اختلفت آراء الفرق الإسلامية في مسألة خلق أفعال العباد، وهي مسألة
تتمحور حول حرية الإنسان واختياراته وقدرته على الفعل، فالمعتزلة يعتقدون أن
الإنسان خالق أفعاله، وأن له قدرة وإرادة مستقلة، والجبرية المحضة قالوا إن الله
خالق أفعال العباد، والإنسان مجبور على أفعاله، وليس له من الأمر شيء، وليس له
قدرة وإرادة مستقلة، فما رأي الأشاعرة في تلك المسألة الشائكة؟
من المعروف أن الأشاعرة خالفوا المعتزلة في كثير من القضايا والمسائل
العقدية، ومن ضمنها مسألة خلق أفعال العباد، فالأشاعرة يقولون بأن الله خالق كل
شيء، ومن ضمنها أفعال العباد، لكنهم لم يرتضوا في الوقت نفسه ما ذهبت إليه الجبرية
المحضة، في اعتقادهم أن الإنسان مجبور على أفعاله، بل جاؤوا بما أسموه
بـ"نظرية الكسب".. فما هو مضمون تلك النظرية؟ وما هي الوجوه التي خالفوا بها
الجبرية المحضة؟ ولماذا كَثر منتقدوها؟
ووفقا لباحثين فإن نظرية الكسب عند الأشاعرة من المقولات الشائكة
والمعقدة، وترِد عليها اعتراضات وإشكالات كثيرة، وخلاصة ما يعتقده الأشاعرة، بحسب
مراجعهم المعتمدة فإن "أفعال العباد الاختيارية واقعة بقدرة الله تعالى وحدها،
وليس لقدرة العباد تأثير فيها، بل إن الله سبحانه أجرى عادته بأن يوجد في العبد قدرة
واختيارا، والكسب عندهم كما يقرره أبو الحسن الأشعري يتمثل في أن الفعل يقع من العبد
بقوة محدثة".
ويخلص أبو عبد الله السنوسي، أحد أئمة الأشاعرة إلى تقرير أنه
"لا أثر لقدرتنا في شيء من أفعالنا الاختيارية، كحركتنا، وقيامنا، وقعودنا،
ومشينا، ونحوها، بل إن جميع ذلك مخلوق لمولانا جل وعز بلا واسطة، وقدرتنا أيضا مثل
ذلك: عرض مخلوق لمولانا جل وعز تقارن تلك الأفعال الاختيارية، وتتعلق بها من غير
تأثير لها في شيء من ذلك أصلا، وإنما أجرى الله تعالى العادة أن يخلق عند تلك
القدرة لا بها ما شاء من الأفعال.".
من الواضح أن الأشاعرة أرادوا التوسط بين ما ذهب إليه المعتزلة في
قولهم إن العباد يخلقون أفعالهم، وقول الجبرية الذين يعتقدون أن الله تعالى هو
خالق أفعال العباد، وهم مجبرون على أفعالهم تلك، لكن توجه الأشاعرة في التوسط بين
القولين، بابتداعهم لنظرية الكسب، أثار عليهم اعتراضات وانتقادات كثيرة، فالمعتزلة
شنعوا على الأشاعرة، لأنهم نفوا عن العبد القدرة المؤثرة، لذا فإن المعتزلة رأوا
أن الأشاعرة لم يبتعدوا كثيرا عن مقولات الجبرية في نفي القدرة المؤثرة عن العباد.
ودافع الدكتور صلاح الدين الإدلبي في كتابه (عقائد الأشاعرة.. في
حوار هادئ مع شبهات المناوئين) عن نظرية الكسب عند الأشاعرة في رده على الدكتور
سفر الحوالي في وصفه لفرقة الأشاعرة بأنها تنفي أي قدرة للعبد أو تأثير بالتأكيد على أن
"الأشاعرة لا ينفون عن العبد القدرة، وينفون التأثير، فالله أعطى العبد إرادة
يوجهها باختياره إلى ما يريد فعله، وقدرة يفعل بها، ولكن العبد لا يخلق الفعل،
وخالق أفعال العباد هو الله تبارك وتعالى.".
وأوضح الإدلبي أن "الأشاعرة يردون مذهب الجبريين الذين يزعمون
أن الإنسان مجبر على ما يفعله وأن القضاء والقدر لا يترك للإنسان اختيارا، ويردون
مذهب القدرية الذين يزعمون أن الإنسان يخلق أفعاله الاختيارية بقدرة أودعها الله
فيه وينفون القدر، لمخالفة هذين المذهبين للآيات القرآنية والأحاديث النبوية،
ويقول الأشاعرة: إن الإنسان ليس مجبرا على ما يفعله، وليس خالقا له، وأنه مكتسب
لأفعاله الاختيارية، وأن سر القدر لا يعلمه إلا الله تعالى.".
وتفسيرا لنشأة مقولة الكسب عند أبي الحسن الأشعري، رأى الباحث في
العلوم الشرعية، الدكتور سعد الشيخ، أن الأشعري، مؤسس المذهب "كان يتوجس -
كأي متحوّل لا يحافظ على توازنه العلمي - يتوجس من كل مقالة في مذهبه القديم -
حينما كان معتزليا - ويبالغ في مخالفتها حدّ الخروج عن الاعتدال أحيانا؛ لإثبات
صدق توبته وقطيعته مع كل ما يربطه بأفكاره السابقة، ومفهوم الكسب واحد من تلك
المسائل التي بالغ أبو الحسن في مخالفة مدرسته السابقة (المعتزلة) حتى صار أقرب
إلى الجهة المقابلة في الغلو".
