أذكر
أن أحد الحكماء قال إن العرب جاءتهم الفرصة مرتين لتكون لهم مكانة متميزة في
التاريخ الإنساني، الأولى حين نزل القرآن الكريم بلغتهم.. والثانية حين ظهر
البترول بأرضهم.. الفرصة الأولى باقية ما بقيت الحياة على الأرض واستمر فيها
البشر، قد تكون الفرصة الثانية على وشك التلاشي إلا قليلا، لكن ظهر منا وفينا
وبيننا ما أحيا فينا كلام الحكيم.. وكان ما رآه البشر في
قطر الأيام القليلة
الماضية.
نعمة
العقل من أخص نعم الله على الإنسان.. وفريضة التفكير في القرآن الكريم تشمل العقل
الإنساني بكل ما احتواه العقل من صفات وخصائص، كما حدثنا الأستاذ العقاد رحمه الله
(ت: 1964م) عن العقل الوازع والعقل المدرك والعقل الحكيم والعقل الرشيد.. في كتابه
المهم "التفكير فريضة إسلامية".. وأضاف: لا يذكر العقل عرضا مقتضبا، بل
يذكره مقصودا مفصلا على نحو لا نظير له.
لكن
الشيء اللافت للنظر فعلا أن "العقل" لم يُذكر في القرآن لفظا مجردا مرة
واحدة.. كل ذكره كان مصحوبا بـ"عمليات عقلية".. وهي معلومة لكل من طالع
كتاب الله العزيز.. نحن إذن أمام ما يدعونا إلى تمثل ما يمكن تسميته "العقل العملي"
أي تطبيق وتوظيف الأفكار على الأرض وبين الناس.. لن يأمر العقل إلا بخير ولن يشير إلا
لمكرمة.. وعليه فما سيكون من تحقق لعطايا العقل على الواقع هو شيء عظيم.
كل ما رأيناه في ترتيبات وتنظيم بطولة "كأس العالم" من افتتاحه يوم 20 تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي إلى الآن، هو مما يوصف بعطايا العقل العملي، وكان أهم تلك العطايا وأبرزها وضوحا هو "التقاط الفرصة". والتنبه إلى الفرصة أصلا هو أحد سمات العقل الكبرى.. والفرصة جاءت، وفي وقتها الصحيح تماما
كل ما
رأيناه في ترتيبات وتنظيم بطولة "
كأس العالم" من
افتتاحه يوم 20 تشرين
الثاني/ نوفمبر الماضي إلى الآن، هو مما يوصف بعطايا العقل العملي، وكان أهم تلك
العطايا وأبرزها وضوحا هو "التقاط الفرصة". والتنبه إلى الفرصة أصلا هو أحد
سمات العقل الكبرى.. والفرصة جاءت، وفي وقتها الصحيح تماما. إنها الإعلان عن وجه أمتنا
وحضارتنا صحيحا صريحا.. واستنفارا
لشخصيتها العربية الخالصة.. "صحيحا" باستقامة
الفهم والفكر والعمل، بلا تطرف ولا طغيان في أي تطبيق للسمات الثلاث.. ونحن أصلا مأمورون
بذلك اعتقادا وتسليما وعملا، كما جاء في الآية الكريمة "فاستقم كما أمرت..."
(هود: 112) و"صريحا" باعتزاز وصلابة وحكمة بلا تعالى ولا مداهنة ولا
تهاون.. ونحن أيضا مأمورون بهذا..
* * *
نحن
أمام "عالم" حائر فقد القدرة على إنتاج الأفكار بعد أن انهارت يقينياته القديمة،
وهذه الحيرة وهذا الانهيار يختفي تحت مظاهر خداعة من الرفاهية والتكنولوجيا.. كما
قال لنا المفكر والمؤرخ الإنجليزي إيريك هوبساوم (ت: 2012م) في كتابه "عصر
الإمبراطورية" ترجمة أ. فايز الصباغ": "إن ما يتجلى في العالم
الغربي من مظاهر التوسع الاقتصادي والتقدم العلمي والتقني والارتقاء وشيوع السلام،
إنما يخفي انهيار الحقائق الفكرية واليقينية القديمة التي بشر بها وأكدها المفكرون
والفنانون والعلماء والمبدعون بمغامراتهم الاستكشافية في أصقاع العقل البشري
وأعماق النفس الإنسانية..".
* * *
نحن
على يقين بأن "الإنسان" في هذا الوقت من عمر الحياة على الأرض يحتاج إلينا..
يحتاج إلى رسالتنا التي قدر الله لنا حملها إلى الناس ما كانت هذه الحياة كما جاءت
الآية الكريمة (110) في سورة آل عمران.. لاستعادة الإنسان لإنسانيته الكاملة،
ومكانته في الحياة والكون.. يحتاج إلينا فردا وجمعا.. ويحول بيننا وبين ذلك الكثير
من الحوائل والموانع، ليس فقط أنهم يريدونا نسخة منهم، على ما هم عليه فنكون سواء،
كما أخبرنا القران الكري في الآية (89) من سورة النساء، في وصف دقيق للغاية
للأعماق الخبيثة في النفس الإنسانية!! ولكن لأن أسياد البشرية (بتعبير الفيلسوف الاقتصادي
الشهير أدم سميث ت: 1790م) يمنعون ذلك، وسيستمرون في منعه لاستمرار مصالحهم في تحجيم
وتحديد وإبعاد ما هو "عقلي" في الإنسان وتوسيع وتجديد وتنويع ما هو "غريزي".
* * *
الافتتاح
كان
بتلاوة آيات من القرآن الكريم موجهه لكل البشر في كل الأمكنة والأزمان.. (الآية
13 من سورة الحجرات).. واختتمت بكلمات من الأمير يدعو فيها للتسامح والتواصل
الإنساني الحضاري.
