تتشابه الأوضاع بين
تونس ومصر في عديد المجالات، خاصة على الصعيد السياسي، ولعل الأسئلة التي طرحها عمرو موسى في جلسة افتتاح مؤتمر
الحوار الوطني، تعكس بوضوح
هذا القدر من التشابه والتقاطع. قال الأمين العام السابق لجامعة الدول العربية،
وهو يتحدث عن بلاده: "الناس في
مصر يشعرون بالكثير من القلق، ويتساءلون عن
السياسات المصرية، وعن الأزمات التي نواجهها، إنهم يخافون على مصير هذا البلد، مصر
تكون أو لا تكون. يتساءلون ماذا جرى وماذا يجري.. يتساءلون عن الاقتصاد وعن
الحريات وضماناتها، عن البرلمان وأدائه، وعن الأحزاب، وعن هروب الاستثمارات، عن
التضخم والأسعار.. عن مجانية التعليم وتناقضها مع جودته، عن مصير المحبوسين
احتياطيا.".
نكتفي بهذا القدر، ونقول لو غيّرنا المكان والجمهور والمتحدث، واستبدلنا
ذلك بقاعة المؤتمرات في تونس، واستمعنا لإحدى الشخصيات العامة، لاستمعنا لنفس
العبارات، ولاحظنا المشاغل ذاتها، ولتردد خطاب القلق والحيرة داخل القاعة وخارجها.
لن نخوض في الشأن المصري وخصوصيات الأوضاع هناك، ولكن نريد التوقف عند
زاوية معينة لافتة للنظر؛ فكلا البلدين وجد نفسه بعد الثورة التي انفجرت هنا وهناك؛
يمر بمأزق خطير، وأدت الأحداث فيه إلى تدخل فوقي حاد، وضع حدا لعملية الانتقال
الديمقراطي عبر الاستعانة بالقوى الصلبة في الدولة، لكن المعاينة الموضوعية كشفت
بوضوح أن الأوضاع بعد ذلك زادت سوءا.
في هذه المحطة الحرجة جدا في كلا البلدين، شعرت عموم النخب والمواطنين بأن
الوطن قد شارف على الهشاشة القصوى، فما العمل؟
تصرفت القيادة المصرية بطريقة مغايرة لما يجري في تونس، اختارت أسلوب
الحوار، صحيح هو حوار مشروط ولم يشمل الجميع، وبالأخص الإسلاميين، لكن على الأقل
فتح المجال لبقية الأطراف أن تدلي بدلوها بطريقة من شأنها أن تمتص حالة الاحتقان،
وتعيد "الثقة" ولو بصفة مؤقتة بالدولة ومؤسساتها.
أما في تونس، ورغم الدفعة القوية التي تلقاها الرئيس سعيد من الرئيس المصري
عبد الفتاح السيسي عندما قرر الاستيلاء على الحكم، إلا أنه لا يزال يرفض الحوار
كآلية لتجاوز المشهد الحالي المحتقن، ولا يقر بأهلية النخبة الموجودة لكي تحاوره،
أو يسمح لها بالمشاركة في صنع السياسات. هو لا يتردد في التأكيد أنه وحده الذي
يقرر ما يجب فعله، وهنا يكمن الخلاف الأساسي حاليا بين الحالتين التونسية
والمصرية.
في الحالة الثانية، رغم الطابع العسكري لنظامها إلا أنها أدركت بأنها في
حاجة لمثقفيها ونشطائها وقسم من سياسييها لمساعدتها على مواجهة الأزمة العنيفة
التي تعصف بالبلاد والعباد، في حين أن الحالة الثانية لا يزال المسؤول عنها واثقا بأنه
الأقدر بمفرده على إدارة الشأن العام دون الاستعانة بأي طرف مهما علا شأنه واتسع
حجمه، بما في ذلك المؤسسات الدولية المتحكمة بالاقتصاد والسياسات الدولية، فهو
يعتقد بأن تونس على يديه تصنع التاريخ من جديد. لهذا قد تجد مصر طريقها مهما تعثرت
خطواتها، فهي تملك القدرة لتقف من جديد على قدميها، وإن بعد حين.
أما في تونس، فالخسائر كبيرة والمراجعات التي يجب القيام بها ضخمة ومطلوبة
من الجميع، وكلما تقدمت عقارب الساعة ازدادت الأوضاع تعقيدا، وتبين أن جميع
المؤسسات في حاجة عاجلة للإصلاح الهيكلي والعميق.
صحيح أن الرئيس سعيد يحتقر النخبة، ويتعمد إهانتها ولا يثق فيها، لكن في
المقابل أظهرت النخبة عمليا كم هي محدودة، وعاجزة، ومتخاذلة، وفاقدة للوزن، ولا
تحمل مشروعا مستقبليا للبلاد والعباد. في هذه المسألة بالذات يستوي الجميع، اليمين
واليسار. لا أمل في أحد لكي ينهض بتونس المنكوبة، الجميع مرضى، وإصاباتهم ليست
بسيطة، وإعاقاتهم شديدة، مارسوا بتفاوت كل فنون الهجاء والسب والكذب والقذف،
وتبادلوا الإقصاء والحقد، ومكّنوا السلطة من رقابهم ورقاب الناس. لهذا؛ يقف العاقل
هذه الأيام حيرانا، وهو يفكر في صيغة ما يمكن أن تزيل هذه الغمة، فيظهر أمامه
المشهد قاتما ومخيفا.
هل يتوقف الرئيس سعيد قليلا عن عملية الهدم ليلقي نظرة على حجم الركام الذي
وراءه، ويفعل شيئا شبيها بما يحصل حاليا في مصر؟ فمبادرة اتحاد الشغل لا تزال
معروضة للاستعمال، وهناك قبول لدى معظم مكوناتها بتعديلها وتقليص أجزاء منها،
ومن ثم يمكن للرئيس أن ينفخ فيها، ويجعل منها منطلقا لحوار لن يشمل الجميع،
ولكنه على الأقل يعيد للسياسة بعض الحياة والفعالية، بعد أن أشرفت على الموت.
الأمل في ذلك ضعيف، خاصة وهناك من هو مجند سياسيا وإعلاميا من أجل إجهاض كل
دعوة ترمي إلى تفعيل الحوار بين رئاسة الجمهورية والمعارضة، بل بين الرئيس
والمجتمع المدني، مستعينين في ذلك بالمؤسسات الصلبة الحامية للدولة. هم يدفعون
بالبلاد نحو التقدم يوما بعد يوم نحو التصحر الكامل، والبقية عاجزون ومذهولون.