من بين أهم المقولات العاملة في مجال الوعي السياسي
العربي سواء في
السلطة أو في المجتمع نرصد واحدة من أخطر المقولات الوظيفية ذات القيمة الإجرائية
القادرة على تضليل وعي المتلقي. هذه المقولة تتأسس في الأصل على حقيقة مفادها أنّ
سبب الهوان والتخلف العربي إنما مصدره الوحيد العدو الخارجي والمؤامرة الخارجية
على الشعوب والبلدان العربية.
المقولة ليست خاطئة في أصل نشأتها لأنها تعتمد على معطيين أساسيين:
أما الأول فيتمثل في المعطى التاريخي المبني على الماضي الاستعماري للقوى الخارجية
خاصة الغربية منها في البلاد العربية وهي التي رسمت حدود سايكس بيكو ومنعت نهضة
الأمة وارتكبت أبشع الجرائم فيها. ويتلخص المعطى الثاني في الحضور الطاغي للفاعل
الخارجي في مسارات دول المنطقة عبر دعم الدكتاتوريات وهندسة الانقلابات واختراق
الاقتصاد وصولا إلى الغزو العسكري مثلما حدث في العراق خلال السنوات الأخيرة.
السؤال هو: كيف استغلت الأنظمة العربية وأذرعها الإعلامية والدعائية
هذا المعطى في سبيل ترسيخ وعي معين يغيّب حقيقة الصراع وأدواته؟ هل من سبيل إلى
تفكيك الزيف المحيط بهذا المعطى؟ وما هي الخلفيات الحقيقية وراء هذا التوظيف؟
حق أريد به باطل
إن ما يميز صورة العدو الخارجي في
الخطاب السياسي الرسمي العربي أنه
كيان هلامي لا يملك حدودا معلومة ولا أوصافا واضحة يمكن بها تمييزه عن غيره من
الكيانات الحركية. فهو مرة الماسونية ومرة الإمبريالية وتارة حلف النيتو وطورا
الصهيونية العالمية إلى غيرها من الأجسام العدوانية التي يصورها هذا الخطاب سببا
في تخلف شعوب المنطقة وتأخرها.
صحيح أن هذه المكونات باختلاف أوجهها وخلفياتها كيانات توسعية سياسيا
وفكريا وحضاريا وحتى عسكريا فالفكر الصهيوني مثلا يمثل الركيزة التي تأسس عليها
كيان الاحتلال في فلسطين بعد أن نجح خلال قرون من العمل السري والعلني في إقناع
القوى الاستعمارية الغربية بتأسيس وطن لليهود على أرض فلسطين. صحيح أيضا أنّ حلف
شمال الأطلسي الذي يجمع الإمبراطوريات الأوروبية الاستعمارية القديمة إلى جانب
الولايات المتحدة حاضر بقوة في المجال العربي ويملك فيها نفوذا قويا وقواعد عسكرية
ووكلاء محليين.
إن القوى الأوروبية والكيانات المشار إليها أعلاه هي في الحقيقة فواعل تقوم بوظيفتها التوسعية التي يمليها مبدأ الصراع الذي هو قانون العلاقات بين الدول والشعوب والحضارات منذ فجر التاريخ.
لكن النظر إلى هذه المكونات من زاوية مغايرة يدفع إلى طرح جملة من
التساؤلات: فمنذ قرون سحيقة تمتد إلى الحروب الصليبية كانت حالة الصراع والتجاذب
بين الشرق والغرب هي القاعدة، وهو الأمر الذي تطور بعد ضعف الخلافة العثمانية حتى
تصفية إرثها بعد إسقاط الخلافة إلى خضوع كامل المشرق العربي خاصة إلى نفوذ هذه
القوى. إن مبدأ التوسع والبحث عن الأسواق ومصادر الطاقة والمواد الأولية وحتى اليد
العاملة الرخيصة (تجارة الرقيق) هو القاعدة وليس الاستثناء في العلاقة بين الشرق
والغرب وفي العلاقات الدولية بشكل عام.
بعبارة أخرى فإن القوى الأوروبية والكيانات المشار إليها أعلاه هي في
الحقيقة فواعل تقوم بوظيفتها التوسعية التي يمليها مبدأ الصراع الذي هو قانون
العلاقات بين الدول والشعوب والحضارات منذ فجر التاريخ. بناء عليه فإن كل الدول
بما فيها الدول الكبرى إنما تشكل مطمعا لقوى أخرى تبحث عن إضعافها وتفكيكها
والسيطرة عليها وعلى ثرواتها. إن الوعي بهذا القانون هو الذي أجبر الدول على
مضاعفة التصنيع العسكري وتطوير منظومات الدفاع والاستخبارات بما فيها السباق
المحموم للحصول على أسلحة الردع وعلى رأسها القنابل النووية. لا توجد دولة ولا شعب
ولا حضارة على الأرض ليس لها أعداء يتربصون بها ويريدون إسقاطها والسيطرة عليها.
