كانت البداية
عندما تمالأ القوم على عزل الإخوان المسلمين، واختطاف الرئيس المنتخب وقتل وسجن
المعترضين، بعد أن ظنوا أن الحياة من بعدها ستكون وردية وستنتعش الديمقراطية، متناسين
دروس التاريخ بأن المؤامرة لا تنتهي بعد نجاح الفصل الأول منها، بل إن الدائرة
ستدور لتأكل حتى أبرز قياداتها.
كانت عين الجنرال
السيسي منذ البداية بعد اختطاف الرئيس مرسي؛ على الجيش، والمجلس
العسكري الذي بدأ
يدرك أنه بات مهمشا، بعد أن تضخمت سلطات الرئيس المؤقت الذي كان يديره السيسي
بعناية، وحوّله لحامل أختام لقرارات وقوانين يكتبها الجنرال من خلال خلية لتفصيل
القوانين.
فبادر السيسي بالسيطرة
على الجيش بشكل كامل فيما أراه الانقلاب الثاني، وذلك بالمرسوم بقانون الذي أصدره
عدلي منصور برقم 11 لسنة 2014 في شباط/ فبراير 2014، لتعديل بعض أحكام القانون رقم
232 لسنة 1959 في شأن شروط الخدمة والترقية لضباط القوات المسلحة، والقانون رقم 71
لسنة 1975 الخاص بتنظيم وتحديد اختصاصات اللجان القضائية لضباط القوات المسلحة.
وبهذا القانون
ومن خلال لجنة الضباط واللجنة القضائية اللتين ترأسهما السيسي بوصفه وزيرا للدفاع،
قام بتصفية الضباط وإعادة ترتيب الجيش وفقا لمشروعه هو وتطلعاته.
هذه السلطات
الواسعة، جعلت السيسي يعامل القادة العسكريين بمبدأ امتلاكه لذهب المعز وسيفه.
فعسكرة الاقتصاد
والدولة خلقت كمّا كبيرا من الوظائف الرفيعة في مؤسسات الجيش الاقتصادية وشركاته
والوظائف المدنية العليا في الوزارات والمحافظات، وحصول العسكر على امتيازات مالية
واجتماعية بالإضافة لمعاشاتهم العسكرية.
وبعد أن قام
باستخدام سيف المعز لقمع وسجن بعض قادته السابقين؛ كالفريق أحمد شفيق والفريق سامي
عنان، ممن تجرؤوا على محاولة منافسته في انتخابات 2018، قدم عطايا كثيرة لمن اصطفى
من القادة الذين ساندوه في بطشه بزملائهم وقادتهم السابقين، ففتح لهم خزائن ذهب
المعز لينهلوا منها طوال حياتهم، فأصدر قانونا في 16 تموز/ يوليو 2018 يقضي بتوفير
حصانة قضائية ودبلوماسية لكبار ضباط القوات المسلحة، ومعاملتهم "معاملة
خاصة" داخل البلاد وخارجها.
ومنح القانون
السيسي الحق في استدعاء هؤلاء القادة للخدمة مدى الحياة، أي إن امتيازاتهم
الوظيفية من رتب ورواتب ومكافآت وجوازات سفر ديبلوماسية، تستمر معهم مدى الحياة ولن
يتقاعدوا إلا بالموت، وهي رشوة كبرى لم يسبقه إليها أحد من قبل. وطبعا هو من سيمنح
ويمنع عدد وأسماء هؤلاء المبشرين بجنة السيسي.
كما أن القانون
لا يسمح بمقاضاتهم أو التحقيق معهم، إلا بإذن من المجلس الأعلى للقوات المسلحة. ولا
يجوز، بحسب القانون، اتخاذ أي إجراء قضائي ضد من ينطبق عليهم هذا القانون عن أي
فعل ارتكب في أثناء تأديتهم لمهامهم، أو بسببها، في الفترة من 3 تموز/ يوليو 2013 حتى
8 حزيران/ يونيو 2014، وهي الفترة التي ارتكبت فيها الكثير من المجازر بعد
الانقلاب، إلا بإذن من المجلس الأعلى للقوات المسلحة.
ولكنه في مقابل
هذا الكرم الحاتمي، وبعد التأثيرات الكارثية التي أحدثها اعتقال الضباط المنافسين
له في انتخابات 2018، أراد تقنين منع كل الضباط من منافسته في الانتخابات؛ ففي 6 تموز/
يوليو 2020 قام السيسي بتمرير تعديلات في قانون شروط الخدمة والترقية لضباط القوات
المسلحة يقضي بعدم السماح لضباط الجيش العاملين أو المتقاعدين بالترشح للرئاسة أو
لعضوية البرلمان، إلا بعد موافقة المجلس الأعلى للقوات المسلحة.
