لقد فوجئ الناس، بمن فيهم الشاغلون في وسائط الإعلام، بالزيارة الخاطفة التي قام بها يوم الأحد الماضي وفدٌ أوروبي رفيع، ضمّ رئيسة المفوّضية الأوروبية أورسولا فون ديرلاين، ورئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني، ونظيرها الهولندي مارك روتِه. وقد تخلّلت الزيارة حفلة تصوير في حديقة قصر الرئاسة
التونسية في قرطاج على خلفية خضراء وزرقاء بلون الحديقة المشرفة على البحر. وتُظهر الصور الوفد الأوروبي مبتسماً، بينما تبدو ميلوني وكأنها تداعب الرئيس التونسي قيس سعيّد لتتمكّن من استخراج ابتسامة نادرة من رجل اعتاد على التزام جمود الأصنام. وكانت ميلوني قد زارت الرئيس التونسي قبل مجيء الوفد بأيام قليلة كي تمهّد لما تم الإعلان عنه خلال الزيارة.
ومما يزيد في المفاجأة أن الإعلام الغربي امتلأ خلال السنتين الأخيرتين بانتقادات لاذعة لإجراءات الرئيس التونسي التعسّفية، بما فيها زجّه لراشد الغنّوشي في السجن بحجج واهية (بالمناسبة، من الملفت أن الذين يرون في نقد الإعلام الغربي لطعن الرئيس التركي أردوغان بالحريات في بلده موقفاً «غربياً» لا يمت بصلة إلى الديمقراطية، لا يقولون الشيء ذاته في نقد الإعلام الغربي لسعيّد). طبعاً، أن تكون ميلوني مرتاحة إلى تعاملها مع رئيسٍ تونسي سلطوي ليس بالمستغرب على الإطلاق، بل هو أمرٌ طبيعي للغاية، إذ إن رئيسة الوزراء الإيطالية زعيمة حزب ينتسب إلى تراث الفاشية ويفتخر بمؤسسها موسوليني. أما أن يسير ممثلو الاتحاد الأوروبي في ركابها، فأمرٌ قد يبدو مستغرباً لوهلة أولى، لكنّ الضباب ينقشع بسرعة عند النظر في سبب الزيارة وحيثياتها.
فإن ميلوني بجذورها الفاشية لا تختلف كثيراً عن اليمين الأوروبي المحافظ والليبرالي الذي يمثّله فون ديرلاين وروتِه في صدد القضية التي تسببت بالزيارة، ألا وهي قضية الهجرة من المغرب وأفريقيا جنوب الصحراء إلى دول الاتحاد الأوروبي. فإن جملة تيارات اليمين الأوروبي من اليمين الأقصى إلى المحافظ والوسطي، بل وبعض جماعات التيار الاشتراكي الديمقراطي، ملتقية على البحث عن طرق لصدّ موجة الهجرة، لاسيما أن الرحيل إلى أوروبا من شتى أنحاء أفريقيا مروراً بليبيا أو تونس، فضلاً عن الهجرة التونسية بالذات، عبر البحر الأبيض المتوسط، بات المصدر الأهم للمهاجرين الباحثين عن اللجوء أو العمل أو الإثنين معاً، بعد أن انخفضت كثافة اللجوء الآسيوي القادم من الشرق عبر تركيا أو مياه شرقي المتوسط.
والحال أن
إيطاليا هي التي يصل إليها أولاً أغلب المهاجرين، وذلك بحكم الجغرافيا، وعلى الأخص جزرها القريبة من شواطئ الشمال الأفريقي، ولاسيما صقلية القريبة من تونس، ولنبذوشة (لامبيدوزا) الأقرب بعد والتي يتركّز فيها المهاجرون واللاجئون القادمون عبر البحر. وقد ازداد عدد الوافدين من أفريقيا إلى الأراضي الإيطالية سبعة أضعاف خلال الأشهر الخمسة الأولى من العام الجاري بالمقارنة بالعام السابق، فبلغ 26.500. هذا وقد شكّلت قضية الهجرة أولوية ميلوني السياسية كما يليق بزعيمة سياسية تنتمي إلى أقصى اليمين، خاضت حملتها الانتخابية بالتحريض ضد المهاجرين واللاجئين.
وقد حصلت من الاتحاد الأوروبي على قرار بتفعيل تقاسم الوافدين بين الدول الأوروبية، لكن أيضاً على قرار أهم بالسماح بإرجاع الوافدين قسراً إلى البلدان التي أتوا منها أو غيرها، شرط أن تكون «آمنة».
ويندرج تودّد ميلوني لسعيّد في إطار المساعي الحثيثة التي تبذلها من أجل أن يقدّم الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي قروضاً ومساعدات عاجلة لتونس تداركاً للانهيار الاقتصادي الذي يهدّدها، وذلك ليس عطفاً على أهل تونس بالطبع، بل خشية من أن يتدفّقوا على الشواطئ الإيطالية بنتيجة الانهيار كما وأن تغدو تونس بلداً غير آمن، لا يجوز قانونياً إرجاع طالبي اللجوء إليه حتى ولو كانوا من حاملي جنسيته. ومن المؤكد أن ما حدا سائر الاتحاد الأوروبي على مواكبة ميلوني في مسعاها، وحدا فون ديرلاين وروتِه على مرافقتها إلى قصر قرطاج وإعلان الثلاثة نيتهم مساعدة تونس اقتصادياً، إنما هو هلعهم من الوصول المرتقب عبر البحر المتوسط لموجات الهاربين من حرب السودان طلباً للجوء في أوروبا.
فهم يراهنون على الرئيس التونسي كي يتعاون معهم في إعادة المهاجرين الأفارقة إلى تونس، ومنها إلى بلدان جنوب الصحراء التي أتوا منها أصلاً أو مرّوا عبر أراضيها. وقد أعطى قيس سعيّد ضمانات في هذا الصدد بالخطاب المدوّي الذي ألقاه قبل أربعة شهور، حاملاً على المهاجرين من أفريقيا السوداء ومتهماً إياهم بالتآمر على تغيير تركيب تونس السكاني، بكلمات لا تختلف البتة عن خطابات أقصى اليمين الأوروبي الذي تنتمي إليه ميلوني.
هذا وقد نعت رئيسة الوزراء الإيطالية بحرارة قبل أيام سلفها في المنصب وحليفها اليميني المتشدّد سيلفيو برلسكوني، الذي سبقها على الدرب ذاتها عندما أبرم في عام 2008 اتفاقاً مشيناً مع دكتاتور عربي آخر هو معمّر القذّافي. قضى ذلك الاتفاق بأن تقوم إيطاليا إزاء الوافدين بحراً إلى سواحلها من الشاطئ الليبي، بإرجاعهم قسراً إليه على أن يتولّى الحكم الليبي طردهم إلى جنوب الصحراء.
وقد أفلح الاتفاق بحيث انخفض عدد الوافدين من القارة الأفريقية إلى إيطاليا براً من 36.000 في عام 2008 إلى 4.300 بعد سنتين. في حينه، أدانه بشدة مفوّض الأمم المتحدة السامي لشؤون اللاجئين، أنطونيو غوتيريش، الذي تولّى ذلك المنصب بين عامي 2005 و2015، قبل أن يتم انتخابه أميناً عاماً للأمم المتحدة وأن يتولّى هذا المنصب الأخير بدءاً من عام 2017.
(
القدس العربي)