قضايا وآراء

سوريا والغرب ونظرية "المُدان تحت الطلب"!

"يتوافدون تباعا على دمشق ليعطوا دروسا عن احترام حقوق الأقليات وحقوق المرأة وحق شرب الكحول"- سانا
يقولون إن بعض الحقائق تكون زائفة، بقدر ما تدعى واقعيتها، وهذا واضح ومفهوم فيما نراه الآن في تعامل الغرب مع سوريا الجديدة، و"الحقيقة" التي يدعيها الغرب ويجاهر بالحديث عنها في تعامله، بعد نصف قرن وأكثر من الانتهاك المنظم والممنهج والمسموع والمرئي لكل حقوق البشر: صغارا وكبارا نساء ورجالا، مؤمنين وغير مؤمنين.

هذه الحقيقة تبدو زائفة تماما، بقدر ما يكذبون ويدعون أنها واقعية.. ففي كل وقت يثبت لنا الغرب أن لديه عقدة معقودة بأواصر مغلقة مع الإسلام. البعض يقول إن عقدة هذا الصراع ليست مع الإسلام ذاته، ولكن مع "فكر النهضة" الذي تحمله تيارات النهضة والإصلاح، في حركة المجتمعات بالإسلام.

* * *

أيا ما كان الأمر، فالموضع "كلٌ.. لا يتجزأ"، ففكر النهضة يحمله إنسان النهضة، وإنسان النهضة تكونت أفكاره وتصوراته، عن نفسه وعن الوجود من حوله عبر الإسلام. فإما أن يكون هذا الإنسان بلا أفكار، ولا تصورات، ينطلق منها في خطواته نحو النهضة والإصلاح، وعليه أن يستعير أفكار الآخرين، أو أن تلك الأفكار تتعارض مع رؤية الغرب لنفسه، ولنا في الشرق.. وهنا سيكون المحك.
ها هو الغرب الآن ينظر إلى سوريا بنفس النظرة المتهافتة، الضيقة، المضحكة في الحقيقة.. وسنرى أن كل ما يصدر عنهم في الغرب (إعلام وديبلوماسية، كطلائع أولى!!) تجاه التشكل الجديد الذي يحدث الآن، في أهم ضلع من ضلوع رباعية الشام (سوريا لبنان الأردن فلسطين).. يتراوح ما بين الحيرة والاضطراب واللؤم الخبيث

هذا هو الواقع الذي يثبته الغرب كل يوم، من يوم أن عرّف نفسه كمركز للوجود، وعرّف الآخر من خلال نفسه (نحن وغيرنا)، لا من خلال ذات الآخر، ووجوده الذي يمثله، بتاريخه وحضارته الممتدة، والأهم: المغايرة لأفكار الغرب.

* * *

الراحل الكبير د. إدوارد سعيد (ت: 2003م) أغنانا رحمه الله، بما قدمه لنا عبر عمره كله، من دراسة وبحث وجهد، وأثبت أن فكرة "الاستشراق" كلها قائمة على تصور استعماري رأسمالي إمبريالي قُح، ليتكون لديهم كمفكرين وساسة، صورة عن الشرق الذي يريدونه! لا كما هو موجود في الحقيقة.

الحاصل أن التاريخ تجاوز كل ذلك بشكل أو بآخر.. نعم تم تجاوز كل ذلك بعد "طوفان الأقصى".. والمعنى العميق الكبير الجليل الذي حملته "طوفان الأقصى" يفوق حرفيا -وبكل القياسات المعروفة في التاريخ- يفوق ما رأيناه ونراه في تلك البقعة الصغيرة (360 كم) في ديار الشرق (غزة)، من يوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023م.

واذا جاز أن نستلهم الحديث الشريف أن "نية المؤمن خير من عمله".. فهي كذلك بالفعل من هذا الطوفان مع بعض الفوارق بالطبع في المعنى..

والله يجازي ويعطى على النوايا الصادقة في عمل ما، أضعاف ما يتوقعه ويقدر عليه، صاحب العمل هكذا يقول العوام في قرانا وبلداتنا ونجوعنا الصغيرة في عالم الإسلام..

* * *

هو بالفعل "تاريخ جديد" تماما للشرق الأوسط كما قال الكثيرون المفكرين والساسة، وكل ينظر من زاوية نظره، حين قال.

لكن الواقع هو أن هذا "الصراع الكبير" مع الغرب، يأخذ الآن منحى جديدا تماما، وسنلحظ أنها المرة الأولى تقريبا خلال القرون الثلاثة الأخيرة التي يقوم فيها الشرق بالمبادأة والإقدام، في تحديد محددات ومسارات جديدة لهذا الصراع التاريخي الطويل..

وهو ما سنلاحظه بقوة في "التهافت المخزي" الذي يتحدث به الغرب، في وصف ما يحدث ويجرى رغما عنه.. وما يشكل ويتشكل بالفعل، من أثر التداعي الطبيعي للحركة في مسار التاريخ بسنن وقوانين التاريخ، فهما وفعلا، بدءا من تهافت السردية، وسقوطها سقوطا مروعا في غزة.. مرورا بمسألة الإنسانية والأخلاق، والعبء الحضاري القديم الذي يحمله الغرب على ظهره! وكل هذه الهرطقات الزائفة الكذوبة، وانتهاء بموقفه اللئيم من سوريا.

* * *

ها هو الغرب الآن ينظر إلى سوريا بنفس النظرة المتهافتة، الضيقة، المضحكة في الحقيقة.. وسنرى أن كل ما يصدر عنهم في الغرب (إعلام وديبلوماسية، كطلائع أولى!!) تجاه التشكل الجديد الذي يحدث الآن، في أهم ضلع من ضلوع رباعية الشام (سوريا لبنان الأردن فلسطين).. يتراوح ما بين الحيرة والاضطراب واللؤم الخبيث..