ويغلق هذا
القانون الباب أمام ضباط عشرات الآلاف من ضباط وعناصر الجيش المتقاعدين، ممن انتهت
خدمتهم في القوات المسلحة، من الترشح لانتخابات رئاسة الجمهورية أو المجالس
النيابية أو المحلية، إلا بعد موافقة المجلس الأعلى للقوات المسلحة. وهو تعسف غير
مسبوق وانتهاك واضح للحقوق المجنية والسياسية لهؤلاء، وهو نوع من العزل السياسي غير
الدستوري، وتعسف في التشريع ضد زملائه من الضباط، رغم انتهاء علاقتهم بالمؤسسة
العسكرية.
ونشأت حالة عامة من
الغضب في الجيش من هذا الإجراء التعسفي، الذي جعل من المجلس الأعلى للقوات المسلحة
كيانا سياسيا يحدد من يسمح أو لا يسمح له بممارسة حقوقه العامة، حيث كانت القوانين
المعمول بها في
مصر، تقضي بحق العسكريين الذين تركوا الخدمة من خوض أي انتخابات
عامة.
ولعلكم تابعتم
مؤخرا ما جرى بشأن منع اللواء محمود حجازي رئيس الأركان السابق وشريك السيسي في كل
ما جرى في 3 تموز/ يوليو، بل ونسيبه، بعد أن أبدى رغبته بالترشح في الانتخابات
الرئاسية القادمة، وهناك أنباء عن وجود ضباط كبار لديهم نفس الرغبة في المنافسة. ولكن
السيسي يلوح لمن يتمردون على ذهب المعز بمواجهة سيفه.
وللتغطية على حالة
الغضب في الجيش، قام بإصدار قرار جمهوري يمنح حصانة خاصة وامتيازات لكل ضباط القوات
المسلحة وعائلاتهم، تمنع مساءلتهم أمام أي جهة قضائية طبيعية، في تصرف شاذ وغير
مسبوق أيضا وجعلهم "فوق الدولة".
وهو قرار يذكرك
بقوانين الفصل العنصري التي طبقت في جنوب أفريقيا، وتضفي الطابع المؤسسي على
التمييز العنصري وهيمنة طائفة على طائفة أخرى في المجتمع. وهي هنا هيمنة السياسي
على المدني.
وجاء في نص
القرار الذي أصدره السيسي بصفته الحاكم العسكري، والقائد الأعلى للقوات المسلحة،
ورئيس الجمهورية، وجرى تعميمه على جميع مؤسسات وأجهزة الدولة للعمل، طبقا لما جاء
في القرار بشأن أسلوب التعامل مع ضباط الجيش وذويهم.
ونص على أن
"وزارة الدفاع هي الوزارة السيادية رقم (1) في البلاد، ويتمتع السادة الضباط
والأفراد فيها بحصانة تمنع أي جهة مدنية من مساءلتهم". وهدد القرار مَن يمس
بهذه الحصانة بالخضوع للتحقيق الفوري والمساءلة أيّا مَن كان من المؤسسات المدنية،
بما في ذلك أي مؤسسة رقابية أو شرطة مدنية أو أي قضاء مدني؛ والقبض على المخالفين
عن طريق الشرطة العسكرية، وقد تصل عقوبتهم للسجن العسكري.
والقرار يزعم "أن
هذا لا يعني أن أيّا من أفراد القوات المسلحة فوق القانون، إنما ينظم القضاء
العسكري المساءلة الخاصة بهم".
وأشار القرار إلى
أن "المؤسسة العسكرية لا تخضع لقانون الطوارئ عند إعلان حالة الطوارئ في البلاد؛
حيث إن حالة الطوارئ تعطي الحق بالقبض على أي شخص أيّا كان منصبه، سواء كان الشخص
يتبع مؤسسة رقابية أو مجلسا نيابيا أو وزيرا أو بالقضاء المدني أو بالشرطة
المدنية، بينما لا يخضع السادة الضباط والأفراد (بالجيش) لقانون الطوارئ.
وتابع: "لا
يحق لأي مؤسسة رقابية أو شرطة مدنية أو أي قضاء مدني التعارض (التعرّض له بأي شكل
من المضايقات) مع السادة الضباط والأفراد، ولا يخول لأي جهة حتى بالأجهزة الرقابية
أو شرطة مدنية أو أي قضاء مدني مُخالفة ذلك، والإلزام بتسهيل عمل السادة الضباط
والأفراد، وفي المخالفة لهذه القوانين يحق لصاحب الصفة العسكرية أن يُقاضي المخالف
في هذه المؤسسات أو الشرطة المدنية أو القضاء المدني، والقبض عليه فورا عن طريق الشرطة
العسكرية، وقد تصل العقوبة إلى سجنه مباشرة بالسجن العسكري نصا صريحا".
