لم
تكن
مصر عبر تاريخها الحديث في هذا الوضع من "التقزم" الذي جرّأ
الكثيرين على الانتقاص من هيبتها وكرامتها، ما يحزن في هذا الأمر أنه تم بأيدي
جنرالتها، الذين استولوا على حكمها مستخدمين صندوق الذخيرة بديلا لصندوق
الانتخابات.
منذ
ذلك الانقلاب المشئوم أصبح الجنرالات الغاصبون أسودا على شعبهم؛ يقتلون ويدمرون،
ويعتقلون، ويطاردون كل من يعارض تسلطهم وفسادهم، وبيعهم لمقدرات الوطن، وأرضه
وأصوله، وثرواته البحرية والبرية.. إلخ، وفي نفس الوقت أصبحوا نعامات وديعة أمام
ممالك ومشيخات بَنَتها سواعد وعقول مصرية، وكانت تنفق على فقرائها حتى أزمنة قريبة.
انظر
إلى وضع
السيسي جالسا أمام أي حاكم من كفلائه مطأطئ الرأس، كما لو كان في جلسة
تحقيق بوليسي أو قضائي.. وهل نسينا أن السيسي بدأ عهده بالصعود إلى طائرة ملك
السعودية الراحل عبد الله بن عبد العزيز للترحيب به أثناء مروره بمطار القاهرة،
حيث جلس على كرسي أقل منه حجما، بينما كان من المفترض أن ينزل الملك السعودي إلى
استراحة كبار الزوار في المطار، لكن لماذا يفعل ذلك وهو يشعر أنه ولي نعمته؟! وقد
أراد أن يحدد من البداية قاعدة التعامل معه.
نحن أمام تشكل نظام عربي جديد، انحصرت فيه المنافسة على زعامة العرب بين السعودية والإمارات. تحركت الإمارات سريعا، ولكن جزءا كبيرا من حركتها كان في الاتجاه الخاطئ الذي يكرس وضعها كدولة تابعة للكيان الصهيوني وليس كقائدة لغيرها، وقد نجحت في جر بعض الدول العربية وآخرها السودان إلى حظيرة التطبيع الإبراهيمي مع الكيان الصهيوني. أما حركة السعودية فقد بدت أثقل وأبطأ، لكنها الأكثر فعالية بحكم ما تمتلكه المملكة من مصادر قوة مادية وبشرية وروحية
ظلت
مصر هي الشقيقة الكبرى وهي القائدة للأمة العربية، وإحدى زعيمات أفريقيا والعالم
الإسلامي، وأحد المؤسسين الثلاثة لحركة عدم الانحياز مع الهند ويوغسلافيا السابقة،
وحتى في أحلك الظروف التي مرت بها بعد هزيمة يونيو/ حزيران 1967 ظلت في موقع
القيادة، لم ينازعها قُطر عربي آخر، وظل الأمر كذلك في عهود السادات ومبارك ومرسي،
لكنها
الديون التي أذلت أعناق الرجال.
لم
تكن الديون والمساعدات المالية التي دفعتها السعودية والإمارات لنظام السيسي عقب
انقلابه في 2013 عملا خيريا يبتغي وجه الله، لكنها استهدفت أمرين: أولهما مواجهة
الديمقراطية عموما بما أنتجته من حكم الإخوان، والثاني هو الهيمنة على حكم مصر
وتوجيهه وإدارته بما يحقق مصالحها، ويخدم سياساتها.
نحن
أمام تشكل نظام عربي جديد، انحصرت فيه المنافسة على زعامة العرب بين السعودية
والإمارات. تحركت الإمارات سريعا، ولكن جزءا كبيرا من حركتها كان في الاتجاه
الخاطئ الذي يكرس وضعها كدولة تابعة للكيان الصهيوني وليس كقائدة لغيرها، وقد نجحت
في جر بعض الدول العربية
وآخرها السودان إلى حظيرة التطبيع الإبراهيمي مع الكيان
الصهيوني. أما حركة السعودية فقد بدت أثقل وأبطأ، لكنها الأكثر فعالية بحكم ما
تمتلكه المملكة من مصادر قوة مادية وبشرية وروحية، وها هي تملأ الفراغ الذي تركته
مصر تحت قيادتها الحالية، وتفرض نفسها كشقيقة كبرى للعرب، بما فيهم مصر نفسها.
