«أؤكد على حضراتكم جميعا ما صرحت به من قبل بأن الاختلاف في الرأي لا يفسد للوطن قضية، بل أؤكد لكم أن حجم التنوع والاختلاف في الرؤى والأطروحات يعزز من كفاءة المخرجات التي أنتظرها من جمعكم الكريم، المتنوع الجامع لكافة مكونات المجتمع المصري».
العبارة السابقة ليست كلمات
أحد قادة أحزاب المعارضة في
مصر، ولكنها للرئيس عبدالفتاح
السيسي شخصيا، وجاءت في
كلمته المسجلة في الجلسة الافتتاحية للحوار الوطني الذي انعقد عصر يوم الأربعاء الماضي
في قاعة نفرتيتي بأرض المعارض بمدينة نصر.
وإذا كان الرئيس شخصيا هو من يقول ذلك، فمن الطبيعي أن
نؤمن بهذا المفهوم ونطبقه عمليا في إطار القانون والدستور والوصول إلى الهدف
المبتغى وهو الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة.
كلمة الرئيس في يوم الافتتاح كانت قوية وتصب في فكرة
أهمية التنوع، وأن الرئيس تابع وسيتابع مجريات الحوار الوطني بل وسيحضر بعض
الجلسات الختامية، التي سترفع إليه توصيات المتحاورين.
ومن خلال تشرفي بعضوية مجلس أمناء الحوار الوطني، فإنه
وخلال ٢٣ جلسة رسمية وعشرات اللقاءات غير الرسمية طوال عام كامل منذ إطلاق الرئيس
دعوته للحوار الوطني في ٢٦ أبريل ٢٠٢٢، وحتى الجلسة الافتتاحية يوم الأربعاء الماضي،
أستطيع أن أقول بثقة أن هذا العام لم يذهب سدى كما تصور البعض، لأنه لولا هذا
الجهد الدؤوب والصعب، ما كان يمكن الوصول إلى مشهد قاعة «نفرتيتي» وهو أمر سوف
أتناوله في مقال منفصل لاحقا.
لكن ما قصدته في هذه الجزئية أن جهد العام الماضي بأكمله
في اجتماعات مجلس الأمناء كان قائما على فكرة جوهرية وأساسية لا غنى عنها وهي
«التنوع». فحينما نريد ونستهدف حوارا جادا حقيقيا فإنه يستحيل أن تجري هذا الحوار
مع قوى وأحزاب ومنظمات وهيئات قريبة منك أو مؤيدة لك، أو حتى لا تختلف معك في
الأمور الجوهرية. مثل هذه القوى يصعب أن تقنع الشارع والمراقبين بأنها طرف آخر
مختلف حتى لو كانت اللافتة التي ترفعها هي أنها أحزاب معارضة.
التنوع هو أن تتحاور وتتفاوض وتتحدث مع المختلف عنك وليس
المتطابق معك أو حتى المختلف معك شكلا وليس مضمونا. بعبارة واضحة لم يكن متصورا أن
تتحاور الحكومة مع الأحزاب المؤيدة له، أو مع أحزاب تقول عن نفسها إنها معارضة، في
حين أنها دخلت البرلمان بمجلسيه بقوائم مشتركة مع أحزاب الموالاة، وبالتالي يستحيل
أن يصدق الشارع أنها معارضة حتى لو أقسمت على المصحف الشريف تريليون مرة!!
التنوع في مجلس الأمناء هو الذي أعطى مناقشاته ثراءً
واضحا، وحينما يأتي الوقت الذي تنشر فيه نصوص ما دار من مناقشات في مجلس الأمناء في
الجلسات التحضيرية، سوف يكتشف الجميع أنها كانت أقرب ما تكون إلى برلمان شديد
التنوع يطرح الأفكار والآراء بحرية تامة، لكن النقطة المهمة أيضا أن حنكة المنسق
العام ضياء رشوان وقدرته الفذة على إدارة مشهد شديد التعقيد والتشابك هو الذي قاد
إلى هذه النهاية السعيدة المؤقتة.
سنة الحياة أن تكون متنوعة في كل شيء في النباتات
والحيوانات وكل شيء بما فيها البشر، وبالتالي فليس عيبا أن تكون هناك آراء وأفكار
رؤى مختلفة، لكن المهم أن تكون هناك آليات تضمن أن يكون هذا التنوع والثراء في
الآراء في صالح البلد والمجتمع والناس، وليس سببا في الانقسام والتشرذم والفرقة التي
تقود إلى كوارث كما حدث في العديد من البلدان العربية وبعضها قريب منا جدا.
وأظن أن التنوع الذي شاهدناه في قاعة نفرتيتي يوم
الأربعاء الماضي، سيصب في صالح مصر بكل أطيافها ولن يخسر منه إلا المتطرفون
والإرهابيون وكل كارهي مصر واستقرارها وتقدمها.
وهذه النقطة الأخيرة شديدة الأهمية، فالتنوع الحقيقي ليس
مرادفا للفوضى والانقسام والتشرذم، وأن يفعل كل شخص أو حزب أو جهة وتنظيم ما يحلو
له، بل هو تنوع في إطار القانون والدستور والدولة المدنية، محكومة بقواعد صارمة
تجعله يصب في صالح البلد بأكملها وأمثلة ذلك كثيرة في العديد من بلدان العالم التي
استقرت وتقدمت، ولم تعد تخشى شيئا من وجود آراء عديدة متصادمة.
وبالتالي فإن التنوع الحقيقي يحتاج وعيا سياسيا عاليا،
وتطبيق القوانين المختلفة بصرامة. حتى لا يتحول إلى وسيلة للهدم وليس للبناء
والتقدم.
ظني أننا بحاجة ماسة إلى آليات قوية لإدارة هذا التنوع
بحيث يصب في مصلحة البلد بالكامل وليس لصالح فرد أو حزب أو جهة. أخيرا فإن التنوع
الصحيح هو أفضل علاج للعديد من الأمراض الاجتماعية والسياسية وهو الذي يقي البلد
من كل الفيروسات والميكروبات الضارة.
(الشروق المصرية)