إنه البحث الأزلي عن الثروة والسلطة والهيمنة وفرض المنوال الحضاري على الكيانات
الضعيفة عملا بمبدأ أن البقاء للأقوى دائما.
العدو الحقيقي في الداخل
عربيا نجحت السلطة الاستبدادية المحلية
في تعليق كل فشلها بما فيه قمعها للحريات والتضييق على الصحافة والرأي المخالف على
شماعة المؤامرة الخارجية التي تستهدف الوطن. الوطن في السردية الرسمية العربية هو
النظام والنظام هو الزعيم والزعيم هو الحاكم المطلق بأمره لا سلطة تراقبه ولا
برلمان يحدد عمله ولا قضاء يحاسبه.
قد نتفهّم سعي الحاكم إلى توظيف نظرية المؤامرة لصالح تثبيت حكمه
بالحديث المتكرر عن المتآمرين والخونة والكيانات الموازية ومراكز القوى والمندسين
والعملاء وأعوان الخارج. لكن الأمر لم يتوقف عند هذا الحدّ بل قفز إلى مستويات
أخطر بعد أن استلمت تيارات فكرية وسياسية هذا القناع من يد السلطة لتزيد من تثبيته
بإعادة توظيف مقولة العدو الخارجي.
في الخطاب اليساري مثلا تطغى شيطنة الامبريالية العالمية والنظام
العالمي الجديد والرأسمالية المتوحشة القادمة من وراء البحار لابتلاع الأوطان وسحق
الطبقة الشغيلة. لكن نفس هذه المدارس اليسارية إنما تأسست على مقولات غربية
واستلمت إطار عملها النظري من وراء البحار عبر الأطروحات الشيوعية وفلسفة الصراع
الطبقي وغيرها من المقولات المسقطة على المجال العربي إسقاطا.
إن تحميل الخارج كل أسباب التخلف والانهيار الداخلي يعفى الحاكم من مسؤولية المحاسبة ويوجه أنظار الجماهير إلى كيانات أجنبية بدل التركيز على مسؤولية الفواعل الداخلية في تمكين العدو الخارجي من السيطرة على الأوطان ونهب ثرواتها.
على واجهة أخرى أبدعت التيارات القومية والعروبية في مهاجمة
الصهيونية العالمية والقوى الامبريالية المتحكمة في مصير التقديمة العربية كما برز
ذلك جليا في خطابات الزعيم الخالد عبد الناصر والأخ القائد القذافي والرئيس
الضرورة حافظ الأسد والمهيب الركن صدام حسين. لكن هذا التيار العروبي لا يجد حرجا
في الاصطفاف إلى جانب المشروع الإيراني مثلا أو المشروع الروسي كما تجلى ذلك بوضوح
خلال موجات القمع والتقتيل التي صاحبت ثورات الربيع. بل إن الفكرة القومية نفسها
لم تكن في أصل نشأتها فكرة عربية بل كانت مشروعا بريطانيا مثل الجامعة العربية
لمحاربة البديل الإسلامي من جهة ولتسهيل القضاء على بقايا الخلافة العثمانية إبان
الحرب العالمية الأولى من جهة ثانية.
لم يشذ الإسلاميون بمختلف مدارسهم وتياراتهم عن هذه القاعدة فالغرب
الصليبي وبلاد الكفار هي العدو الأساسي للدين الإسلامي والمسلمين وهي مصدر كل
الشرور التي أدت بالأمة والجماعة إلى الحال التي هي عليها. لكن القمع الذي تعرضت
له الحركات الإسلامية في البلاد العربية خاصة قد دفع بقياداتها إلى اللجوء إلى دول
الغرب والاستقرار فيها دون أن يشكل ذلك حرجا في تطبيق المقولات المبدئية للحركات
الإسلامية.
إذا كانت السلطة العربية تستفيد من تصدير مشاكلها بوضعها على عاتق
الخارج فإن المعارضة ترتكب أبشع الجرائم بإنكارها أن أصل الداء وسبب التخلف إنما
يكمن في الداخل. إن تحميل الخارج كل أسباب التخلف والانهيار الداخلي يعفى الحاكم
من مسؤولية المحاسبة ويوجه أنظار الجماهير إلى كيانات أجنبية بدل التركيز على
مسؤولية الفواعل الداخلية في تمكين العدو الخارجي من السيطرة على الأوطان ونهب
ثرواتها.
بناء عليه فان تحويل بوصلة المسؤولية من عدو خارجي مطلق إلى مسؤول
داخلي محدد يشكل نقلة نوعية في كشف أساطير الاستبداد وتفكيك شفرتها ومن ثم في
إعادة بناء وعي شعبي يقطع مع شعارات التضليل والتزييف ويؤسس لبناء فهم أعمق وأصدق
لأسباب التخلف والهوان العربي.