لنا أن نتذكر إن كنا نسينا، أن الغرب يعلم كل شيء عن ما كان يحدث في سوريا منذ الخروج الاستعماري في 17 نيسان/ أبريل 1946 م، مرورا بكل الانقلابات: من انقلاب آذار/ مارس 1949م وما تلاه من انقلابات (11 انقلابا ومحاولة) حتى أخطر الانقلابات على الإطلاق 1970م..

* * *

وخطورة هذا الانقلاب بالذات، ليست فقط في مكونه الطائفي القاتل، ولكن في ابتعاده التاريخي والحضاري عن أهم مكونات سوريا (العروبة والإسلام)، والذي للطرافة كان أكثر الأنظمة العربية الرسمية تحدثا عنها!

ويكفي تأكيدا لذلك ما نقلته وكالة الأنباء الروسية "تاس" من أن بشار الأسد، زود إسرائيل بإحداثيات الأهداف العسكرية في بلاده قبل مغادرته لـ"ضمان سلامته"، سلامته أيها السادة المخاتلون، كانت تضمنها روسيا وإيران وتركيا كما علمنا بعد ذلك..

وصياغة الخبر كذلك ليخفف عنه تمام وكمال عمالته وخيانته هو وأسرته القديمة للأمة، من تاريخ التاريخ، ليس فقط كرأس لنظام حَكم بهذا التوجه نصف قرن، ولكن كجندي مخلص لقادته الذين لا نعلمهم، أيا ما كان موقعهم في كوكب الأرض.

فهم بالتأكيد ليسوا فقط في دولة إسرائيل، إذا مددنا الخط الاستعماري على استقامته من نقطة بدايته، كما قال لنا المؤرخ اليهودي آفي شلايم (79 سنة) في مذكراته التي نشرها قبل طوفان الأقصى! (عوالم ثلاث/ مذكرات يهودي عربي) قال لنا الرجل المحترم: إسرائيل مرتبطة بحبل سُرىّ بالاستعمار الأوروبي.

طريقة الاستخفاف بعقول الناس، وتقديم مبررات زائفة لأفعال مزرية، لم تعد مقبولة، وأصبحت مفضوحة.

* * *

دعونا نختم بهذا القصة المثيرة التي حدثت وقائعها في أوائل الألفية (2002م)، حين انتخبت ألبانيا المسلمة رئيسا مسيحيا: الفريد مويسيو (95 سنة الآن)، بعد أن كان العُرف السياسى أن يكون الرئيس مسلما ( 80 في المئة من الشعب مسلمون)، ورغم أن مجيء الرجل شكل من أشكال التسامح الديني بالمفهوم الغربي، إلا أنه في عام 2005م، دُعي لإلقاء محاضرة في جامعة أوكسفورد حول التسامح الديني لدى الشعب الألباني.. ماذا قال في هذه المحاضرة؟ قال إن كل الألبان "مسيحيون تحت الإسلام السطحي" الذي استمر 5 قرون، لدينا 15 قرنا من المسيحية، الإسلام دين غير أصيل، ووافد مع الأتراك، ولم يتحول إلى دين متوطن"!

ثقافة "المُدان تحت الطلب" التي عانت منها كل تيارات الإصلاح الإسلامية طويلا، ولا تزال، خاصة كل من رأى أهمية الاستعانة بأدوات "الدولة الحديثة" في تسريع خطوات "الإصلاح والنهضة".. لا بد أن تُقابَل بهجوم مماثل على من يتطاول ويدين.. هجوم من قلب إخفاقات تجاربهم التاريخية، في التعامل مع ما يتهموننا به
هكذا تحدث الرجل الذي احتفي الغرب بما قاله! ففي السنة نفسها وفي نفس الشهر الذي ألقى فيه محاضرته، كان التقرير السنوي الأمريكي عن الحريات الدينية، يتضمن إشادة بالتسامح الديني في ألبانيا، وفي الشهر نفسه أيضا، قام مركز دراسة السياسات الأوروبية (يوربيان بوليسى سنتر- EPC) بنشر تقرير عنوانه "دور مسلمي البلقان في بناء إسلام أوروبي"!! لأن الأغلبية المسلمة باسم العلمانية انتخبت رئيسا مسيحيا/ كاثوليكيا، ولكنه (يا للأسف!!) نسف أسس العلمانية، واتهم الأغلبية التي أتت به!! واعتبرهم وافدين، بعد قرون من الحياة في وطنهم، الذي لم يعرفوا غيره، ميلادا وحياة وتزاوجا واندماجا ومماتا.

* * *

أتمنى أن يقوم أحد مساعدي أحمد الشرع بتقديم هذه "المحاضرة" التي رحبت بها أمريكا وأوروبا وقتها؛ إلى السادة الذين يتوافدون تباعا على دمشق ليعطوا دروسا عن احترام حقوق الأقليات وحقوق المرأة وحق "شرب الكحول"!.. كما قال مذيع الـ"بي بي سي" للشرع.

* * *

ثقافة "المُدان تحت الطلب" التي عانت منها كل تيارات الإصلاح الإسلامية طويلا، ولا تزال، خاصة كل من رأى أهمية الاستعانة بأدوات "الدولة الحديثة" في تسريع خطوات "الإصلاح والنهضة".. لا بد أن تُقابَل بهجوم مماثل على من يتطاول ويدين.. هجوم من قلب إخفاقات تجاربهم التاريخية، في التعامل مع ما يتهموننا به.

x.com/helhamamy