اختيار
الآية الكريمة كان موفقا للغاية.. ونحن نعلم أن
الحضارة الأوروبية تعتبر نفسها
امتدادا للحضارة الإغريقية متخطية الدور الأعظم للحضارة الإسلامية والتعمية عليه
باسم القرون الوسطى! ثم قامت باختراع "شرق" يتسم بسمات مضادة لسماته "الغرب"!..
كما قال لنا العلامة إدوارد سعيد (ت: 2003م) في كتابه المهم "الاستشراق".
فجاءت
الآيات تقول بأعلى وأعمق ما يكون القول، أن معيار التميز بين البشر لا علاقة له
إلا بالفكر والأخلاق.. وأن التنوع بين البشر حقيقة "عملية" بقدر ما هو
حقيقة "واقعية".. وهي حقيقة حية متفاعلة، ينتج عنها "التعارف"،
أهم ثمرات وغايات الوجود الإنساني على الأرض (وهي أصلا كثيرة بالفعل..).
على
أن الآية الكريمة بدأت بإقرار أحد أكثر الحقائق بداهة في وعى الإنسان بنفسه، وهي
حقيقة الزوجين.. النوع (الذكر والأنثى) كون الأشياء
كلها خلقها الله زوجين كما جاء في الآية (49) من سورة الذاريات.. تأكيدا لمعنى "الغائية" و"المراد" و"القصد".
فليس هناك ما هو عبث أو عدم.. هناك دائما أبعاد عميقة وغايات بعيدة وهو ما يؤكده
العلم كل يوم إن لم يكن كل ساعة وثانية.. وكان رائعا كما أشرنا من منظمي الحفل
الإشارة القوية اللامعة إلى تلك الحقيقة الخالدة والتي أتت بنا شهودا عليها
فسمعناها ووعيناها وبلغناها.. وها هو العالم كله في تلك الفرصة الرائعة يسمعها
تنطق باسم الله للإنسان شهادة على خلق الإنسان.. وهو ما لا يمكن أن ينكره كل
مولود، غادر بطن أمه وجاء إلى الوجود.
* * *
وإلى
الآن لا يدري أحد ما على وجه الدقة حقيقة المطالبة اللحوحة الدؤوبة التي لا تنقطع
بموضوع الانحراف عن هذه الطبيعة.. وما الغرض من تعميمها ونشرها وأخذها على محمل
الجدية بكل هذه المهابة التافهة..؟ لكن
الموقف التنظيمي في هذا الجانب كان به من
الحزم والرقي ما يفخر به كل "إنسان" في الحقيقة..
الذين استبدت بهم سوداوية حقودة.. ولم يستطيعوا مغادرة أدمغتهم الضيقة ولا أفكارهم البالية، بتعبير عمنا المؤرخ الإنجليزي توماس كارلايل (ت/1881م).. منكرين على البلد الطيب أن ينطق باسم حضارته وثقافته في العالمين وهم ضيوف عليه.. ذلك أن كل ما رأيناه في حفل الافتتاح وأجواء التنظيم العامة، كان طبيعيا بل ومعروفا، أن يشير كل ما فيه إلى حضارة وثقافة البلد المضيف
* * *
الحضور
الفلسطيني الذي تخلل تقريبا كل ما يمكن الحضور فيه بلا تكلف ولا ادعاء؛ كان أحد
الإقرارات الكبرى بما هو ممكن وما هو غير ممكن في مسألة الصراع العربي الإسرائيلي..
قضية كل عربي ومسلم في كل وقت ومكان، ليس رفضا لليهود الذين كما قال صادقا وزير
الخارجية الإسرائيلي الأسبق أبا آيبان (ت: 2002) في كتاب "فصول من مذكرات أبا
إيبان" (صبحي عمر/ عمان): لم يعرف اليهود التسامح في أغلب تاريخهم البعيد
والقريب إلا وقت الحضارة الإسلامية، والآن في الولايات المتحدة الأمريكية! وهذا
صحيح تماما.. ولكننا نرفضهم مغتصبين لأراضينا وبيوتنا وأقصانا، بحجج كذوبة تحمل
داخلها تربصا تاريخيا بنا من قبل الغرب الاستعماري.
* * *
لكن "الأسف"
يأبى إلا أن يكون حاضرا دائما في المشاهد العظيمة ليُسكب سكبا على رؤوس التافهين
الذين استبدت بهم سوداوية حقودة.. ولم يستطيعوا مغادرة أدمغتهم الضيقة ولا أفكارهم
البالية، بتعبير عمنا المؤرخ الإنجليزي توماس كارلايل (ت/1881م).. منكرين على
البلد الطيب أن ينطق باسم حضارته وثقافته في العالمين وهم ضيوف عليه.. ذلك أن كل ما
رأيناه في حفل الافتتاح وأجواء التنظيم العامة، كان طبيعيا بل ومعروفا، أن يشير كل
ما فيه إلى حضارة وثقافة البلد المضيف.. تنطلق الرسالة الحضارية بكل محتواها
ويتلقاها من يتلقاها كما يحلو له أن يتلقاها.. بلا إكراه ولا تزييف ولا مخاتلة..
وليس في ذلك إلا التاريخ والثقافة والتنوع.
شكرا
للعقل العملي الكبير جدا.. الذي سعى وعمل وقدم للدنيا في أكثر أوقاتها حرجا، تلك
الرسالة السريعة الصحيحة الصريحة عن حضارتنا وأمتنا. وهي بالفعل الرسالة فائقة الإعداد..
فائقة التنظيم.. فائقة الإخراج.
twitter.com/helhamamy