لا يترك الرئيس
التونسي قيس سعيّد فرصة إلا يؤكد أن الحريات مصانة في بلده وأن لا وجود لأي صحافي اعتقل من أجل آرائه، كما أنه لا يترك فرصة إلا ويؤكد كذلك أنه لا يتدخل في القضاء أبدا، لكن يشاء ربك أن تأتي الأحداث متلاحقة لتنسف التأكيدين معا.
لنبدأ بالتأكيد الأول فقد مثل أول أمس الصحافيان بإذاعة موزاييك الخاصة، التي يقبع مديرها في السجن منذ زهاء المائة يوم، إلياس الغربي وهيثم المكّي للتحقيق أمام إدارة خاصة بالبحث في القضايا الإجرامية في قضية رفعتها ضدهما نقابة لقوات الأمن الداخلي، وقبلهما مثل للتحقيق كذلك الصحافيان محمد بوغلاب ومنية العرفاوي في قضيتين منفصلتين رفعها ضدهما وزير الشؤون الدينية، وقبله سجن الصحافي صالح عطية بعد مشاركة تلفزيونية، دون أن ننسى الحكم «التاريخي» غير المسبوق الذي أصدرته محكمة تونسية وفقا لقانون مكافحة الإرهاب على الصحافي خليفة القاسمي لنشره خبرا استقاه من مصدر أمني رفض الكشف عن مصدره، فضلا عن الملاحقة أو الإيقاف أو أحكام السجن التي لحقت بالبعض بسبب تدوينات على «فيسبوك».
ها قد عادت إذا أجواء خوف خالها
الصحافيون ولّت وانقضت ما سمح للرقابة الذاتية المقيتة أو الصمت الأكثر مقتا أن يتسللا من جديد، مع أن ذلك لم يمنع وجود أصوات لم تخضع رافعة أصواتها بكل شجاعة، في حراك لعبت نقابة الصحافيين دورا محمودا في احتضانه، يندد بكل ما سبق ولاسيما «المنشور 54» سيئ الصيت المتعلق بما سمي بالجرائم الإلكترونية.
أما التأكيد الثاني، فمنذ اليوم الأول لحل سعيّد المجلس الأعلى للقضاء في فبراير /شباط من العام الماضي صرّح أنه «لن يتدخل في القضاء أبدًا» ثم كرّر ذلك في أكثر من مناسبة آخرها عندما ندّد بإيقاف طالبين بسبب أغنية هزلية قصيرة على مواقع التواصل تنتقد ممارسات بوليسية معينة فإذا بهذين الشابين يُطلق سراحهما بعد ساعات فقط من هذا التصريح الذي قال فيه مرة أخرى إنه لا يتدخل في القضاء، ولكنه «لا يريد أن يظلم أحد في هذه البلاد». أدرك هذا القضاء فجأة حجم هذا الظلم فقط بعد دعوة سعيّد «القضاة الشرفاء» أن يتصدوا لمثل هذه التجاوزات» مما فضح «قضاء التعليمات» كما يسمى في تونس.
وإذا كان الأمر على هذا النحو في قضايا «صغيرة» كهذه فما بالك بالقضايا «الكبرى» كتلك التي تتعلق بما سمي «التآمر على أمن الدولة الداخلي والخارجي» والتي اعتقل فيها عدد كبير من المعارضين، دون أدلة دامغة أو حتى بسيطة، مما دعا المحامي العيّاشي الهمامي، وزير حقوق الإنسان السابق ورئيس الهيئة الوطنية للدفاع عن الحريات والديمقراطية، وهو بدوره ملاحق بالمناسبة، إلى القول صراحة إن قاضي التحقيق في قضية التآمر هذه «غير مستقل، فهو ينفّذ تعليمات وزيرة العدل التي تنفّذ بدورها تعليمات رئيس الجمهورية» مؤكدا أنه يوجد فعلا في البلاد «قضاة مستقلون لكنّ الهيكلة القضائية هيمن عليها قيس سعيّد».
ويأتي هذا الجو القضائي الخانق في وقت لا أحد يدري فيه متى ستعلن القائمة السنوية لحركة التعيينات المختلفة للقضاة، خاصة مع الفراغ الكبير الذي أحدثه سعيّد بعزل أكثر من خمسين من كبار القضاة والذي أوقفته المحكمة الإدارية لكن قرارها رفضت وزيرة العدل تنفيذه، وهي القاضية السابقة!! وتقول الأوساط الحقوقية في تونس إن تأخر الإعلان عن هذه التسميات تعود إلى أنه من السهل في الظروف الحالية التحكّم في القضاة المعوّضين لزملائهم الغائبين المعزولين، وإنه حتى إذا صدرت تعيينات قضائية جديدة تتجاهل المعزولين فإن لا شيء يضمن ألا يتمرّد الجدد على تعليمات السلطة السياسية، أو أن تثير هذه التعيينات تحركات احتجاجية في قطاع في حالة تململ أصلا، خاصة في ضوء ما حدث حتى داخل مجلس الأعلى للقضاء الذي عيّن سعيّد أعضاءه بنفسه بعد حل المجلس الشرعي المنتخب. طبعا، عملية الفرز بين القضاة «الشرفاء» وغيرهم ليست سهلة وتستغرق وقتا، لذا فمن الأفضل، كما ارتأت على الأرجح السلطة السياسية، التمهّل وعدم المجازفة، مع أن بعض المناصب ظلت شاغرة إلى الآن رغم أهميتها مثل منصب «وكيل الجمهورية» (النائب العام) في العاصمة.
يتزامن كل ما سبق مع ما يمكن تسميته «صحوة» لدى بعض الشخصيات الهامة ممّن أيدت مسار الرئيس في بداية انقلابه على الدستور مساء 25 يوليو/ تموز 2021 لكنها اليوم وجدت الشجاعة للاعتراف علنا بخطئها بكل وضوح. من بين هؤلاء مثلا، الشخصية الصحافية والسياسية المخضرمة عمر صحابو الذي قال إن «الرجوع إلى الحق فضيلة» وأن سعيّد، رغم خصاله الشخصية «بعيد جدا عن المستوى الأدنى لرئيس دولة» فيما قال نبيل حجي الأمين العام لحزب «التيار الديمقراطي» إن الحسابات السياسية هي التي حالت دون الذهاب الفوري والجماعي لكل نواب مجلس الشعب للاحتجاج أمامه بعد غلقه بدبابة، تاركين راشد الغنوشي رئيس البرلمان وحده في هذا الموقف مع نائبته سميرة الشواشي.
(عن جريدة القدس العربي)