على جبهة أخرى من جبهات الهزيمة والانكسار التي يصمت عنها إعلام
العار
العربي يتسرّب كل يوم آلاف المهاجرين واللاجئين والهاربين من جحيم الأوطان
نحو الضفة الشمالية للمتوسط. النزيف لا يتوقف بل يتصاعد يوما بعد يوم بعد أن أحكم
الفساد قبضته على مستقبل أجيال الشباب الهارب نحو المجهول وقد أيقن أن الحياة صارت
مستحيلة على أرض الوطن.
تتعدد الأسباب وتختلف الدوافع، لكنّ النتيجة واحدة في كل الحالات
تقريبا وقد تحولت قرى بكاملها إلى موطن أشباح لا تجد فيها غير العجائز والشيوخ،
وهو أمر لا يقتصر على مناطق النزاعات والحروب والمواجهات المسلحة، بل إنه يمتدّ ليشمل
كل الدول العربية باستثناء منطقة الخليج.
كيف وصلت بلادنا إلى هذا النزيف؟ وهل من سبيل إلى إيقافه؟
الفساد والاستبداد
وجهان لقطعة نقدية واحدة بل لا يستقيم أمر أحدهما إلا بالآخر، فلا
يقوم الفساد إلا باستبداد يحرسه ويرعاه، ولا يقوى الاستبداد على الصمود والبقاء إلا
بترسيخ أركان الفساد وتدعيم بنيانه. على كامل الخريطة العربية تهيمن أنظمة عسكرية
أو أمنية غير منتخبة ولا تملك الحدّ الأدنى من الشرعية الشعبية وهو ما يعفيها من
المساءلة والمحاسبة ويطلق يدها في المال العام وثروات البلاد دون حسيب أو رقيب.
فأغلب الدول الطاردة لشبابها دول غنية سواء في مصر مثلا أو في المغرب
العربي، حيث مركز النزيف فهي دول تسبح على مخزون هائل من الثروات الطبيعية
والبشرية. لكنّ تعاقب الأنظمة الاستبدادية والعسكرية فيها أدى إلى استنزاف خيراتها
وإلى نهب عصب التنمية وخلق مواطن الشغل على مدار عقود طويلة انتهت بإفلاس غير معلن
لكثير من هذه الدول.
على كامل الخريطة العربية تهيمن أنظمة عسكرية أو أمنية غير منتخبة ولا تملك الحدّ الأدنى من الشرعية الشعبية وهو ما يعفيها من المساءلة والمحاسبة ويطلق يدها في المال العام وثروات البلاد دون حسيب أو رقيب.
من جهة أخرى شكّلت الأنظمة الحاكمة شبكة حارسة لمصالح شركات
الاستنزاف الغربية التي صنعت نسيجا من رجال الأعمال والشركات العابرة للحدود من
أجل إبقاء هذه الدول حديقة خلفية تتزود منها بالمواد الأولية والطاقية بأسعار
زهيدة عبر الوكلاء المحليين. على جبهة مغايرة فشلت النخب المالية والاقتصادية
العربية في وضع الأسس الدنيا لاقتصاد وطني قادر على امتصاص البطالة وتشغيل آلاف
الشباب الذين يتخرجون سنويا من الجامعات.
إن الفساد السياسي الذي يحرسه الفساد المالي والاقتصادي والقانوني هي
الأسس التي خلقت حالة النزيف البشري في
المجتمعات العربية.
الهجرة والتوطين
الأخطر في مسارات هذا النزيف البشري أنه يستهدف أهم القوى والطاقات
الحية في البلاد لأن أغلب من اختاروا الهروب من الأوطان هم من الشباب الباحث عن
فرص للعيش الكريم افتقدها في وطنه. على الضفة الأخرى شكّلت أمواج المهاجرين فرصة
تاريخية للاقتصادات الغربية لتُحيي نسيجها البشري بعد أن ضربت الشيخوخة معظم
مجتمعاتها. لقد أمدتها الضفة الأخرى للمتوسط بطاقات جبارة من الخبرات والأطباء
والباحثين والمهندسين والتقنيين دون أن تصرف هذه الدول مليما واحدا في تكوينهم.
لكنّ الطاقات الأبرز والأهم هي تلك اليد العاملة الرخيصة التي شكّلت
الجزء الأكبر من موجات المهاجرين وهي قوى عاملة مجتهدة تشكل طاقة استهلاكية ضرورية
للمجتمعات الرأسمالية. إلى جانب ذلك تتميز هذه الفئات بخصوبة كبيرة وقدرة إنجابية
هامة تحتاجها الدول الغربية لتجديد نسيجها الاجتماعي المتهرم.
ليست هذه الهجرة خيارا ظرفيا مثلما جرت على ذلك العادة في القديم بل
هي أشبه باستبدال وطن بوطن جديد لأن الأجيال التي هاجرت منذ منتصف القرن الماضي
إلى الدول الغربية بشكل عام لم يعد منها أحد تقريبا إلا في حالات نادرة. لقد أدركت
هذه الأجيال متأخرة أن قرار العودة لم يعد ممكنا سواء بسبب الجيل الجديد من
أبنائهم أو بسبب تدهور الوضع في بلدهم الأم. هي إذن أشبه بمصيدة محكمة الصياغة
وقعت فيها أجيال من العرب والمسلمين لم يكن لهم خيار آخر بعد أن سدّ الفساد
والاستبداد كل فرص العودة والرجوع.
كان الجميع يعتقد أن خروجه مسألة ظرفية وأنه سيعود يوما إلى وطنه
ومرتع صباه لكنه أدرك متأخرا أن الخروج كان خروجا بلا عودة وأن الحلقة قد أغلقت
بشكل نهائي.
مخرج النفق
من المؤلم الاستنتاج والقول بأن مسألة الهجرة سواء كانت إجبارية أو
اختيارية من بلاد العرب نحو الغرب لا تنفك تتفاقم يوما بعد يوم خاصة بعد ظهور
أمواج الهجرة غير الشرعية عبر قوارب الموت. لقد تحولت مدن وقرى إلى أحياء فارغة لا
تكاد تظفر فيها بشباب متجمعين بل حتى إن ظفرت بهم فلن يحدثوك إلا عن مشاريعهم في
الهجرة خارج حدود الوطن.
لقد تحولت مدن وقرى إلى أحياء فارغة لا تكاد تظفر فيها بشباب متجمعين بل حتى إن ظفرت بهم فلن يحدثوك إلا عن مشاريعهم في الهجرة خارج حدود الوطن.
أما الأنظمة التي تشارك عن قصد في هذه الجريمة فإنها تحقق عبرها
أرباحا طائلة فهي من ناحية أولى تتخلص من آلاف طالبي الشغل وتحصل من جهة ثانية على
الملايين من العملة الصعبة من الأموال التي يرسلها هؤلاء المهاجرون إلى عائلاتهم
فضلا عن العمولات التي تحصل عليها مباشرة من الدول الغربية.
بناء على ما تقدم فإن النزيف القائم لن يتوقف ما لم تتوقف حالة
الاستبداد والفساد التي تهيمن على البلاد العربية. إن بقاء النظام الرسمي الإقليمي
على هذه الحالة من القمع والانغلاق ومصادرة الحريات ونهب الثروات سيؤدي في النهاية
إلى سقوط مجتمعات بأكملها بسبب ضياع العنصر البشري. أضف إلى ذلك أن ضعف المجتمعات
وفساد الأنظمة سيؤدي إلى موجات هجرة مضادة مثلما حدث مؤخرا في تونس والجزائر
والمغرب وليبيا مع زحف المهاجرين جنوب الصحراء.