سعد الشيخ، باحث في العلوم الشرعية
وأضاف أن "من الأهمية بمكان لفت الانتباه إلى وجود مذهب ثالث في
مقابل مذهبي المعتزلة (العباد يخلقون أفعالهم)، والجهمية (العباد مجبورون على
أفعالهم)، ألا وهو أن الله خالق أفعال العباد، وهي فعل لهم حقيقة، وهذا القول هو
قول أهل السنة والجماعة" وفق الباحث الشيخ الذي تساءل "أين موقع
الأشاعرة من هذه المقالات؟".
وواصل حديثه لـ
"عربي21" بالقول: "وافق الأشاعرة أهل
السنة في قولهم؛ إن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى، وبهذا الأصل خالفوا المعتزلة
القائلين بأن الله لا يخلق أفعال العباد بل هم الخالقون لها، لكنهم في جانب تعلق
أفعال العباد بهم، ومدى تعلق قدرتهم بإيجاد أفعالهم، أحدثوا قولا غريبا قربهم إلى
الجبرية، وجعل انتسابهم إلى أهل السنة صوريا، وهو قولهم بنفي تأثير قدرة العبد على
إيجاد الفعل، وأن الذي يوجد الفعل حقيقة هو الله، أما العبد فليس له إلا
الكسب".
وأردف قائلا: "وفسروه بأنه عبارة عن اقتران المقدور بالقدرة الحادثة،
وأما الخلق فهو المقدور بالقدرة القديمة، وعند اقتران القدرتين القديمة والحادثة
يوجد الفعل من غير أن يكون لقدرة العبد مدخل في وجوده، فالتأثير عندهم هو هذا
الاقتران الحاصل بين القدرتين، يوضح ذلك قولهم ’إن الله أجرى عادته بأن يوجد
في العبد قدرة واختيارا، فإذا لم يكن هناك مانع أوجد فيه فعله المقدور مقارنا
لهما، فيكون الفعل مخلوقا لله إبداعا وإحداثا، ومكسوبا للعبد، والمراد بكسبه إياه:
مقارنته وإرادته من غير أن يكون له تأثير أو مدخل في وجوده سوى كونه محلا
له‘ ".
وأكمل موضحا: "وهكذا فالإنسان ليس إلا محلا لقدرة الله سبحانه، وهو وإن
كانت له قدرة ليست مسلوبة عنه كما تقول الجبرية، غير أنه لا مدخل لها في إيجاد
الفعل، فليست قدرة العبد هي التي توجد أفعاله، بل الله هو الذي يوجد أفعال
الإنسان، لكن هذه الأفعال لا توجد إلا بالاقتران بين القدرتين القديمة والحادثة،
هذا محصل مفهوم الكسب عندهم، ولدقته ومغالطته صار مضرب المثل في الاستحالة
الكلامية".
وأوضح الشيخ أن "الكسب الأشعري لا حقيقة له، لأنه ما دام العبد
ليس بفاعل، ولا قدرة مؤثرة له في الفعل، فالزعم أنه كاسب، وتسمية فعله كسبا، لا
حقيقة لها، لأن القائل بذلك لا يستطيع أن يوجد فرقا بين الفعل الذي نفاه عن العبد،
والكسب الذي أثبته له، وهذا القول هو الذي شنع بسببه المعتزلة عليهم، لأنهم لما لم
يثبتوا للعبد قدرة مؤثرة لم يكونوا بعيدين عن قول الجبرية الجهمية".
وتابع: "وهذه ليست مناكفة مذهبية بل هو واقع اعترف به بعض أعيان
الأشاعرة الكبار، لأنهم وإن خالفوا الجبرية لفظا فقد وافقوهم معنى، لأن قولهم بنفي
قدرة العبد على إيجاد الفعل حاصلة نفي قدرته الاختيارية أصلا، فأيّ فرق بين انتفاء
أصل القدرة ووجودها الصوري العاجز عن إيجاد الفعل، ولولا الممحاكات اللفظية
لأُلحقت الأشاعرة بصفوف الجبرية المحضة".
من جهته لفت الباحث في
الفكر الإسلامي، أحمد عادل إلى أن
"الدكتور محمد عمارة وصف مقولة "الكسب الأشعري" بأنها جبرية
متوسطة، فهم ليسوا جبرية محضة، تنفي قدرة العبد، وليسوا قدرية يثبتون للعبد قدرة
مستقلة لخلق الفعل، وللشيخ محمد الغزالي وجهة نظر بأن الخلاف ينبغي أن يتمحور حول ’هل الإنسان فاعل لفعله أم خالق له؟‘ ".
أحمد عادل.. باحث في الفكر الإسلامي
وأوضح عادل في حواره مع
"عربي21" أنه يمكن "اختصار رد
الأشاعرة على من انتقدهم في نظرية الكسب بأنهم ينفون الجبر المطلق، ولا ينفون إرادة
وقدرة الإنسان، ولكنها تبعا لمشيئة الله، ولا ينفون الأسباب، لكن ينفون حقيقة
إثبات التلازم بين السبب والمسبب، ومما يستدل به الأشاعرة أن التاريخ ينفي هذا
الاتهام فكثير من انتصارات التاريخ حققها الأشاعرة، ولم يتركوا التدبير والأخذ
بالأسباب كما زعم بعضهم".
وختم حديثه بالإشارة إلى أن "ما يستحق الدراسة والبحث إضافة
لمعرفة وبحث نظرية الكسب عند الأشاعرة، معرفة تطور المذهب في القضية، والتأثر
بكلام الغزالي عن التأثير في عصور التخلف والركود اللاحقة".