من
كان يصدق أن
مصر، الدولة العربية الكبرى وصاحبة أقوى جيش عربي وأحد أكبر جيوش
العالم، يمكن أن تفرط في جزء من ترابها الوطني؟! ومن كان يصدق أنها يمكن أن تفرط
في حصتها التاريخية من مياه
النيل؟! ومن كان يصدق أنها يمكن أن تفرط في حقوقها
البحرية في البحر المتوسط؟! للأسف فإن هذه المستحيلات صارت حقيقة واقعة خلال "العشرية
السوداء" التي عاشتها مصر بعد انقلاب الثالث من يوليو 2013. ليس ذلك فحسب، بل
تم تصوير هذه الكوارث باعتبارها إدارة سياسية رشيدة لملفات معقدة!!
فوجئ
المصريون يوم 8 نيسان/ أبريل 2016 بتوقيع علني لاتفاقية ترسيم الحدود بين مصر
والسعودية، والتي وقعها عن الجانب المصري رئيس الوزراء آنذاك المهندس شريف إسماعيل
ومن الجانب السعودي الأمير محمد بن سلمان، وزير الدفاع والنائب الأول لرئيس مجلس
الوزراء حينذاك، وبموجب تلك الاتفاقية تنازلت مصر عن جزيرتي
تيران وصنافير
للسعودية.
بعد 5
أيام من التوقيع خرج السيسي مبررا ذلك التنازل بأنه "لا يمكن أن يطمع
المصريون في أراضي الآخرين"، وأن مصر أعادت الجزيرتين للسعودية، لأنهما
مملوكتان لها وهذا حقها وكان لزاما على مصر أن تعيد حقوق الأشقاء، وأنه تعلّم من
والدته ألا يطمع فيما هو في يد الغير.
هكذا بسهولة وبجرة قلم تم التنازل عن جزيرتين هما جزء عزيز من أراضي مصر وفقا للوثائق التاريخية، وهما اللتان قامت بسببهما وعلى ترابهما معارك دامية في العام 1967 راح ضحيتها آلاف الشهداء من الجيش المصري (قرار مصر بإغلاق مضيق تيران أمام الملاحة الإسرائيلية ما ترتب عليه العدوان الإسرائيلي)، وهما اللتان عادتا إلى السيادة المصرية وفقا لاتفاقية السلام
هكذا
بسهولة وبجرة قلم تم
التنازل عن جزيرتين هما جزء عزيز من أراضي مصر وفقا للوثائق
التاريخية، وهما اللتان قامت بسببهما وعلى ترابهما معارك دامية في العام 1967 راح
ضحيتها آلاف الشهداء من الجيش المصري (قرار مصر بإغلاق مضيق تيران أمام الملاحة
الإسرائيلية ما ترتب عليه العدوان الإسرائيلي)، وهما اللتان عادتا إلى السيادة
المصرية وفقا لاتفاقية السلام بعد احتلال دام 15 عاما.
انتفضت
قطاعات واسعة من الشعب المصري ضد قرار التنازل عن الجزيرتين، وشهد التحالف الداعم
للسيسي أول تصدع بسبب ذلك، عبر تنظيم مظاهرات كبرى يوم 15 نيسان/ أبريل في عدة مدن
مصرية، ثم تجددت يوم 25 نيسان/ أبريل 2016 وهو الذكرى السنوية لعيد تحرير سيناء،
وكانت أكبر مظاهرة شهدتها مصر منذ العام 2013 (بخلاف المظاهرات الرافضة للانقلاب).
وعقب تلك المظاهرة اقتحمت قوات الأمن مقر نقابة الصحفيين مطلع أيار/ مايو 2016 في
جريمة هي الأولى من نوعها في تاريخ النقابة، بغية القبض على صحفيين لاذا بها من
ملاحقات الشرطة.
تُوجت
التحركات الشعبية ضد التنازل عن الجزيرتين بحكم قضائي تاريخي نهائي وباتّ من
المحكمة الإدارية العليا في 16 كانون الثاني/ يناير 2017، وذلك بإجماع آراء قضاة
المحكمة ببطلان ذلك التنازل، مع تأكيد أحقية مصر بملكية الجزيرتين وفقا للوثائق
المقدمة للمحكمة. وبعد رفض المحكمة لدفوع الحكومة المصرية، كان الحكم بذاته وثيقة
جديدة لتأكيد السيادة على ذلك الجزء من الأرض المصرية. وقال رئيس المحكمة في جلسة
النطق بالحكم إن "سيادة مصر على جزيرتي تيران وصنافير مقطوع بها"، وأن "الحكومة
لم تقدم وثيقة تغير ما ينال من الحكم السابق الذي صدر ببطلان التنازل أيضا".
