كشف
الانقسام السياسي وجدل الشرعية عن مظهر جديد من مظاهر قبحهما بعد
انقسام الليبيين حول تحديد نهاية شهر رمضان الفضيل والإعلان عن أول أيام
العيد في
ليبيا، فقد
أعلنت دار الإفتاء في طرابلس أن الجمعة هو متمم شهر رمضان المبارك وأن العيد يوم السبت،
فيما قررت الأوقاف التابعة للحكومة الليبية في الشرق أن الجمعة هو أول أيام العيد.
استندت دار الإفتاء على عدم ثبوت الرؤية، ودافع من أيدها في ذلك استنادا على
الحساب الفلكي، فيما جاء إعلان أوقاف
الشرق استنادا على رؤية شهود، واستئناسا بموقف عديد الدول العربية التي في
مقدمتها المملكة السعودية.
انقسم الليبيون في شتى المناطق ما بين متبع لقرار دار الإفتاء
باعتبار أنها المعنية بتحديد دخول شهر رمضان والعيد والمدعومة من حكومة الوحدة
الوطنية، السلطة التنفيذية في المناطق الغربية، وبين آخذ بما ذهبت إليه الأوقاف في
الشرق، حتى إن الخلاف طال البيت الواحد، ليصوم بعض أفراده ويفطر الآخرون، وما لحق
ذلك من تجاذب مقيت، لهذا تكرر وصف ما وقع بـ"الفتنة".
غصت وسائل التواصل الاجتماعي بجدل كبير، وتنوع النقاش والخلاف نزوعا
إلى الاستدلال الفقهي ومسألة وسيلة تحديد دخول الشهر ما بين رؤية الهلال والحساب
الفلكي وأهلية الشهود وموقف المحاكم من تلك الشهادات، وموقف الصائم في المناطق
التي أخذت بقول أوقاف الشرق التي أعلنت أن الجمعة هو أول أيام عيد الفطر المبارك والأقوال
بوجوب اتباعه أهل منطقته أو التزامه بما يرى أنه الشرع والصواب، مرورا بسؤال
الشرعية والاختصاص المتعلق بالمؤسسات المعنية بتقرير دخول شهر رمضان وشهر شوال،
وهل هي دار الإفتاء أم الاوقاف أم هي المحكمة العليا.
الخطير أن الخلاف حول تحديد يوم العيد دلل على أن النزاع تغلغل في جسم المجتمع وبات يغذي بقوة الانقسام ويدفع كل يوم ومع كل واقعة خلافية باتجاه التقسيم من جهة، والصدام بين التيارين "الدينيين" من جهة أخرى، فالخلاف اليوم لا يدور بين اقطاب السياسة ومبرزي النخبة فقط، بل أصدائه تتسع لتعم أعداد كبيرة من أنصاف المثقفين و"العوام".
صحيح أن القناعات التي تستند إلى
رأي فقهي وتأخذ بالمصلحة الشرعية
كانت مؤثرة في تحديد موقف الكثير ممن عبروا عن آرائهم في الخلاف الذي وقع، لكن كان
الانقسام السياسي حاضرا بقوة، ولقد ظهر أن ما وقع العام 2014م من استقطاب واصطفاف
حاد ما يزال ماثلا وقد عبر عن نفسه في "فتنة" العيد، فجل من يرى أن دار
الإفتاء تمثل رأس حربة في مواجهة "الخصوم" لم يتردد في الأخذ بقرارها،
كما أنه لم يتوان من يرفضها في المسارعة بالأخذ بالرأي الآخر الذي تبنته أوقاف الشرق،
ينبئ عن ذلك حدة التراشق على وسائل التواصل الاجتماعي والذي لم يخلُ من السباب
والشتائم واستدعاء مواقف الأعوام الماضية التي شهدت خلافا حادا واعتقد كثيرون أنه
قد تلاشى أو تراجع.
تفكيك الانقسام يظهر للمراقب الاستقطاب الحاد بين "تيار"
دار الإفتاء و"التيار السلفي" وتحديدا أنصار الشيخ السعودي ربيع
المدخلي، فالأخير يرفض بشدة دار الإفتاء والمفتي ليس لأنهما منزوعا الشرعية بقرار
من الجهة المخولة بذلك فحسب، بل لأنهما على غير الجادة وبالتالي فهما ليسا مرجعين،
والمرجع هو الشيخ ربيع ومن على مذهبه، فيما يظهر أن السلفيين "المدخليين"
جاءوا بخيارات فقهية متشددة تخالف مذهب أهل البلد وهو المذهب المالكي. ولقد رأى الفريقان أن ما وقع سيكون اختبارا لنفوذ كل منهما وشعبيته، ويمكن اعتبار النزاع
على اعتلاء منبر خطبة العيد اليوم السبت في العاصمة طرابلس، وفي أكبر تجمع للمصلين
بها وهو ميدان الشهداء، تجسيدا لهذه الفرضية وتعبيرا عن هذا الاستقطاب، ذلك أن جُل
التيار السلفي اعتبروا أن الجمعة هو أول العيد، فما القصد أن يكونوا حاضرين في
صلاة العيد السبت وهو قول باطل عندهم إلا أن يكون الدافع هو المناكفة وإثبات
الوجود؟!
الخطير أن الخلاف حول تحديد يوم العيد دلل على أن النزاع تغلغل في جسم
المجتمع وبات يغذي بقوة الانقسام ويدفع كل يوم ومع كل واقعة خلافية باتجاه التقسيم
من جهة، والصدام بين التيارين "الدينيين" من جهة أخرى، فالخلاف اليوم لا
يدور بين أقطاب السياسة ومبرزي النخبة فقط، بل إن أصداءه تتسع لتعم أعدادا كبيرة من
أنصاف المثقفين و"العوام".