وجاء في القرار
أيضا: "لا يحق لأي مؤسسة رقابية أو شرطة مدنية أو أي قضاء مدني تفتيش ممتلكات
السادة الضباط والأفراد، ولا يخول لأي جهة التصديق لهم بفعل السالف ذكره (يعني لا يجوز
للنيابة العامة التصريح بتفتيش بيت أو سيارة ضابط)، وفي مخالفة ذلك يحق لصاحب الصفة
العسكرية أن يقاضي المخالف في هذه المؤسسة أو الشرطة المدنية أو القضاء المدني،
والقبض عليه عن طريق الشرطة العسكرية، وقد تصل العقوبة إلى سجنه مباشرة بالسجن
العسكري نصا صريحا".
ولفت القرار
العسكري إلى أن "المتقاعدين من القوات المسلحة تابعون للقضاء المدني، إلا
الضباط الحاملين لرتبة العقيد والعميد واللواء؛ فهم يتمتعون بما يتمتع به الضباط
في الخدمة هم وذوهم".
ووفق القرار
ذاته، "يلتزم أفراد الشرطة المدنية بتسهيل عمل كل مَن يحمل الصفة العسكرية في
أي وقت، ويُعاقب كل مَن يخالف ذلك عقابا رادعا وفوريا".
ونص القرار أيضا
على أن "السادة الضباط والأفراد العسكريين يغلب عليهم روح الضبط والربط،
كذلك، فإن العسكريين يستحوذون على قدر كبير من المعلومات التي تتعلق بالأمن
الداخلي والعام، ولذلك خُصّص لهم أسلوب معين من المعاملة وتخصيص قوانين تتلاءم
معهم".
ونوّه القرار
العسكري إلى أن "زوجات وأولاد السادة الضباط والأفراد، بالإضافة إلى الأب
والأم، يتمتعون بما يتمتع به السادة الضباط طبقا للبنود السالف ذكرها".
كما أن السيسي منذ
انقلابه المشؤوم، أطاح بجميع أعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذين كانوا
موجودين وقت الانقلاب على الرئيس الراحل محمد مرسي في صيف 2013؛ فلم يتبق من
هؤلاء الأعضاء سوى أسامة عسكر وممدوح شاهين، حيث إن السيسي يُجري كل فترة حركة
تغييرات تشمل عددا من كبار قادة الجيش، ليصبحوا بموجبها خارج تشكيل المجلس
العسكري، وفي الوقت ذاته يتم تعيين بعضهم في وظائف استشارية أو فنية أو حكومية لا
قيمة أو تأثير لها على الإطلاق داخل المؤسسة العسكرية، فيتم تعيين بعضهم مساعدين
لوزير الدفاع أو مستشارين عسكريين للسيسي أو محافظين أو وزراء بالحكومة.
لقد أغدق السيسي
ذهب المعز على جميع أفراد الجيش وعائلاتهم ووالديهم، فحولهم إلى طبقة فوق القانون،
وتعامل وفق قوانين خاصة، حتى عندما قام ضابط جيش بدهس عائلة كاملة في عمل إرهابي
واضح فقتل وأصاب، لم تجرؤ وسيلة إعلام واحدة على نشر اسمه أو صورته بشكل رسمي، وهو
يحاكم عسكريا على خلاف مبدأ القاضي الطبيعي، ورغم أنه ارتكب جريمته في حي مدني وهو
يقود سيارة مدنية وقتل وأصاب مدنيين، بسبب تعهدات السيسي لهم؛ سأجعلكم طبقة فوق
المصريين، سأفتح لكم خزائن المعز لتغرفوا منها، ولكن لا يحق لأحد منكم منافستي، وأنا من سأسمح أو أمنع من يتقلدون الوظائف في البلاد.
أما المدنيون، فهم
يُسحقون وتصادر أموالهم ويُسجنون وتلطخ سمعتهم ويوضعون على قوائم الإرهاب، فلا خوف
منهم.
واليوم وكما تم
البدء في 2013 بعزل الإسلاميين المنتخبين، انتهينا الآن بعزل باقي السياسيين من
مختلف التيارات ومعنا أيضا العسكريون. فبعد عشر سنوات من الانقلاب، كلنا في
القمع
شعب؛ فبات الجميع تحت القمع "إيد واحدة".