات وأنها ستشمل كل مكونات الوطن، وكأنه
يقول نحن نبحث عن ذريعة لتحميل الجميع الخطأ ولن نحمله وحدنا.. أتفق معك، لكنك
ملزم بمراجعة نفسك لا الآخرين، وهو فكر يؤكد المشي في المكان. ففي مقال "
صهيب
عبد المقصود.. مهندس في حقل ألغام" أشدت بالمتحدث الرسمي الشاب للإخوان
وبأدائه وتمريره للأفكار بسلاسة، مع الحفاظ على الصورة الذهنية للجماعة كقوة لا
يمكن تخطّيها في المشهد
المصري والدولي، رغم الظروف التي تمر بها، وظهوره توافقيا
رغم الانقسام، وهو ما افتقده الجزار في أدائه أثناء المقابلة.
أما المنبر الذي خرج الجزار ليرسل منه رسالته بحد ذاته فيؤكد الأزمة التي
يعيشها الإخوان، فبالرغم من أن الجزار أكد على أن أزمة الإخوان إدارية وليست فكرية
ولا أيديولوجية، فإنه اختار قناة الشرق وليس وطن ولا مكملين ولا حتى الشعوب ليطل
منها ليؤكد المؤكد في رسالته، فأي توافق إذن؟ كان الأحرى به أن يصدر بيانا بفحوى
هذه الرسالة التي جاءت على خلفية قراءة للمشهد منطلقة من مقال لعماد جاد وتلقفها
الإخوان والمعارضة بأن ثمة تغييرا يلوح في الأفق.
يبني الإخوان وكثير من المعارضة آمالاً على
الانتخابات الرئاسية التي ستجري
في كانون الأول/ ديسمبر القادم، بحسب ما أعلنت الهيئة الوطنية للانتخابات، بأن
تكون بادرة للتغيير، هذه الآمال لها شواهد، من وجهة نظر الإخوان والمعارضة، أولها
أن رأس النظام الحالي مأزوم اقتصادياً وسياسياً ولا يجد من يسنده، فقد أعرضت عنه
كل من السعودية والإمارات، وضربوا بزيارته الأخيرة لأبو ظبي مثلاً للتدليل على أنه
يبحث عن طوق نجاة في أبو ظبي، على الرغم من أن الرجل بالأساس كان يراهن على
السعودية، وزارها فجراً في زيارة مثل تلك التي يضربون بها مثلاً للتدليل على
أزمته، لكنهم ينسون ويدللون بأن تدوينة البرادعي ومقال عماد جاد ومقابلة حسام
بدراوي وتحولات عمرو أديب ومقال أخيه من قبله؛ تمثل حالة يمكن البناء عليها، وأن
شيئا ما سيحدث، ويؤكدون أن طرح اسم محمود حجازي كبديل، إنما هو لضمان خروج آمن
لرأس النظام الحالي.
وإذ استبعدنا الأهداف الحقيقية من إيصال رأس النظام الحالي إلى السلطة، من
القضاء على الإسلام السياسي، والقضاء على الحالة الثورية، وتجفيف المنابع الحزبية
والعودة إلى الأحزاب الكارتونية، ونزع كل أوراق اللعب المؤثرة من مصر وإضعافها
وصولاً لأن تصبح دولة فاشلة تبيع أصولها السيادية، مع الإبقاء عليها تحت جهاز
التنفس الصناعي، حتى لا تنفجر الأوضاع فيمثل مئة مليون مصري عبئا على العالم بعد
تجربة اللاجئين السوريين والأزمة التي يسببونها للعالم.. فإن خروج الجزار الآن وفي
هذا التوقيت بانياً آمالاً على التغيير ومن ثم فإننا لن نكون في المشهد ولن ننافس
على السلطة، وأننا لن ندعم أحمد طنطاوي ولن ندخل البرلمان ولن.. ولن؛ هو بمثابة من
أراد أضحية فذبح قبل العيد، فما وفّى الشعيرة ولا أخذ الثواب.
كان حرياً أن يتنظر الجزار قليلاً حتى تظهر معالم المشهد، ومصداقيته، فلقد اعتدنا من النظام في السنوات العشر الماضية أن يطلق بالونات اختباره ويرمي لنا بالطُعم. فالمشهد الإقليمي والدولي لا يوحي بأن هناك رغبة في التغيير
كان حريّاً أن يتنظر الجزار قليلاً حتى تظهر معالم المشهد، ومصداقيته، فلقد
اعتدنا من النظام في السنوات العشر الماضية أن يطلق بالونات اختباره ويرمي لنا
بالطُعم. فالمشهد الإقليمي والدولي لا يوحي بأن هناك رغبة في التغيير، والحديث بأن
الرجل أصبح عبئا هو كلام يبتعد عن الهدف الأساسي الذي أرادوا الرجل من أجله..
الغرب يريد إنهاء ملف الإسلام الجهادي والإسلام السياسي والإسلام الأصولي، كما
يريد تحولات مجتمعية من شأنها التأكد من عدم إفراز عناصر مقاومة للتغريب ومتمسكة
بالثوابت، كما يريد حماية مصالحه في قناة السويس، حتى يتمم المشروع البديل؛
الممرات الخضراء وجزء منه قناة بن جوريون، والأهم حماية الكيان المحتل في فلسطين،
كما يريد أن يلتفت إلى التنين الصيني الذي يهدده، والآن روسيا التي يريد أن تؤدبها.
ولقد كتبنا في ذلك مقالا بعنوان "
الشرق الأوسط الجديد الذي يرسمه بايدن"
يمكن الرجوع له في تفاصيل أكثر.
وإقليمياً يريدون زعامة المنطقة بتراجع مصر من خلال السيطرة على مقدراتها
وأصولها السيادية، وهو ما تؤخره عملية تعويم الجنية الثانية، لكي يدفعوا أقل بعد
هبوط القوة الشرائية للعملة المصرية، لذا فإن عملية الانتخابات ونزول أكثر من مرشح
محتمل حتى الآن قد تكون لعبة يُستهدف بها ليس الداخل فقط وإنما الخارج أيضاً.
كل القراءات متاحة سياسياً، لكن بناء الخطة على معلومات تُدفع إليك عبر
الإعلام هو خطأ كبير، والخطأ يكبر أكثر كونك تقرأ لجماعة مهمة، والإشكالية أن تقرأ
في مجاميع، فتخرج القراءة موجهة، وعندما يكرر الفريق عادة القراءة الجماعية فإنه
يصل في النهاية إلى أن يقرأ بنفس العين.
لم تكن مقابلة الدكتور المحترم الخلوق، حلمي الجزار، موفّقة لا في التوقيت
ولا الفحوى من وجهة نظري، فالصمت في كثير من الأحيان يكون ورقة ضغط، والإبقاء على
ورقة ضغط ولو وحيدة الآن مكسب كبير، إلا لو أن أحدهم ضغط لكي يفقد أهم مكونات
المعارضة آخر ورقة لديه، وعليه يجب أن نرجع لحكمة القائد في فيلم صلاح الدين.. "مولانا
السلطان علمنا كيف نكسب المعارك بالصبر".