لقد
نجحت السعودية بأموالها في الحصول على جزيرتي تيران وصنافير اللتين كانتا سببا في
حرب 1967 وما خلفته من دماء ودمار، ولم تفلح تحركات شعبية، ولا وثائق قانونية، ولا
حكم قضائي نهائي في منع عملية التسليم التي كانت استحقاقا مؤجل الدفع.
وفي
الاتحاد الأفريقي الذي شاركت مصر في تأسيسه وظلت أحد أبرز أقطابه، سجل السيسي قدرا
جديدا من التقزيم لمصر بمنحه موافقة مكتوبة لإثيوبيا على بناء سد النهضة (اتفاق
المبادئ 2015) كثمن لعودته إلى الاتحاد الأفريقي الذي جمد عضوية مصر بسبب
الانقلاب، ولم تكن صفقات الرافال والميسترال والغواصات والقاذفات سوى دعاية -تكلفت
المليارات- إلا موجهة إلى الداخل المصري، وليس لردع إثيوبيا، وإقناعها بحقوق مصر
التاريخية في مياه النيل. وقد تكرر التقزيم عند ترسيم الحدود البحرية مع قبرص
واليونان بما حرم مصر من مساحات واسعة من حقوقها الطبيعية.
أحدث
مظاهر التقزيم هو ما يجري على أيدي كفلاء السيسي
الخليجيين، خاصة الإمارات
والسعودية، اللتين أظهرتا تبرمهما من استمرار تقديم الدعم المالي لنظام فاشل يبدو
كمريض السرطان الذي لا يرتوي من نقل أكياس الدم، وبينما مارست الإمارات وصاية
ناعمة عبر تحكمها في العديد من الأبواق الإعلامية في مصر، و
عقدها لقاء لدعم السيسي
وبحضوره، تغيبت عنه كل من الكويت والسعودية، فإن الأخيرة عبرت بشكل سافر عن توقفها
عن تقديم الدعم المالي، مع الاكتفاء بضخ فتات ثروتها لشراء أصول مصرية بينما خصصت
الجزء الأكبر من استثماراتها الخارجية والتي تتجاوز ثلاثة تريليونات دولار لدول
أخرى على رأسها تركيا.
المقالات النارية والشتائم البذيئة من بعض أبواق النظام الإعلامية ضد السعودية ودول الخليج لن تجدي نفعا، ولن تعيد لمصر مكانتها، ومجدها، فالجميع يفهم أنها رقصة ذبيح
باسم
الجمهورية الجديدة سابقَ السيسي الزمن لإطلاق مشروعات عملاقة بدون دراسات جدوى
وفقا لاعترافه، وهو ما ألجأه إلى دوامة القروض الأجنبية التي لامست 160 مليار
دولار والتي تتعثر البلاد في سداد أقساطها وفوائدها، مما اضطره للتسول مجددا من
بعض حلفائه لإنقاذ نظامه، وقد وجد أولئك الحلفاء في ذلك فرصتهم لفرض هيمنتهم
وشروطهم، والإبقاء على عليه في مرحلة "غرغرة" فلا هو بالغريق ولا هو
بالعائم، تجنبا لمخاطر الفشل ومخاطر القوة أيضا.
المقالات
النارية والشتائم البذيئة
من بعض أبواق النظام الإعلامية
ضد السعودية ودول الخليج
لن تجدي نفعا، ولن تعيد لمصر مكانتها، ومجدها، فالجميع يفهم أنها رقصة ذبيح، ونفخة
كدابة لمتسول بلطجي على طريقة "حسنة وأنا سيدك".
الحل
الوحيد الذي يعيد لمصر هيبتها وكرامتها، ويحسن معيشة أبنائها، ويطور اقتصادها هو
رحيل هذا النظام، وعودة المسار الديمقراطي ليختار الشعب من يحكمه، ومن يعيد لمصر
هيبتها، ويعيد للاقتصاد حيويته، ومن يستطيع إسقاط كل تلك الديون الفاسدة.
twitter.com/kotbelaraby