وأضاف
رئيس المحكمة: "إن مصر ليست نقطة على خريطة الكون، أو خطوطا رسمها خطاط أو
عالم جغرافي، وإنما هي بلد قديم خلقه الله من رحم الطبيعة، ويسري على أرضها من
الجنوب إلى الشمال نهر خالد مسرى الدم في شرايين الجسد، وأن جيش مصر لم يكن أبدا
جيش احتلال وما أخرجته مصر خارج حدودها إلا دفاعا عن أمنها وأمن أمتها".
توقع
البعض أن يجد النظام المصري في هذا الحكم مخرجا ليتراجع عن قراره بتسليم
الجزيرتين، لكنه لم يأبه لهذا الحكم، كما لم يأبه بالدستور نفسه الذي ينص في مادته
الأولى على أن "جمهورية مصر العربية دولة ذات سيادة، موحدة لا تقبل التجزئة،
ولا ينزل عن شيء منها".
لقد
فعلها إذن الحكم العسكري الجديد بالمخالفة للدستور ولحكم القضاء، ولكل الوثائق
والمستندات، وهكذا فقدت مصر جزءا عزيزا من أرضها التي روتها دماء أبنائها في حربي
1956 و1967، وذلك نظير مساعدات مالية سعودية للنظام لا يعرف المصريون عنها شيئا.
مياه النيل
لم تكن تلك التمويلات لتصل في ظل وجود خلافات حول السد وفقا للقواعد والمواثيق الدولية، ولذا جاء اتفاق المبادئ ليرسل ضوءا أخضر لأصحاب تلك التمويلات أن لا مشكلة الآن بين مصر وإثيوبيا على السد. ومنذ ذلك الوقت تدفقت التمويلات وبدأت عمليات البناء التي انتهت فعليا، لتبدأ عمليات الملء، وتصل مرحلتها النهائية بقرار أحادي، دون اتفاق مع مصر، ودون ضمان لحقوقها المائية التاريخية
الكارثة
الثانية التي نذكرها في هذا السياق هي فقدان مصر لحقوقها التاريخية في مياه النيل،
وهو ما لم يحدث في أي عهود سابقة لكنه حدث خلال هذه العشرية السوداء، وذلك بتوقيع
اتفاق المبادئ في آذار/ مارس من العام 2015، والذي منح الشرعية لبناء سد النهضة الإثيوبي،
وفتح الباب الدولي لتمويله. لم تكن إثيوبيا قادرة على بناء السد دون الحصول على
تمويلات دولية، ولم تكن تلك التمويلات لتصل في ظل وجود خلافات حول السد وفقا
للقواعد والمواثيق الدولية، ولذا جاء اتفاق المبادئ ليرسل ضوءا أخضر لأصحاب تلك
التمويلات أن لا مشكلة الآن بين مصر وإثيوبيا على السد. ومنذ ذلك الوقت تدفقت
التمويلات وبدأت عمليات البناء التي انتهت فعليا، لتبدأ عمليات الملء، وتصل
مرحلتها النهائية بقرار أحادي، دون اتفاق مع مصر، ودون ضمان لحقوقها المائية
التاريخية.
لن
تنسى الذاكرة المصرية أو حتى العالمية المظهر الهزلي الذي استنطق فيه السيسي في
حزيران/ يونيو 2018 رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد بكلمات لا يفهمها: "والله
والله لن نقوم بأي ضرر للمياه في مصر".. لم تكن تلك الكلمات (التي لا يفهمها آبي
أحمد) كافية، أو تمثل وثيقة رسمية تقر من خلالها إثيوبيا بحقوق مصر المائية، بل
ظلت الحكومة الإثيوبية تؤكد دوما على ما تسميه التقسيم العادل للمياه، بعيدا عن أي
اتفاقات أو وثائق سابقة، وهذا التقسيم الذي تقصده إثيوبيا يحرم مصر من نصف حصتها
المائية تقريبا، ما يهدد ببوار نصف الأراضي الزراعية المصرية.
يوم
الخميس الماضي استقبلت القاهرة رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد ضمن اجتماع دول
الجوار السوداني، وعلى هامش الاجتماع اتفق السيسي وآبي أحمد على الشروع في
مفاوضات
عاجلة للانتهاء من الاتفاق بين مصر وإثيوبيا والسودان لملء سد النهضة وقواعد
تشغيله، وبذل جميع الجهود الضرورية للانتهاء منه خلال أربعة أشهر.
لا
يمكن الوثوق بهذا الكلام الأجوف، فهو تكرار ممل لوعود سابقة لم تنفذ، حيث قامت إثيوبيا
بعمليات البناء والملء دون اتفاق مع مصر والسودان، وهو عودة للصياغات الغامضة مثل
عدم إلحاق ضرر "ذي شأن" بمصر والسودان. وهكذا تطوى صفحة حقوق مصر
التاريخية والتي كانت تقدر بـ55 مليار متر مكعب من المياه، لتنخفض إلى 30 مليار أو
ما تجود به إثيوبيا تبرعا أو بيعا.
twitter.com/kotbelaraby